التعاون يواصل التعثر في «دوري روشن» بالتعادل مع الخلود    موسم للتشجير الوطني بنجران    المملكة تعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف بالسودان    30 جهة تشارك في المنتدى الحضري العالمي بالقاهرة    أودية ومتنزهات برية    مخالفو الإقامة الأكثر في قائمة المضبوطين    بالإجماع.. إعادة انتخاب عبدالله كامل رئيساً لإدارة مجلس «عكاظ» ل 5 سنوات    ميقاتي يتابع قضية اختطاف مواطن لبناني    حين تصبح الثقافة إنساناً    جدة: القبض على 5 لترويجهم 77,080 قرص «أمفيتامين» و9,100 قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    "فيفا" ينهي تقييمه لملف ترشح المملكة لإستضافة مونديال 2034    فرع الصحة بجازان ينظم مبادرة "مجتمع صحي واعي" في صبيا    وزير الإعلام يرعى ملتقى المسؤولية المجتمعية الثاني في 20 نوفمبر    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    المملكة تُعلن عن اكتشاف أكبر موقع تعشيش للسلاحف البحرية في البحر الأحمر    فان نيستلروي: يجب أن نكون وحدة واحدة لنحقق الفوز على تشيلسي    257,789 طالبا وطالبة في اختبارات نهاية الفصل الدراسي الأول بتعليم جازان    الجوف تكتسي بالبياض إثر بردية كثيفة    الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    دبي.. رسالة «واتساب» تقود امرأة إلى المحاكمة    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    حدث بارز لعشاق السيارات وعالم المحركات، المعرض الدولي للسيارات    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تهويمات حاج
نشر في البلاد يوم 08 - 01 - 2009


(1)
** هذه جدة بأنوارها المشعة. صوت الملبين من حوله في الطائرة يشعره برهبة اللحظة. شد "الإحرام" على كتفه راح يحدق بنظره من خلف الزجاج لهذه الأنوار من تحته كأنها "فرشة" متلألئة. بدت حركة السيارات في الشوارع تتضح مع اقتراب الطائرة من الأرض.. يا قصر المسافات. تذكر أول مرة يركب فيها طائرة كان ذلك يوما بعيدًا جدًا. كانت دعوات أمه التي لم تكن تتصور بعده عنها وفي هذا – الصندوق – الطائرة لا ينساها. كانت ليلة سفره متعلقة به لا تريده أن يسافر خوفا من المجهول. ضحك في نفسه وهو يتذكرها الآن. لقد أصبح استخدام الطائرة من أبسط الأشياء.
تنبه من سرحانه بوقع عجلات الطائرة على الأرض وتكبير الحجاج يتعالى. راح يكبر هو الآخر. تلبسه إحساس غامر بالرهبة هذه أول مرة يصل فيها إلى هذه الديار. أول مرة تكتحل عيناه بهذه الأرض. أخذ مكانه في "الطابور" أمامه. نظراته إلى البعيد. الواقف خلفه يدفع به إلى الأمام. يتقبل منه ذلك في هدوء. وجد نفسه وجها لوجه أمام شاب ابتسم في وجهه شعر بارتياح لا يعرف ما سببه مد إليه جواز سفره. رحب به ختم "الجواز" في لمح البصر. استقبله شاب آخر. ها ياحاج الحمد لله على السلامة.
تمتم ببعض كلمات لم يثنيها كان مأخوذا بما يرى هذه الكتل من الحجاج كيف يتم التصرف معهم.
عجيبون أنتم ياسعوديون. هكذا راح يردد في داخله بعد دقائق كان يركب "الحافلة" تأخذه الى "مكة" مع اقتراب الحافلة يزداد توترا ويزداد رهبة. ياه بعد هذا العمر الطويل تتحقق الأمنية. بدا له الطريق طويلا حتى الوصول الى "مكة" هنا ينطبق ذلك القول ويكون أكثر صحة لا بد من "مكة وإن طال السفر".
(2)
** راحت "الحافلة" تدخل إلى الشوارع المكتظة بالسيارات وبالناس توقفت. هبط مع الهابطين حمل "حقيبته الصغيرة" سريعا ما تخلص منها في سكنه المعد سلفا. الذهاب الى "الكعبة" هو كل ما يشده يريد أن يراها بعينه المجردة يريد أن يمسك بأستارها. هناك عند الملتزم يريد أن يمرغ خديه على جدارها. كان يجري لم يكن يمشي. عند باب السلام توقف يلتقط أنفاسه.
