في رواية عبده خال الثامنة "لوعة الغاوية" لا أظن أن مبتغى القارئ هو أن يكتب الروائي عملاً جيداً فحسب، بل يأخذ الأمر عنده بعداً أكثر تطلباً على مختلف الصعد كأن يجد في رواياته معنى جديداً وأكثر عمقاً للحياة وأن يهب هذا القارئ تصوراً للمفاهيم والرؤى التي من شأنها أن تمنح السرد لذته مثلما تؤمّن له بهجة المعرفة في آن. كما أن المتوقّع منه، وهو الحائز على جائزة البوكر العربية، أن يتجاوز دوره السردي مجرد رسم حكاية سردية وإضافتها إلى مشهدنا الروائي السعودي المترع بالحكايا. إنّ عبده خال في روايته الجديدة لا يأتي بالجديد، بل يخذل قارئه عندما نجده يكرر حكاياته ومفاهيمه وعباراته وحتى شخوصه0 وهنا لا تبرز أزمة الحكّاء عبده خال، إذ أنه ما يزال قادراً على نسج حكايته، غير أن نسج الحكاية ليس هو الأمر المهم في كتابة الرواية بل مضامين تلك الحكاية ومحتوى النص السردي وطريقة تناول الموضوع إضافة إلى وعي الروائي بأدواته الفنية بحيث يجعلنا، بكل هذه العناصر مجتمعة، قادرين على أن نبصر الحياة من نافذة جديدة ونكتشف عبرها الألوان الغائبة عنا، لكن خال توقف عند رؤى ومفاهيم وحكايات ما عاد قادراً على تجاوزها على ما يبدو. منذ الرواية الأولى لعبده خال نجد أن زاده في السرد هو تشكيلة من الحكايات الشفهية التي تعدّ محورا أساسياً في نصه الروائي وقد استطاع استثمارها بإتقان في رواياته الأولى "الموت يمر من هنا"، "مدن لا تأكل العشب"، وكان هذا يمثل الجانب الحكائي المستجلب من الحكاية القروية، وفي الجانب الآخر كان هناك فضاء الحارة وحكاياتها وهذا ما استثمره في روايات "الأيام لا تخبئ أحداً"، "نباح" و"فسوق". وأحيانا في هذه الروايات يزاوج عبده خال ما بين عالم القرية والحارة، لكن الإشكالية التي تواجه عبده خال أنه توقف عند حد معين في تلك الحالتين، فالحنين صانع أمجاد حكاياته القروية لم يعد يضخّ في ذاكرته بأكثر مما فعل، وعوالم الحارة تم استنفادها من مخيلته، وبهذا فقد بدأ الشخوص يتشابهون ويتناسخون، وإذا كان تناسخ الشخصيات في رواياته الأولى يمثل حالة إيجابية لأنه لم يصل إلى سقفه الحكائي بعد. فإننا في "وترمي بشرر" وكذلك الآن، في "لوعة الغاوية" بدأنا نشعر بثقل استعادة واستهلاك شخصياته الروائية القديمة، فهو لا يعمد إلى ذلك بقصد الابتكار وضخّ رؤى جديدة فيها بل هي حالة من حالات جفاف المخيلة. وإذا كان مأزق عبده خال في كتابته لعوالم القرية هو سطوة الحكايات الشفهية بحيث ظل أسيرها وشكّلت مسيرة نصه السردي، فإنه في كتابته عن عوالم الحارة ينحاز الى رسم الكاركتر في صورته الشكلية. وإذا ما كانت الحارة تفرز هذه النماذج إلا إنها قد تورط السارد في الاكتفاء بالاستحضار الشكلاني لتلك الشخصيات، فنجده يكتفي بالشتائم التي ترددها الشخصيات ورسم الحالة المتشنجة في العلاقات الإنسانية بين تلك الشخصيات وبعضها، وتتمحور تلك العلاقات حول الحالة الجسدية التي