كنتُ من المتابعين لكتابات الدكتور باتريك سيل Patrick Seale، الذي تصفه الصحافة البريطانية بالخبير في الشؤون السورية منذ صدور كتابه: Asad: the struggle for the Middle East لكنني منذ سنة بدأت أضيق ذرعاً بطروحاته وتحليلاته المتعلقة بالوضع في سورية. مقاله الأخير في جريدة الحياة (سورية في مواجهة الدمار الشامل: الجمعة 27/يوليو/2012) أصابني باليأس من عجز السيد سيل عن النظر بموضوعية لربيع دمشق، لا زال السيد سيل أسير مجادلات كتابه المشهور عن حافظ الأسد. للأسف فقد السيد سيل كثيراً من القراء، لأنه أسير طروحات الحرب الباردة، خصوصاً كرهه غير المتناهي لأمريكا وسياستها وأتباعها - كما يقول – مثل بلده بريطانيا. من الصعب على أي سوري يعاني الأمرّين من حكومة فاسدة تحكم من خلال أجهزة الأمن أن يقبل أن مشكلاته بسبب المناخ أو الديموغرافيا، لا بسبب سوء إدارة على رأسها أسرة حولت سورية إلى قطاع خاص لها يبدأ السيد سيل بتحذير الناس من حريق هائل سيصيب الدول الإقليمية المجاورة لسورية وإيران نتيجة تعرضهما لضغوط كبيرة. هذا التحذير هو ما يردده يوميا الإعلام في دمشقوطهران. ثم يواصل السيد سيل أن أسباب ثورة الشعب السوري هي: التفجر السكاني، وموجة الجفاف التي ضربت سورية منذ عام 2006م. ما نتج عنهما نشوء طوابير كثيرة من العاطلين. ومع صحة حدوث السببين، لكن أن تحال أسباب الثورة الشعبية في سورية إلى عوامل مناخية وديموغرافية فمسألةٌ من الصعب قبولها. إذ لم تكن زيادة السكان أو الجفاف في دول أخرى ظروفها مثل سورية تشهد ربيعاً شعبياً واسعاً. من الصعب على أي سوري يعاني الأمرّين من حكومة فاسدة تحكم من خلال أجهزة الأمن أن يقبل أن مشكلاته بسبب المناخ أو الديموغرافيا، لا بسبب سوء إدارة على رأسها أسرة حولت سورية إلى قطاع خاص لها. سبق أن قلت في هذه الجريدة أن الاقتصاد محرك أساسي للثورات، لكنه ليس هو وحده المحرك الأساسي. ما وقع في مدينة درعا في شهر مارس 2011م يُعد بكل المقاييس حدثاً مروعاً، وهو الحدث الذي أشعل فتيل الثورة، ولم يكن الوضع الاقتصادي للسكان المحليين سيئاً. مع العلم أن السيد سيل يقول في مقاله إن الذين وراء الانتفاضة هم شباب المدن العاطلون والنازحون من الأرياف. لكن شباب المدن في دمشق وحلب واللاذقية وحماة لم ينضموا إلى الثورة الشعبية إلاّ في وقت متأخر، ما يبطل دعوى السيد سيل. ويعتذر السيد سيل للقيادة السورية عن تقصيرها في الشأن المحلي بسبب انغماسها في الشأن الخارجي نتيجة تهديدات إسرائيلية تحيط بحماس ولبنان، ويقول أيضا إن سورية واجهت تهديدات أمريكية وإسرائيلية منذ تسلم بشار زمام السلطة من شأنها إسقاط (محور الممانعة) الذي يضم طهرانودمشق وحزب الله، والذي تجرأ على تحدي الهيمنة الأمريكية. وهذا والله عذر أقبح من فعل. ذلك أن انشغال سورية بعنتريات كاذبة على حساب الشأن الداخلي، خصوصاً أن ما يسمى: محور الممانعة لم يقدم للقضية العربية والفلسطينية إلاّ التخبطات السياسية وتوسيع دائرة النفوذ الإيراني في المنطقة. وكان الأجدر بالسيد سيل أن يجيب صراحة عن ماذا عمل السيد الأسد للقضية الفلسطينية خلال رئاسته، حتى يمكننا أن نعذره تجاه إهماله نهضة البلد ورفاهيته ومنح الشعب قدراً معقولاً من الحرية والكرامة، التي ثار من أجلهما؟ ثم يحاول السيد سيل أن يؤصل دعاوى الحكومة السورية مثل قوله إن الإخوان المسلمين يشكلون عدواً لدولة علمانية حديثة، ويسعون للثأر من بشار بسبب حملة إرهاب قمَعها والده الرئيس حافظ الأسد. حسناً السيد سيل يسمي ثورة حماة ضد حزب البعث إرهاباً. لكن هل يمكن أيضا أن يطلق على ثورة كل الشعب السوري بما فيها غير السوريين السنة ثورة إرهابية؟ الجواب نعم هذا ما يقوله السيد سيل، ويزيد بأن الشعب السوري الثائر من إخوان وغيرهم يكررون الخطأ نفسه باللجوء إلى الإرهاب بمساعدة تنظيمات سلفية قادمة من الخارج. ويضيف - لا فض فوه - أن دول الخليج (وهو لا يسميه بالعربي إطلاقا ) تنظر إلى أحداث سورية بمنظار مذهبي. وهو يرى أن قلق دول الخليج العربي من طموحات إيران لا مبرر لها. ويخلص أن دول الخليج تمول وتسلّح ما يسميه: المتمردين السوريين. أرى أن السيد سيل مغرم بحافظ الأسد وابنه بشار لدرجة أنه يتبنى طروحات دمشق دون تشغيل ذهنه. وإذا كان يكيل الاتهامات لدول الخليج ويرى أنها قلقة حول ما يجري في سورية بدون سبب، وأنها تساند الجماعات الإرهابية. وهو يقصد الشعب السوري الذي يقف ببسالة وصمود أمام طيران الأسد ودباباته ومدافعه وشبيحته، فماذا نقول إذن عن المجتمع الدولي الذي يقف مع الشعب السوري المنكوب، هل نقول إنه أيضا يساند الإرهاب؟! حسناً ماذا نقول عن إيران وروسيا اللتين تقفان مع الأسد هل نقول عنهما ياسيد سيل إنهما تقفان مع الشرعية الدولية وتقفان ضد الإرهاب؟ هذا خلط بيّن يبثه السيد سيل كل أسبوع على صفحات جريدة الحياة. وأخيراً ماذا يقترح السيد سيل للخروج من الأزمة؟ جوابه من الأجوبة التي تجعل الثكلى تبتسم. وهو يقول: لا يمكن حل الأزمة السورية عسكرياً. بل عن طريق إجبار الطرفين على وقف اطلاق النار. حسناً. نحيل السيد سيل لدوائر الأممالمتحدة، لتقول له إن النظام السوري تبنى حلاً واحداً لا يحيد عنه وهو تدمير المدن السورية بمن فيها من بشر وشجر وحيوان. ونرجو من السيد سيل أن يقنع السيد بشار أو طهران بوقف النار التي تحصد المئات كل ليلة وكل يوم. وقريباً سيرى السيد سيل مآلات طروحاته وتحليلاته، عندئذ لن نناقشه الحساب..