أنت متحضر تعني أنك غربي في لغتك وثقافتك وسلم قيمك وفي ما تحب وما تكره فالتغريب هو التمدن وهو التحضر بل هو العيش ومعنى الحياة فأن تكون متحضراً يعني انك من الغرب وللغرب الانتخابات النيابية هي أحد المواسم الأساسية في حياة هذا الوطن اللبناني الصغير حجماً بين الأوطان المعتز بحيويته وبالدور الكبير الذي لعبه منذ أيام السلطنة العثمانية حيث شكل بنوعية تعاطي السياسة ظاهرة متقدمة عما حوله من ممارسات أقل ما يقال فيها إنها غير عصرية. ولعل تعدد الدول الخارجية التي اهتمت لسبب أو آخر بشؤون لبنان خلق فيه أجواء خاصة تميزه عما حوله من الأقطار فإذا كانت العثمنة قد شكلت نوعاً من التقدم على نوعية الحياة العامة التي كانت قد عرفتها المنطقة على يد أنظمة المقاطعجية أو غيرهم فإن من الطبيعي أن يبدأ الناس بالتطلع الى نوع من التغيير الجدي في نظام الحكم. بين سحر التفرنج والتغيير الفوري غير المدروس واستمرار العقم في نظام الحكم المعمول به أخذ المجتمع اللبناني يطالب نفسه بالتغيير كيفما كان الأمر. هكذا بدا التفرنج كما لو أنه أصبح الحل. ويجب أن يستمع المرء جيداً الى الشاعر الشعبي الراحل عمر الزعني ينشد: عالهوب الهوب الهوب والقاضي لابس روب يا فرنسا تمدَّنا ما عاد في ظلم بنوب. إن هذه الصورة التي رسمها عمر الزعني عن نوع التحديث الذي جاء مع الانتداب الفرنسي ينم عن صحوة النخب والطلائع اللبنانية على سطحية التفرنج الذي جاءت السلطات الفرنسية تطرحه بديلاً عن التحرر واستقلالية القرار الوطني بالمعنى الصحيح. ولعل مصطلح أتاتورك وترجمته أبو الأتراك الذي أطلق على أول رئيس للجمهورية التركية بعد زوال الامبراطورية العثمانية ومجيء مصطفى كمال هو المؤشر على ولادة عصر جديد تتماهى فيه كلمة غرب مع كلمة حضارة فأنت متحضر تعني أنك غربي في لغتك وثقافتك وسلم قيمك وفي ما تحب وما تكره فالتغريب هو التمدن وهو التحضر بل هو العيش ومعنى الحياة فأن تكون متحضراً يعني انك من الغرب وللغرب, فالغربية هي ما يجب أن تكون وبقاؤك خارجها يعني أنك غير موجود بأصل الصور وبالمعاني التي تجعل الانسان انساناً دائماً هو هو. أما التحديث فبدأ بلبنان السابق أو جبل لبنان، أي الثنائي المؤلف من الجبل والساحل، فالبقاع مثلاً كان دائماً أشبه ما يكون بمشاع لسوريا أما الجنوب فليس إلا قطعة منذورة لتصبح سواء بقرار منها أو بغير قرار جزءاً من فلسطين الموضوعة على الرف لحساب بريطانيا أو الصهيونية. وما للبنان الكبير أي الحالي كما هو النعت الذي نعته به الجنرال الفرنسي غورو فما هو إلا هدية من فرنسا الصديقة القديمة للبنان الجبل الى مجموع فئاته بدءا بالموارنة والدروز من أهله وامتداداً الى سائر أبنائه مروراً بالموارنة شركاء الموارنة في الأقدمية الجبلية. فالديمقراطية ليست بزة تشبيه يلبسها بعض اللبنانيين من دون لبنانيين آخرين، بل من المفترض أن ننطلق من نقطة مبدئية هي أنها للجميع وإلا كيف يصح أن يقال إنها ولو بالنيات ديمقراطية بالمعنى الجدي للكلمة لا بلغة الزجالين اللبنانيين المعروفة التي تأخذ في حساباتها لكل شيء ما عدا الواقع والحقيقة. فالروايات كثيرة حول فراغ الكراسي في حفلات كثيرة بشكل يشعر رواد المقهى باليتم، ومنها على سبيل المثال تلك الصدمة التي أصيب بها أحد الزجال إذ ما كاد يصعد على المنبر حتى كاد يصعق لمشهد الطاولات الفارغة أمامه. فماذا عساه يقول وليس أمامه إلا الكراسي الفارغة. فالحداثة اللبنانية ليست تفرنجاً بل تعرباً، وكان للبنانيين مسلمين ومسيحيين صولات وجولات في الحفاظ على لغة الضاد وجعلها مواكبة للعصر من دون تقعر. العربية بين اللغات هي واحدة من الأقل قابلية للاستعاضة عنه بغيرها مهما وجه اليها من اتهام تبقى من الأمهات أكثرهن امتناعاً على قابلية احلال غيرها محلها، ذلك أن العربية هي من الأمهات بين بنات جنسها وليست في مرتبة أقل. وإذا كان قد قيل في الماضي إن العربية هي واحدة من لغة أهل الجنة فإن مرور الزمن كرس وقوعها هذا ولم يسلبها إياه وكيف يمكن أن يكون غير ذلك وتعزز مركز العروبة سياسياً واجتماعياً هو أحد أبرز سمات العصر الذي نعيشه اليوم في جمع قارات العالم وليس في بعضها فقط: الشرق شرقي أين صارت شمسه ودم العروبة في دمي وعظامي سجلت في متنيْه نصرانيتي وكتبتُ فوق سطوره إسلامي كان صاحب هذه الأبيات سليمان البستاني وزيراً للمعارف في اسطنبول في العصر العثماني وهو أعلى منصب تولاه عربي في تلك الفترة من الزمن وقد مضى مدة طويلة من عمره في فلسطين وسبق غيره التحذير من حلف الاستعمار والصهيونية ضد عروبة فلسطين والقدس بالذات. وطالما اعتبر وكتب تحذيرا من التفريط بعودة فلسطين والقدس بالذات هو كل المآسي في التاريخ العربي القديم والحديث. ومن دار ضيافة دير القمر كان محذر الأمة الأقدم من خطر استيلاء اليهود على فلسطين ولبنان.