دخلنا باب السلام
غمر قلوبنا السلام
عدد نجوم السما
طاير علينا يطوف
ألوف تتابع ألوف
طائر يهني الضيوف
بالعفو والمرحمة
خطا خطواته السريعة إلى "الكعبة" انحشر في هذه الحشود من الطائفين لم يشعر بالزحام كأن أقدامه ليست على الأرض كان سابحا لا ماشيا حاول الوصول الى لمس "الكعبة" فلم يستطع. حاول أكثر من مرة ولكنه لا يستطيع الوصول كان إصراره عجيبا في آخر مرة تمكن من الوصول أمسك بالستارة بشدة. راح يمرغ وجهه فيها واخضوضبت عيناه بالدموع بعد لحظات. فاق مما هو فيه أحس بارتياح لم يعرفه طوال حياته.
ذهب الى مقام ابراهيم أدى ركعتي الطواف جلس يتأمل هذا – البيت – العتيق انه يراه رأي العين بل أمسك به لتوه. ذهب الى زمزم أراد ان يغتسل بها راح يصب الماء على كل جسمه.
على صخرة الصفا وقف مبتدئا سعيه كان سيلا جارفا أمامه بين الخطين الصفا والمروة بدأ المسير وهو لا يكاد يصدق نفسه انه هنا في هذه الديار.
ذهب الى مسكنه وهو يكاد يطير فرحا كانت ليلة ولا كل الليالي إنها ليلة العمر وغداً الى منى غدا يوم التروية هكذا راح يردد
(3)
** هذا يوم التروية اليوم الذي ذهب فيه قائد هذه الأمة صلوات الله عليه وسلامه إلى منى ليبيت فيها ليلته ومعه جموع "المسلمين" لتروي جمالهم ويتزودوا بالماء فيملأون "قربهم" استعدادا للرحيل من صباح الغد الى "عرفات" الله ليقضوا يومهم هناك في الموقف الحرام. هذا اليوم هو يوم التزود بالماء ليوم التزود الأكبر وأن خير الزاد التقوى.
كان يتخيل ذلك الموكب المهيب و "رغاء الإبل" يشق أذنيه. وتلك الأكتاف المتزاحمة حوله وهو في مقدمتهم ذاكرا مهللا ومكبرا وملبيا في خشوع وسكون وإخبات. وكانوا من حوله كالبدور الزاهية فهذه "حجة" ليست كبقية الحجج القادمة ولم يسبقها إلا حجة العام الماضي العام التاسع للهجرة حيث فرض "الحج" ها هو يقود الحجيج معلمًا إياهم نسكهم وضروريات وأسس حجهم ليكون لهم طريقا أبلج واضحا ومنبرا لا لبس فيه.
كان "المشهد" ذلك كأنه يراه رأى العين. فجأة تنبه الى تدافع هذه الكتل البشرية وهي تتزاحم في الذهاب الى "منى" تخطو على هذه الخطى لتعيش تلك المشاعر الفياضة مترسمة خطى الهادي البشير لتكون اكثر التصاقا بكل معاني الخير وكل سبل الفلاح وهي تؤدي هذا النسك "فلا جدال في الحج" ليكن كما هو ذلك المسلم الذي قطع الفيافي بعد أن ودع الأهل والأحباب لتنعم بهذه الشعيرة. وبهذه الإمكانيات التي وفرت لك لتؤدي مناسكك على خير ما يكون الأداء.
كان سير الحافلات طويلا ومتزاحما يلمح على وجوه هؤلاء السائرين على أقدامهم شغف الذهاب الى "عرفات" كأنهم في رحلة شوق ولهفة لا يشعرون بأي تعب او انهاك أنها رحلة من أمتع الرحلات بحثا عن الأجر والثواب.