لا يكتبها من الداخل بل يكتفي بتوصيفها خارجياً، لهذا لا نجد في كل روايات عبده خال مشهد حسي موصوف بتفاصيله لأنه يكتفي بالإشارة البعيدة لما حدث. كذلك لا نجد في رواياته أثراً للبعد الزمني بين الحارة في الستينيات أو السبعينيات أو حتى ما بعد ذلك. سنجد أن الحارة في كل الأزمنة التي دوّنها تتشابه وتتماثل بطقوسها وشخوصها. وكما يقع التكرار على مستوى الشخصيات فبالمثل يقع في تكرار ثيمة العشق المطارد. هذا ما نلاحظه في "الأيام لا تخبئ أحداً"، وفي "نباح" و"فسوق"، وأخيراً في "لوعة الغاوية"، فنجد أن بطله العاشق يقضي زمنه الروائي مفتشاً عن حبيبته الغائبة، فمثلا بطل رواية "نباح" يبحث عن حبيبته وفاء في صنعاء وكذلك في "لوعة الغاوية" نجد مبخوت يبحث عن أنس في أرجاء المكان وكذلك فتون تفتش عن مبخوت في قرى جيزان. ومع أن عبده خال يحاول إن ينوع في ملابسات حكاياته العاطفية إلا أن تكرار ثيمة العشق الغائب يجعل المسافات تتقارب في أفعال وأقوال ورؤى شخصياته. وإذا ما توغلنا في تفاصيل حكاية العشق في رواية "لوعة الغاوية" سنجد أن مبررات العشق ليست ذات عمق، فشخصية فتون وهي طفلة تعجب بشخصية مبخوت، الرجل الذي تراه مغايراً لرجال الحارة، لكن هذا الرجل المتهم بالتحرش بالقاصرات يرحل عن الحارة وهي طفلة تبلغ من العمر 12 عاما فتقضي كل سنوات عمرها القادمة في البحث عن هذا الرجل، دون أن يكون هناك دافع حقيقي وراء هذا العشق سوى ذاك الإعجاب الطفولي. وبعد ذلك نكتشف أن مبخوت هو الآخر يفتتن بأنس وعندما يعود إلى قريته يقضي زمنه في البحث عنها. إنّ اللامنطقية تحضر في هذا الزمن الطويل من البحث، بل أنه وحسب زمن الرواية فأن أحداث الرواية تصل الى مابعد صدور الرواية لأن فتون تخبرنا في فصل متقدّم بأنها من مواليد عام 1400 هجرية ثم تقول في فصل لاحق أنها في الرابعة والثلاثين، ولا أدري كيف يفوت مثل هذا الأمر على الروائي؟ أما إذا ما تساهلنا مع الحرية المعطاة لفتون وهي تبحث عن مبخوت في قرى جيزان، فكيف نتساهل مع 24 عاما قضاها مبخوت في البحث عن أنس؟ هذا الزمن الطويل جداً غير مقنع تماماً وخصوصا إذا ما كانت تلك القرى متجاورة وعدد سكانها محدود ومن السهل العثور على الشخص المراد، وربما كان السارد يطيل في حالة الزمن لكي يستثمر الحرب مع الحوثيين، وفي تصوري أن تلك الحرب تحتاج حالة سردية منفصلة. عندما يسرد الروائي عن مبخوت نجده يسرد بصوت الراوي العليم لكن عندما تحضر شخصية فتون فالسرد يأتي بضمير المتكلم، وهذه اللعبة السردية جاءت لصالح مبخوت فالسارد استطاع إلى حد كبير أن يجعل من شخصيته أكثر نضوجا في النص وبرغم بساطة الحكايات التي عن مبخوت مثل الهدايا التي كان يمنحها للصبايا بناء على وصية أخته المتوفاة، وعشقه للأغاني والتي أراد من ورائها ربما أن يؤسس لمزايا العاشق والمطارد والمنحوس في النصّ، ذلك الذي يرحل عن كل مكان بعار أو بفضيحة ليس له فيها