من شروط المغنية الأميركية كايتي بيري في عقودها مع الجهات المسؤولة عن إقامة حفلاتها الموسيقية، شرط قد يعتبر غريباً من منظورنا العربي لقواعد المرور، ولكنه ليس كذلك في ثقافتهم. هذا الشرط يقول إن سائق السيارة لو غيّر الخط، أو كما نسميها «الحارة» التي تتهادى المركبة في الشارع بين حدودها، لو حصل وقرر السائق فجأة أن ينتقل بخفة سائقينا من حارته إلى حارة جاره، اختصاراً للطريق أو استغلالاً للحارة التي بدت أقل زحمة، لاعب الخفة هذا إنما يكون بنقلته الحمقاء تلك قد كلّف مؤسسته تعويضاً مالياً كبيراً عليها أن تدفعه للزبون التي تعهدت بتأمينه: لم ذاك لو تعرفون؟ لأن السائق بأسلوبه المتهور في القيادة يكون قد عرّض حياة الراكب للخطر، ومن إحساس المرء - في بقعتهم - بقيمة حياته وغلائها لا ينسى أن يضمِّن عقوده المبرمة مثل هذا الشرط الأوّلي والهام. والآن: ما شعورك بقيمة حياتك وأنت تقرأ هذه الفقرة؟ وقبل أن تبتسم محرجاً للسؤال الملغوم، تصور أن يصحو أحدنا ويطالب بحقوقه كإنسان قبل أن يكون فناناً مثلاً، فيلزم الجهة المسؤولة عنه بمثل شرط المغنية الأميركية؟ وباستقراء منطقنا المعكوس في تعيين الأولويات، أقول إن هذا الشخص لو وجد في السعودية تحديداً فسيُرفض شرطه تماماً، ولن يسلم من تندّر الآخرين وانتقادهم لفكره الذي سيُختزل ب «مخاوف صبيانية، وحرص على الحياة مبالغ فيه، وكأن تشدّد الالتزام بقواعد المرور، سيعفي المرء من الموت»، أليست هذه صياغتنا في تسخيف النظام المروري، وأي نظام عموماًَ؟ آخر إحصاءات مرور دبي تشير إلى أن السائقات السعوديات هن الأكثر التزاماً بأنظمة المرور، ولا غرو، فالسعوديون الذكور الذين نشكو من سلوكهم غير المتحضّر في قيادة مركباتهم هم بالذات من يسجلون أروع لوحات الالتزام بقواعد النظام المروري، ولكن طبعاً في بلاد الغير، فلمَ يلتزمون هناك، ولا يفعلون هنا؟ بل راقب حوادثهم التي يرتكبونها مع نظام «ساهر»، أيكون لأنه كلفهم مالاً! فتجدهم ينفجرون مع كل مخالفة وغرامة! يجوز. وبهذا المنطق لو أن المواطن السعودي تحول من دولة ريعية تدفع عنه إلى نظام آخر يطالبه بدفع الضرائب، أتتوقع أنه سيدفع بلا مطالبات! إن كان من هاجس ينبغي أن نشغل أنفسنا به، وقد تأخرنا كثيراً في تحصيله، فهو هاجس «التمدّن»، فالإصلاح السياسي إنما يقوم على التربية المدنية، كما تجلّى في المجال الغربي الأوروبي الذي عرّفه رفاعة الطهطاوي بقوله: «تمدّن الوطن هو تحصيل ما يلزم لأهل العمران من الأدوات اللازمة لتحسين أحوالهم حساً ومعنى، ويكمن في تحسين الأخلاق وكمال التربية واستجماع الكمالات المدنية والترقي في الرفاهية». بالفعل، نحن بحاجة ماسة للتربية أولاً والتصرف بحس مسؤول. مللنا التنظير عن الأخلاق الحميدة للدين، فهو أمر نعرفه جيداً ومفروغ منه، ولنا في تاريخنا أروع القصص والأمثلة التي تفصّله وتحكي عنه. ولكن، أعطني تطبيقاً حاضراً لهذا الخطاب، تطبيقاً يقلص الفجوة التي تتسع كل يوم بين المثال والواقع، فعلى رغم الإنجازات المادية الضخمة للمنشآت الحيوية، هناك قطيعة سلوكية واضحة في التعامل بتحضّر مع الأشياء والمواقف. والإشكالية أن محاولة تغيير هذا النمط البدائي يُفسّر على أنه تغريب وتفرّنج وتأثّر بالآخر. حسناً، إن كان التحضّر تغريباً والأدب المتمدّن تفرّنجاً، فأهلاً بهما، ويا ليتنا نتأثر بالآخر في جزئية تفكيره الواعي بقيمة الحياة والأشياء، فهذه الجزئية بعينها قد سقطت من تفكيرنا، سهواً أو عمداً لن نختلف، الأهم هو غيابها. ولأن وجودها ضرورة قصوى للتقدم، فتجد أنك من دونها لم تتقدم كثيراً، فما مصير المدن المعرفية والمالية الاقتصادية العملاقة بلا بشر يستحقون إدارتها! فكما عشقنا «الفهلوة» في الانتقال الشوارعي من حارة إلى حارة، جهلاً بأبسط قواعد المرور، أو استكباراً على التقيّد بها ولو عرفناها، كذلك هي أحوالنا في مساراتنا الحياتية الأخرى. ولن يردع هذه الفهلوة المتخلِّفة غير قوانين تشرِّع وتعاقب بلا مجاملة ومصلحة، أو محاباة وواسطة من أموال وأصول، وإلاّ ستظل تعلي من بنيانك وتُخفِض من إنسانك وحقوقك. [email protected]