(4)
لم ينم "البارحة" كانت كل حواسه "مستيقظة" هذا الصباح بدأ يشرق ضياؤه فراح يلملم ما لديه من اشياء متناثرة حوله. كان الكل بدأ في ترتيب أمتعته هذه الحافلة صوتها ورائحة "العادم" له لذة ما بعدها لذة لا يعرف لماذا غمره هذا الإحساس. يمكن انه لأول مرة يأتي الى هذا المكان هذه "منى" التي عليه ان يرحل منها الى عرفات بدأت الحافلة في التحرك ألصق نظراته بزجاجها راح يتابع تزاحم الحافلات التي تتجه الى مكان واحد هو "عرفات" ياه عرفات:
إلى عرفات الله يا خير زائر
عليك سلام الله في عرفات
ويوم تولي وجهة البيت ناضرًا
وسيم مجالي البشر والقسمات
تذكر ذلك القول الجميل ها هو جبل الرحمة وقد تحول الى بياض تساءل متى وصل هؤلاء الى هذا المكان اعتصر قلبه كأن يدا لا مرئية تقبض عليه اللحظة. خفقاته تتزايد هذا يوم الحج الأكبر. وطأت قدماه الأرض راح يلثمها كأنه في شوق اليها شاكرًا الله على أن بلغه ان يقف هذا الموقف. كانت "الخيمة" المعدة لهم قد امتلأت برفاق الرحلة كان هو في حالة وجد لا يدري بهم. تحلقوا حول ذلك الشيخ الذي راح يدعو الله وهم خلفه يؤمنون كان هو يلتهم كلمات الدعاء التهامًا مع غروب الشمس بدأت الاستعدادات للرحيل الى المشعر الحرام تحركت الحافلة في بطء هذه – الحافلات – متى تصل شاغله السؤال قليلا لكن سرعان ما صرفه ها هو في "مزدلفة" يهبط الحافلة ينقب في الأرض ملتقطا بعض الحصوات. انه يعدها حصوة حصوة. هذه سبع حصوات لذلك الكبير منهم لعنه الله وهذه اثنتان وأربعون لإخوتهن في باقي الأيام. دسها ومضى الى حيث يكون الرفاق.
(5)
هذا التزاحم الذي يراه أمامه جعله أكثر توجسًا يده تقبض على بعض حصوات.. بل هي سبع حصوات عيناه تدوران في محجريهما يريد أن يقرب أكثر لكي يتمكن من إصابة هذا اللعين الذي يرمي رمزه أمامه قبل ان يقتحم هذه المواكب تساءل في نفسه في أسى.
كم مرة رجمته في "داخلي". وهذا الذي يتسرب بكل عنفوانه في دمي. تساءل بمرارة أكثر ألم استطع أن أقهره وأن أطرده من كل مسام جسدي قبل أن أقذفه بهذه الحصوات، دمعت عيناه تمتم ببعض كلمات وهو يشخص بنظره الى السماء. رفع يده إلى أعلى ليقذف بأول حصاة. شعر أنه لا يقف على الأرض كأن رجلاه في الهواء دارت به الأرض لم يشعر بنفسه قابضا على الحصوات في يده . صمت وراح يتحين الفرصة لكي يصل إليه أكثر.
رغم هذا التزاحم لا بد من الوصول إليه ورجمه انتظر قليلا كانت أفواج من "الراجمين" يأتون ويذهب آخرون راقت له المتابعة. يا الله لماذا لو رجموه في داخلهم لتخلصنا من شرور كثيرة وآثاماً كثيرة. تذكر هذه الدماء التي تسيل بفعل هذا "الرجيم" نعم لو رجموه في داخلهم لكفونا هذه الأرواح التي تزهق وهذه الدماء التي تراق.
اعتصره قلبه من جديد. امسك "بالحصوة" قذف بها أحس بارتياح عندما بلغت الهدف راح يوالي الرجم بسبع حصوات. عاد الى "المخيم" تمدد كأنه يرتاح من أثر الجهد الذي بذله هناك أخذه "النوم" ولكنه كان نومًا عميقًا.
(6)
أخذته خطواته إلى البعيد أراد أن يرى بعينيه ما كان يسمع عنه.
أصوات رغاء الإبل يختلط بثغاء الماعز وقف يتأمل تذكر أول يوم شاهد فيه والده وهو يصحبه إلى "حلقة" الأغنام عندما ابتاع "خروفا" أبيض، غافل والده ليمتطي ظهر "الخروف" الذي قفز به عاليا ليجلد به الأرض. ومن يومها حرم أن يمسك خروفا من ظهره ناهيك عن امتطائه فما أصابه من رضوض لا ينساها.
