في تفاصيل الهجرة النبوية كما حفظناها منذ طفولتنا المدرسية الكثير مما هو مثير وشائق بالنسبة لمخيلات صغيرة لم تقو بعد على تخيل أي إهاب مقدس يمكن أن يحيط بالأمور فيخرجها أحيانا من دائرة ما نعرفه من منطق دنيوي ضيق. وفي زيارتنا لمدينة النبي الكريم عليه السلام ما يجعلنا نستعيد الكثير من تلك المثيرات الشائقة عن هجرته الخالدة والتي تقاسمتها المعاني ما بين هجرة روحية تمثلها المسلمون المهاجرون قبل هجرة النبي وبعده بترك الكفر بالإله الواحد إلى التوحيد في صورته الأبدية، وأخرى جسدية قاموا بها رجالاً وعلى كل ضامر من مكة إلى يثرب هرباً بدين الفكرة وانتصاراً لها. كان المساء قد حل علينا وما زالت الحافلة تشق طريقها الممهد نحو المدينةالمنورة. عندما سألت من حولي عما تبقى أمامنا من وقت لكي نصل علمت أننا وصلنا فعلاً، وأننا الآن في دائرة تلك المدينة الساحرة بروحانيتها وجاذبيتها الانسانية الشديدة. كانت اللافتات المزروعة على الطرق المختلفة قد بدأت تشير في بعضها الى اتجاه المسجد النبوي.. وجهتنا الأولى/ الأخيرة في هذا المكان. ولأن الحافلة تعرف طريقها جيداً نحو الهدف، فسرعان ما تكاثرت الإشارات وتقاربت الاتجاهات. ووصلنا أخيرا الى الفندق المحدد. لم نكد نلج بوابة الفندق حتى لاحت لنا منارات المسجد العظيم. كان قريبا جدا لدرجة أن بعض من في الحافلة ترك أغراضه فيها واتجه فورا على قدميه نحو المسجد. أنا فضلت أن أتريث قليلا. لا يصح أن أكون في حضرة النبي الكريم من دون أن أتخذ ما هو مسموح لي به من "زينة". هل كان هذا هو السبب حقا؟ لا أدري بالضبط. لكنني أذكر أنني ترددت كثيرا قبل أن أنزل من غرفتي في الفندق متجهة الى باب السلام. هذا الباب هو الأقرب من أبواب المسجد النبوي بالنسبة لمن يأتي راجلا من فندقنا.. ذهبت ماشية بخطوات سريعة جداً وسط مجموعة من الماشين معي. كنت أشعر أنني أعرف المكان جيداً رغم أنها المرة الأولى لي هنا.. هل هي المرة الأولى فعلا؟ لماذا لا اشعر انها كذلك إذاً؟ هذا مكان أعرفه جيدا.. وهؤلاء الناس سبق وان تحدثت معهم كثيرا وطويلا.. لا أدري أين، فقد كانت مخيلتي دائما مسرحا لأحداث حقيقية وغير حقيقية تختلط بشكل لا يمكن فيه فصلها عن بعضها البعض... أتلفت وأنا أمشي بخطواتي السريعة في الليل المضيء؛ حتى المحلات المزروعة على جانبي الطريق شعرت بألفة نحوها ، وكأنني أعرف أهلها مثلا وأعرف محتوياتها تفصيليا. لم أسأل عن الباب ولا عن أي اتجاه .. كنت أعرف طريقي جيدا بمجرد الحدس. وصلت أخيرا.. وقفت عند الباب قليلا، رددت بيني وبين نفسي واحدة من أحب الآيات إلي والتي لم أكن أدخل مكاناً يمكن أن يكون لي فيه امتحان الا وأنا أرددها: "رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا". فهل أنا مقبلة على امتحان ما؟. حرصت أن أدخل بقدمي اليمنى، وأنا أسلم بصوت خافت: السلام عليك يا رسول الله. نبهتني من كانت ترافقني ان السلام على النبي لا يكون الآن بل عندما نصل الى قلب مسجده في رحاب الروضة الشريفة