تعتبر المأكولات والمشروبات والملابس والأدوات جزءاً من ثقافات الشعوب التي يعتمد عليها الأنثروبولوجيون في معرفة خصائص كل شعب فليست مما يعاب أو يستنكر لأن لكل شعب ظروفه وأوضاعه التي جعلته يتكيف معها في كل الحالات حسب مقومات البيئة التي يعيش فيها، فليس في ذلك دليل على الحضارة أو التخلف ولذا فلا يمكن اعتبار شربنا للكوكاكولا وأكلنا للهامبورغر علامة للتقدم الحضاري أو العلمي وإلا لاستلمنا قيادة العالم الأول من خلال مطاعم الماك بورغر التي ضاقت بها شوراعنا!! لكن قد تأتي هذه المأكولات والمشروبات إشارة للانفتاح على الآخر وتأثيره الثقافي، ولذا كان انتشارها في الدول الشيوعية دليلاً مادياً ملموساً على المد الرأسمالي والانحسار الاشتراكي. من هذا الباب نبدأ بما قال تركي بن حميد: إن كان ما ترّث يدينا فعايل يحرم علينا شربة (الشاذلية) والزعفران وحب سمر الجدايل وحط الشحم وسط البيوت الذرية فالشاذلية: من أسماء القهوة العربية المستخدمة في الشعر الشعبي ويبدو نسبة إلى علي بن عمر بن إبراهيم الصوفي الشاذلي أحد متصوفي اليمن(ت 828ه) الذي كان أول من أظهرها وأشهرها وكان يستعين بها على السهر لذكر الله وكان يتخذها من قشر البن، أما أول من صنع القهوة من لب البن فيذكر أنه محمد بن سعيد الذبحاني (ت 875ه) التي وصلت إلى الاستانة عام 962ه بواسطة أحد رجال الشام وإلى فرنسا في عام 1050م ووصلت إلى انكلترا بواسطة بسكاروس الرومي أحد سكان أزمير التركية الذي كان يعمل عند تاجر إنكليزي ثم فتح مقهى في لندن في شارع سنت متشل حسب ما جاء في معجم تيمور الكبير. فتظل القهوة العربية هي الأصل لكل أنواع القهوة حول العالم وما زالت بعضها تحفظ للعرب ذلك الفضل في اسمها فقهوة (الموكا) إنما جاء اسمها من ميناء المخا الذي كانت تصدر منه أجود أنواع القهوة من اليمن إلى دول العالم أجمع. لذلك فإني لا اتفق مع صديقنا العزيز الأديب الأريب أحمد العرفج في رأيه أن القهوة العربية من علامات البداوة!!على اعتبار أن البداوة تخلف حضاري!! وما علم صديقي أن القهوة هي رمز ثقافي عربي اجتاح العالم في إطار التجسير الحضاري بين الأمم! فكيف نعتبر إعادة تصديره لنا بنكهات طفولية لذيذة حضارة وتقدماً بينما يكون طعمه الأصلي عكس ذلك! لن يجعلنا مذاق الحليب والكريمة المخفوقة في الكابتشينو نحتقر قهوتنا المرة التي هي الشهد المصفّى عند عشاقها، قهوتنا التي لا يخالطها إلا كل طيّب زاكٍ وغالي الثمن من الهيل والزعفران والجوز والزباد والعنبر والقرنفل والزنجبيل في حين ذهب غيرنا يخلطها بالسكر والحليب والكاكاو والكريمة بل إن الأيرلنديين بمزاجهم يخلطونها بالكحول!! ويمكن لصديقنا أن يلطف مرارتها الحلوة بألذ مأكول وأكثره بركة لتزداد حلاوة على حلاوة وتفوق البسبوسة والبقلاوة وهو التمر الذي هو (خوي الجنب) الدائم للقهوة حتى قال ابن جعيثن: ترى القهوة بلا قدوع مثل الصلاة بلا سنة إن للقهوة العربية تاريخاً ثقافياً عريقاً وأثنولوجيا خاصة تتمثل في فلسفة الصحراء التي ترتكز على قوانين وأعراف مقدرة ورمزية مزدوجة للكرم والشجاعة من جهة وللثواب والعقاب من جهة أخرى وللاجتماع والفراق من جهة ثالثة، أتمنى من كاتبنا الرائع أن يعيد اكتشاف أسرار قهوتنا لنهدي له قول الذويبي في علوش بن ظويهر: تستاهل الكيف الحمر يا ابن وايل أنت الذي يستاهل الكيف كله وللحديث بقية.