في اليوم التالي بعد صلاة العيد شعر بكل الشماتة في داخله وهو يشاهد "الجزار" يطرحه أرضا والسكين في يده. ففي اللحظة التي راحت المدية تجري على رقبة "الخروف" غطى وجهه بكفيه ومن يومها لم ير خروفا يذبح أمامه.
كانت "المجزرة" مليئة بالجزارين والمفدين فالكل يريد أن يذبح "فديته أولا" وقف ينظر إلى ما يجري أمامه.. خليط الدماء على الأرض ذكرته بالدماء على أرض "العراق و غزة" المسفوحة على ماذا؟ لا يدري.
عاد من حيث أتى تخطى كثيرا من "الذبائح" رائحة الدم تملأ أنفه، أمسك بقطعة "اللحم" التي ناولها له الجزار مغلفة في كيس "نايلون" عليه أن يسير كل هذه المسافة من "المجزرة" إلى المخيم، راح يدور.. ويدور باحثا عن موقعه لا يعرف كل الخيام في شكل واحد وكل الطرقات متشابهة.. أخذ يتحسس الطريق الذي يوصله إلى مقره، لكن لا فائدة، لمح أحد الكشافة تذكر أن لديه "كرتا" عليه عنوان الخيمة أوصله "الكشاف" بعد ساعات من اللف والدوران وجد نفسه في مقره منهكا لا يكاد يقوى على الوقوف.
ارتمى على الأرض، لمح على الطرف الآخر من الخيمة أحد الحجاج وهو "يشوي" بعض اللحم، دفع بالقطعة "اللحم" إلى الجمر الملتهب.
(7)
** هذا اليوم الثالث تشرق عليه الشمس وهو في هذا المكان الضاج بالناس بكل أشكالهم وبكل سحناتهم وبكل لغاتهم وبكل لهجاتهم وبكل ألوانهم أخذته قدماه للتجوال بين هذه الكتل من الناس وبين هذه المخيمات المرصوصة كحبات اللؤلؤ أو كحبات الصدف الأبيض المغسول بماء البحر، توقف تساءل أين هو موقع سوق العرب؟. أو هو شارع العرب بكل ما فيه من زهو الأيام وفرحها عندما كان "الحاج" يأتي إلى هنا وهو غاسل من نفسه كل هموم الدنيا. كان صدى الصوت في داخله ينادي:
هات براد أبو أربعة أسود حلاه بره وواحدة ثلاجة.
ياه.. يا له من نداء تذكر هذا عندما طلب ذلك من "القهوجي" الذي نظر إليه بعين مفتوحة والكمر في وسطه يشد من ظهره الملفوف في فنيلا أبوعسكري وتنسدل على باقي جسمه تلك "الفوطة السمرندى" نظر إليه "القهوجي" بعين مفتوحة كأنه يريد أن يقول له:
اشرب طلبك وورينا عرض كتافك فهذا آخر يوم في هذا المكان ويريد أن يكسب أكثر من الزبائن.
لم يلتفت إليه، راح يتابع حركة الناس من حوله، ويأتيه صوت غناء من طرف الشارع لم يستنكر ذلك فهذه أيام عيد كانت النفوس بسيطة لا تعقيدات وعنعنات.
تنبه إلى صوت صديقه وهو يقول له:
ها.. إلى مكة
رد عليه بصوت خافت إلى مكة.
هذه مكة المكرمة، بكل عفوية المسلم في داخل قلبه الذي يعتصره وهو يحاول أن يلملم أشياءه للرحيل. ألقى نظرة طويلة إلى هذه الجموع التي تحيط بالبيت العتيق وكل واحد منهم في داخله حنين إلى أهله،
ليتذكر الآن أهله، بلده تفاصيل صغيرة كان لا يلتفت إليها قبل أيام الآن تشغل كل تفكيره.