قريبا من حجرته عليه الصلاة والسلام. قلت لها ضاحكة: لا يهم.. سأسلم عليه كلما ولجت بابا مما أمامي من أبواب.. وسيسمعني في كل سلام ، وسيرد عليّ. كان الشعور بالارتياح الآن قد غمرني كلي.. وتذكرت حينها ذلك الشعور الذي نقلته لي والدتي رحمها الله عندما زارت المكان لأول مرة قبل أكثر من عقدين من الزمان. بقيت حكاياتها عن عطر المكان وطمأنينته زاداً للذكريات الدينية في مخيلتي دائما. هل ما أشعر به الآن هي تلك الطمأنينة النبوية التي لم تجدها والدتي وهي تعيش أجواء الحج في رحاب البيت العتيق كما وجدتها في رحاب الروضة النبوية الشريفة؟ لم تكن لتجرؤ على التصريح بذلك الشعور المقارن بين المسجدين بوضوح، لكنها لم تكن لتستطيع أن تخفيه لصالح المسجد النبوي. إحساس فريد من نوعه باتساع المكان أحسست به وأنا أمشي بخطوات قصيرة وبطيئة في صحن المسجد النبوي.. كنت أقابل الوجوه بابتسامة أستبدل بها أي تحية لفظية. احتفظت بكل تحاياي اللفظية للسلام على المصطفى عليه السلام. وكانت الوجوه ذوات السحن المختلفة والبشرات المتباينة الألوان تبادلني الابتسامات بما هو خير واكثر اتساعا منها. "ليس من هنا.. بل من هناك يا حاجة".. "تقدمي أكثر يا حاجة".. يميناً يا حاجة حيث مسجد النساء".. مسجد النساء؟ ماذا ؟ أليس هو مسجدنا أجمعين؟ هل وضع النبي الكريم وهو يشارك ببناء المسجد بيديه بقية المسلمين مسجداً خاصا بنا نحن النساء بجوار مسجده؟ احتدمت في داخلي الأسئلة التي كنت أعرف كل إجاباتها هذه المرة، وأرجعتها لحماستي الشديدة تجاه هذا الموضوع المثير غالبا. لست ضد أن تكون للمرأة خصوصية في المكان بما يناسبها أحياناً لكنني بالتأكيد ضد ما يمكن أن يفضي من تلك الخصوصية الى الاقصاء. واجهت أول ملامح تلك الخصوصية الاقصائية وأنا أخضع لتفتيش دقيق عند بوابة مسجد النساء، فقد انتزعت مني السيدة المفتشة جهاز الهاتف ووضعته في صندوق الامانات بالقرب منها، لكنها احتارت بالكاميرا الصغيرة التي وجدتها في حقيبتي. قالت إنها ممنوعة هنا. فاقترحت عليها أن تضعها مع جهاز الهاتف في صندوق الامانات أيضا، لكنها رفضت بشدة فلا أوامر لديها ولا تعلميات كما قالت بالاحتفاظ بالكاميرات، وبالتالي علي التصرف أنا بها..كأن أودعها لأي رجل يرافقني في الزيارة مثلا. الكاميرا مسموح أن يجول بها الرجل إذاً داخل المسجد النبوي لكنها ممنوعة على المرأة.. لم أكن في طور نقاشات كهذه الآن، فقد احترت بالكاميرا، حتى أنني اقترحت ان أتركها عندها بأي شكل من الأشكال متحملة مسؤولية ضياعها إن ضاعت. رفضت السيدة التي كانت تعاملني بحزم كبير وأدب جم ، فلم يكن أمامي إلا أن وضعتها فوق صندوق صغير يشبه صناديق الاشتراكات الصحفية مثبت أعلى الباب أمام أعين الجميع.. ودخلت. شيعتني بابتسامة حازمة تلك السيدة الحازمة وهي تقول: لست مسؤولة عنها عندما تضيع.. أجبتها بابتسامتي غير الحازمة كما يبدو: لا يهم.. كان آخر همي فعلا ضياع كاميرا صغيرة وأنا أقبل على زيارته عليه الصلاة والسلام..أخيراً (يتبع...)