رغم عظمة الخلفاء الأمويين والعباسيين في تاريخ العرب والمسلمين فإن الدولة العثمانية لم تكن تقارن نفسها بهما فهي دولة أشبه ما تكون بالدول الأوروبية في زمانها كإنكلترا وفرنسا وألمانيا. ولعل من أكثر العبارات الدارجة في تركيا حتى اليوم المقولة الشهيرة للفيلسوف التركي رضا توفيق الذي هاجر الى لبنان على إثر تولي مصطفى كمال الحكم في تركيا، وهي عبارة يرددها الكثيرون من الأتراك حتى الآن فعندما سئل عن رأيه في النظام الذي يحكم تركيا الآن أجاب: كانت تركيا أول دولة في الشرق فجعلها مصطفى كمال آخر دولة في الغرب. كانت الدولة العثمانية المسماة في زمانها بالدولة العلية إحدى الدول الأهم في زمانها فهي تضم رعايا من آسيا وأفريقيا وأوروبا وكان السلطان العثماني يسمى خاقان البرّين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان فلان. ولم تكن العثمانية تقارن نفسها بالأمويين والعباسيين بل كانت تقارن نفسها بالامبراطور الأوروبي شارلمان وغيره من ملوك أوروبا، ذلك أن تركيا جغرافياً وتاريخياً كانت معتبرة أوروبية أيضاً لا آسيوية فقط. في أيام الجمهورية كان رئيسها مصطفى كمال لا يكتفي بأن يصف نفسه نداً لملوك العرب وسائر المسلمين كالفرس والهنود، بل قدم نفسه نداً أيضاً لأباطرة الأوروبيين والمسيحيين. كان الغرب قد بدأ ينظر الى نفسه على أنه القاطرة الأمامية في سكة حديد التقدم العالمي.. انتشرت مقولة "الفرنجي برنجي" أي الأول وتأثرت تركيا بهذه النظرة الى الذات فأصبحت اسطنبول تنظر الى نفسها على أنها عاصمة أوروبية أيضاً كباريس ولندن. لم يعد يطيب لحاكم تركيا أن يصف ذاته بسلطان البرّين والبحرين وخادم الحرمين الشريفين، بل هو أصبح مع مصطفى كمال الكبير في الغرب الأوروبي أيضاً. وإذا كان المجد العربي قد اكتمل بفتح الأندلس فإن اسطنبول هي القسطنطينية القديمة نسبة الى قسطنطين اليوناني الكبير في عين الغرب والشرق. وإذا كان الشاعر المصري بل أمير الشعراء أحمد شوقي قد قال: إن عز الشرق أوله دمشق فإن دولة مصطفى كمال قائد تركيا الجمهورية ظلت تنظر الى اسطنبول على أنها جغرافياً وتاريخياً منارة مشعة عالمياً. وإذا كانت العروبة قد أصبحت منذ أيام الدولة العثمانية أحد العناوين الأكثر إشعاعاً في حركة التحرر العالمي فذلك لأنها منذ ذاك الزمن رشحت نفسها لدور القاطرة الأمامية في سكة حديد التقدم العالمي لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. لم تكن العروبة عند ولادتها في العصر العثماني حركة انشقاق عن الدولة العثمانية بقدر ما كانت تريد لنفسها مهمة خاصة بها تحت سقف السلطنة وهي أن تكون مصدر عقلنة لمسار شعوب الأمة العربية المنذورة للعب دور إمامة العقل لمسار المنطقة بعد أن لم يعد إلا العروبة الجامعة قيادة متاحة للمنطقة. ولو استحضرنا بعد سنوات طويلة ملامح شخصية عبدالرحمن عزام العروبية والاسلامية معاً التي اختارتها مصر والسعودية كمسؤولة لتأسيس جامعة الدول العربية لظهر لنا بوضوح أن المطلوب عقل سياسي عروبي إسلامي يعمل على تفعيل سياسة المنطقة على قاعدة العروبة الجامعة لتلعب الدور الذي لم تستطع الحكومات العربية القيام به على صعيد تنظيم العمل المشترك لقيادات الأمة. جاء دور العروبة في أن تلعب دورها في جمع الأمة. "أولو الفضل في أوطانهم غرباءُ يشذُّ وينأى عنهم القرباءُ وما شربوا الخمر الكميْت للذة ولا كان منهم للنساء سباءُ" بمثل هذه الأبيات الحزينة كان أبو العلاء المعري يخاطب نفسه أولاً قبل أن يخاطب سائر الناس، عندما يتصور القادة النموذجيين المطلوبين الذين يديرون شؤون الناس. الهروب الى فوق، لا الى الجنة التي وعد بها الله عباده الصالحين، ولا الى جهنم التي أعدها للأشرار. إمامة العقل تلك المرجعية التي سلم بها البعض من اللبنانيين وغير اللبنانيين كان أبو العلاء أول من قال بها كمرجعية للناس. وحسب العروبة رتبة وشرفاً أن تطمح الى أن ترى نفسها الآن أو في المستقبل آخذة بإمامة العقل. لا يحب الكثير من المستشرقين كلمة عروبة لأنها كما يقولون كلمة حديثة وهم يجدون الماضي العربي هو الأجدر بالتكريم. ليست العروبة دعوة الى التفرنج كما كانت الكمالية التركية، بل كانت العروبة دعوة الى الدفاع عن الذات القومية للأمة العربية. هي دعوة ضد التجزئة التي أرادها المستعمر للأمة، وضد الغزو الثقافي لشعوب المنطقة وخصوصاً ضد الصهينة المهاجمة لفلسطين وهويتها وضد الفرنسة التي تهدف الى محو ذاتية المغرب العربي بصورة خاصة من تونس الى الجزائر فبقدر ما الفرنسة للمغرب هي المطلوبة استعمارياً كذلك هي العروبة، ستبقى الركيزة القومية الأهم في المغرب والمشرق على حد سواء. وإذا كان موسوليني الطلياني هو أول من قال البحر المتوسط بحرنا فإن الفرنسيين أيضاً عملوا على فرنسة هذا البحر على الشمال الأفريقي الواقع تحت حكمهم. وإذا كانت كلمة المد أكثر ما تستعمل لامواج البحر، فإن هذه الكلمة "المد" كثيرا ما أصبحت تستعمل اليوم لوصف العروبة التي نجحت في أن تحافظ على عروبة الشمال الأفريقي بعد ان حاول موسوليني أن يصلبه على حساب عروبة الجزائر ومراكش وتونس، ورغم الجهود التي بذلتها فرنسا وايطاليا في محاولة تغيير هوية المتوسط فإن هذا البحر استمر عربياً. والفضل في ذلك لحركة التحرر العربي التي صانت عروبة المنطقة الجنوبية من هذا البحر بدءاً من تونس وصولًا الى المغرب الأقصى. لقد ارتبطت كلمة العروبة أكثر ما ارتبطت بالمشرق العربي ولكن إنجازها الاكبر كان ولا يزال في نجاحها في حماية عروبة الشمال الأفريقي. وهذا النجاح كان مفاجأة غير منتظرة من قبل الاستعمار الذي كان ينطلق من ان البلاد الأفريقية خاصة لا تملك وإن ارادت القدرة على صيانة هذه الهوية. وكثرت المراهنة على عدم وجودها في كل ما هو جنوب المتوسط. ولكن الواقع هو أن التعريب كان وظل عملية مستمرة في أفريقيا بشكل عام حيث تلعب العروبة دورا إيجابيا في تطور الشعوب تقدماً وعوناً. نقلا عن الرياض