(8)
** أخذته خطاه إلى ذلك السوق القديم. ابتاع منه ما يريد من هدايا، هذا لابنه وتلك لابنته وذا لوالدته التي طالما أكدت عليه أن يدعو لها عند الملتزم بأن يشفيها الله مما تعاني وأن لا يميتها قبل أن "تكتحل" عيناها بتلك الأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. تذكر أنه سوف يغادر بعد ساعات إلى هناك إلى المدينة التي طالما سمع عنها وعن حميميتها.
غادر سريعا إلى سكنه، بعد أن حرص على أن يشتري كمية من الحمص.. والحلاوة اللوزية والزرمباك، وحمام البر.
لملم أشياءه ليسند رأسه على ظهر مقعد الحافلة ليغفو قليلا.
ياه.. هذا الطريق الممتد بسواده الذي تجلده إطارات هذه الحافلة الكبيرة وهؤلاء الذين اكتظت بهم الحافلة صامتون، ود أن يسأل كل واحد منهم بماذا يفكر الآن. كانت أضواء القرى ومحطات الاستراحة على جانبي الطريق تشعره بكثير من الحيوية، أبناؤه وزوجته أمه منزلهم الصغير كل ذلك تشابك في ذهنه.
هدأ كل شيء داخل الحافلة، ليصحو ورفيقه بجانبه يهزه من كتفه، يا حاج لقد وصلنا.
ها.. كم هي كلمة آخاذة "ياحاج" فتح عينيه إذن هذه المدينة الساكنة شعر بسكون غريب يملأ قلبه وبهدوء أكثر يملأ عليه كل تفاصيل نفسه هذه الوجوه هذه الأحياء تذكره ما قرأه ذات يوم:
إذا زرت بعد البيت قبر محمد
وقبلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت من الدمع العيون مهابة
لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثنية
وضاع أريج تحت كل حصاة
أغمض عينيه أخذته هذه "المعاني" المعطرة بأريج الذكرى.
هذا الشارع، ذلك الرجل الذي يمسك بين كفيه مجموعة من الريالات وهو يلعب بها وصوتها في أذنه له رنين، تحسس جيبه ذهب إليه "ليصرف" بعض النقود لديه، لمحه وهو يغطي النقود بقماشة خفيفة ذاهبا إلى المسجد، أخذه المنظر كيف يترك كل هذا هكذا بلا حراسة؟.
(9)
** وقف أمام القبر الشريف.. ذاب في داخله كل شيء. تساءل هل هو في حلم أم في حقيقة أنه هو لا غيره يقف في هذا المكان الذي طالما تمنى أن يراه.
شعر أن كل ما حوله يشده إلى مزيد من الاستغراق تذكر والدته التي كثيرا ما تمنت أن تكون في هذا المكان قبل أن تموت، تخطى أكثر من واحد، كاد يتعثر في ذلك الذي أسند ظهره على أحد أعمدة المسجد مادا قدميه أمامه.. بصعوبة بالغة وجد لنفسه مكانا في الروضة الشريفة، يكاد يذوب حقيقة في داخله، حوله دوي كدوي النحل فهذا يقرأ القرآن وذلك يدعو وصوت شيخ يلقي درسا في مجموعة تحلقت حوله.
صوت المؤذن يشق قلبه، الصفوف المتلاصقة والمتتابعة جعلته يتساءل لماذا نحن ضعفاء وهذه الكثرة الكاثرة التي نحن عليها، طاف بذلك القول:
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصاحب كهف في عميق سبات
بإيمانهم نوران كتاب وسنة
فما بالهم في حالك الظلمات
نعم هذه الكثرة الكاثرة التي نحن عليها. وبهذه الروح التي تجمعنا بهذه الألوان والمشارب، قتل هذا التساؤل في داخله عندما تذكر الحديث الشريف "إنكم غثاء.. كغثاء السيل".
أخذ طريقه بين الصفوف والكتل البشرية المتلاطمة وهو يخرج من المسجد، اختلطت أصوات الباعة بأصوات الزائرين. جموع منهم ذهبوا إلى البقيع، وآخرون يمتطون الحافلات في رحلات إلى الأماكن الأثرية والتاريخية، بهدوء امتطى أحدها، شقت به طرقات المدينة.. هذه العمارات الكبيرة التي يراها أدهشته تمنى لو أنه شاهد تلك الشوارع الضيقة ذات المباني القديمة التي طالما سمع عنها من والده.
(10)
كانت "المساحة" المغطاة بهذه الشمسية المتحركة تشعره بالارتياح، أمامه الروضة الشريفة المزدحمة بالمصلين والركع السجود.
جينا على روضة هل من الجنة
فيها الأحبة تنول كل ما تتمنى
ساقته قدماه إلى خارج المسجد حركة الناس حول الحرم متصاعدة فهذا بائع للسبح وآخر للذهب وثالث يبيع أنواعًا من "الزرابي" توقف أمام بائع "الفصوص" هذا يدر اللبن وهذا عن العين، ضحك في داخله وهو يستمع إلى محاولة البائع في إقناعه بما يقول وقف أمامه. هذه مجموعة من "السبح" مد يده إلى أشكال "الخواتم" استرعى انتباهه أحدها أدخله في "خنصره" راح يقلب كفه وهو يتملاه، أراد أن ينزعه ليعيده مكانه.. لكن البائع الفطن أقسم عليه أن لا ينزعه أنه هدية منه إليه. حاول ثنيه عما اعتزمه عليه فشلت كل محاولاته.
"صحيح إنكم يا أهل المدينة" شطار. هكذا ردد لكنه ابتاع عشرة من الخواتم ومثلها من السبح، تخطى مجموعات من الحجاج يفترشون الأرض أمام باب السلام، لغاتهم مختلفة ولهجاتهم أكثر اختلافا، تساءل ماذا يجمعهم في هذا المكان وهم في هذا التفاوت في السحنات واللغات؟ ابتلع ريقه بصعوبة عندما تذكر الحال الذي عليه المسلمون في أيامهم هذه مع هذه الكثرة الكاثرة منهم.
ذهب إلى مسكنه، تمم على أشيائه.. غدًا زيارة المشاهد التاريخية والأثرية ولابد من النوم المبكر، سعال "الحاج" العجوز النائم بجانبه يزعجه، انتصف الليل والنوم خصمه هذه الليلة، لاحت له صورة أبنائه، أمه، وأصدقائه الذين سوف يطلقون عليه عند عودته لقبًا عزيزًا عليه "يا حاج" سرقه التذكر لم ينتبه إلاَّ على صوت المؤذن لصلاة الفجر.
(11)
** هذا جبل أحد، هذا جبل الرماة.. ياه.. هنا دارت المعركة الشهيرة وهنا كانت أول مخالفة عسكرية في الإسلام لتعلمنا أن المخالفة والاختلاف سبب رئيسي للهزيمة.
أصوات صهيل الخيل وصليل السيوف تملأ أذنه.
شده ذلك المنظر.. أغمض عينيه وهو يقف مكان مصرع حمزة. ها هي تبقر بطنه تلوك كبده، ما هذا!؟ إنه "الحقد" يا له من حقد.
عاودت الحافلة رحيلها، هذا موقع غزوة الأحزاب أو الخندق تلك الفكرة التي نبتت من ذلك الباحث عن الحقيقة "سلمان" الذي أشار إلى حفر ذلك المانع الكبير: ها هو صلوات الله عليه يشارك في الحفر وأصوات ارتجازاتهم تأتيه من البعيد.
بسم الله وبه بدينا
ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا وحبذا دينا
توقف على ذلك الجبل هذا مسجد الفتح دخل إليه أدى ركعتي تحية المسجد امتطى "الحافلة" هذا مسجد القبلتين كان يتابع حركة السيارات والناس من خلف زجاج الحافلة وهي تقطع الطريق من "العناس" مرورا "بالمناخة" صعودًا إلى قباء حيث أول مسجد بني في الإسلام. ترجل من "الحافلة" راح يقلب في بعض المعروضات أمامه على الرصيف. توقف أمام المسجد أصابه شيء كأنه "الارتعاش" أخذ يتلمس مواقع "الخطى" أدى ركعتي تحية المسجد، وانتقل قافلا إلى "الحافلة" وضع جبهته على ظهر المقعد الذي أمامه: أخذته "غفوة" تنبه على صوت رفيقه وهو يقول له: ها.. لقد وصلنا هبط من الحافلة وهو يكاد لا يصدق ما شاهد من مواقع كانت مفصلية في التاريخ.
عاد إلى سكنه وضع رأسه على وسادته وأحلام العودة تسكنه، غدًا الرحيل إلى بلاده وشيء في داخله يمنعه من الرحيل.. لكن هيهات له ذلك.
(12)
** كان ذلك الصباح غير "الصباحات" الأخرى ها هو يودع هذه الأماكن التي سكنت في مسامه، أخذ يرمق الشارع الممتد تحت نظره من خلال النافذة التي يقف عليها، لمح على الطرف الآخر "الحافلة" تقف في شموخ و بعض الرفاق يتحلقون حولها دافعين بحقائبهم إلى أعلاها، مسح شيئا كأنه الدمع انساب من عينيه، كان يقف وأمامه على امتداد نظره – القبة الخضراء – تعلق نظره بها، سرعان ما هبط من الدور الرابع، كان يقفز درجات السلم.
وقف أمام الباب تمتم ببعض الأدعية دخل إلى المسجد: صلى ركعتي تحية المسجد كانت الروضة لا يزال الزحام لم ينته بعد، بصعوبة أخذ يشق طريقه إلى المواجهة الشريفة، وقف أمام القبر الشريف، قال كلامًا كثيرًا في نفسه تحول إلى "القبلة" راح يدعو الله بمزيد من الإيمان والثقة.
عاد إلى مسكنه، أخذ "حقيبته" على كتفه، كاد أن يصطدم بعامود الكهرباء لالتفاته المتكرر إلى الخلف مودعا هذا المسجد الشريف، تناول منه أحد رفاق الرحلة الحقيبة دسها بين بقية الحقائب، لفه سكون غريب وهو على مقعده في الحافلة، كان يتابع حركة الناس في الشارع الذي بدا له طويلا أكثر مما هو عليه في الواقع.
تذكر أمه وأبناءه و "صديقه حسن" الذي لم يفارقه منذ صغرهما، تحسس "كيس النايلون" الموجود تحت قدميه، هذه السبحة "لحسن" انه يحب أن يمسك بها في يده، أغمض عينيه، كان صوت صغيرته يتردد صداه في تجويف صدره "بابا" هات لي هدية، ضحك تذكر شقاوتها وقفزها على أكتافه وهي تشد شعره تحسس رأسه، لا شعر فيه لقد قصه في منى. ابتسم وغفا.
(13)
** كان المطار مليئاً بالمسافرين والقادمين، أخذ مكانه على أحد المقاعد المتناثرة، وهو يتابع ما يدور أمامه من حركة، أصوات الناس تتداخل الكل يريد أن يحصل على كرت صعود الطائرة، يا حاج بالدور كان الصوت ضخما، لا أحد يستمع إليه يا حاج قلنا بالدور.. لا أحد يستمع إليه أبدًا.
شد انتباهه بجسمه الضخم، بدا له شخصية كريكاتورية القميص مفتوح.. والحزام ساقط إلى أسفل وبدى بطنه ظاهرًا بينما ربطة عنقه مشدودة كأنها حبل مشنقة حول رقبته.
أتاه صدى صوت سمعه عند باب البقيع ينشده أولاد صغار.
فاطمة يا فاطمة
فاطمة بنت النبي
خذي كتابك وانزلي
واقري علي صدر النبي
ياه.. بذلك النغم الذي يذوب في داخله، وبجانب ذلك أولئك الذين كانوا يمدون أيديهم صائحين شرابهي.. شرابهي.
لم يفهم ماذا يعنون بذلك لكنه ارتاح عندما عرف ما يقال للهنود.
شرأي أرمي. بهي أي يا أخي.
أخرجه رفيقه من سرحانه عندما قال له مادا إليه بكرت صعود الطائرة، أمسك الكرت، وقف في الصف الطويل أمامه، رائحة العرق مع رائحة التوابل. انفلتت "رائحة" فظيعة وضع يده على أنفه، الصف يتحرك في بطء شديد هكذا بدا له، بعد عناء حسبه طال دخل الطائرة ليواجهه صف آخر، كان يلاحق حركة المطار من خلال النافذة الزجاجية.
أخيرا وصل إلى مقعده وضع "الكيس النايلون" تحت قدميه، ربط الحزام وراح يقرأ ما يحفظ من آيات القرآن الكريم مغمضاً عينيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.