ذنب. مع كل هذا الأسباب البسيطة والمحدودة سنجد لمبخوت شخصية ما في النص. أما فتون فقد تورط السارد في التحدث بلسانها، ولأن العشق لدى فتون مبني على قدر ضئيل من التوهم الطفولي، نجدها تكرر ذات التعبيرات الوجدانية عن مبخوت فذاكرتها الطفولية لا تحتمل أكثر من ذلك، وما حدث مع مبخوت وهي طفلة ليس له ذلك العمق الذي ينهض بتفاصيل عاطفية عميقة في النص. هذه الضآلة في حجم الحكاية العاطفية جعلت السارد يتجه الى مأزقها مع زوجها الأعمى لكنه أيضا يحصر الحديث حول هذه العلاقة في الإشارة الى الواجب الليلي مع هذا الزوج. أما أن يمتد عمر هذا الزواج الى 24 عاما ولا يلتفت السارد في تلك العلاقة الزوجية سوى للمأزق الليلي فهذا يعني أن مأزق السارد أكبر من مأزق بطليه لفشله في إيجاد تفاصيل أخرى تكرس العمق في هذه العلاقة الثنائية، فمن غير المنطقي أن يظل السارد يكرر تلك المسألة وفيما بعد يفاجئنا بشخصية ياسين، التي رغم لطافتها إلا أن وجودها لم يكن مقنعاً فنياً. لكن الفداحة في رسم شخصية فتون تجلّت عندما حمّلها السارد كل ذلك الولاء العاطفي لذاكرتها الطفولية مع مبخوت، فتظهر لنا في النص بأنها المرأة العاشقة والمتيمة والوالهة، ثم نجدها تسلك طريق الإغواء، وحتى هذا الإغواء ليس مقنعا في تفاصيله وفي رسم ملامحه في النص. لقد وصفت فتون نفسها بأنها أصبحت المرأة السيئة وبأن الأخريات يجدونها كذلك، ولا نعرف ماهو السوء الذي تفعله وكيف للأخريات أن يعرفن ذلك السوء ما دامت لم ترتكب خطيئة معلنة؟ ثم في حالة أخرى تقول أنها لم ترتكب شيئاً وفي حالة أخرى نجدها تحاول إغواء الدكتور الجامعي ولم يستطع السارد، وسط هذه الحالات المتقلبة، أن يقبض أو يصف لنا الباعث الذي يدفع أنثى مغرمة بشكل أسطوري إلى استسهال العبث اللفظي مع الآخرين. ومن يترصد للعبارات التي تقولها فتون في الرواية سيلحظ حجم التنافر بين مقولاتها، وهو ليس تنافراً قادراً على خلق حالة إيجابية في صناعة شخصية متناقضة، بل جاء نتاجاً لترهل السرد المتعلق بتوصيف تلك الشخصية في أبعادها الأنثوية الإغوائية. من ناحية أخرى فإن عدم وعي الروائي بأبعاد شخصياته جعله يسرف في استنطاق تلك الشخصيات، على امتداد حوارات الرواية، بحكمٍ وأقوال لا تتناسب مع بساطتها فبعض الحوارات تحمل مقولات ذات رؤى فلسفية لا ينطق بها إلا إنسان متعلم عميق المعرفة، وهو ما يشعرنا بأنها مقحمة على لسان شخصيات الرواية وأن صوت المؤلف يبدو واضحاً في تلك اللحظة. كذلك جاءت بعض العبارات متشابهة وذات لغة خطابية، وتكرررت على امتداد النص من مثل ما جاء على لسان فتون في قولها أن "المرأة الموطوءة كالثوب المغسول يفقد لمعته" ومثل هذه العبارات المكشوفة والغارقة في الوعظية المباشرة لا تحمل بعداً إبداعياً جديداً على مستوى المعنى كما أنها لا تقبل من روائي يكتب روايته الثامنة. إن تكرار مثل هذه العبارات يدل، في تصوري، على أن هناك فراغات في الحكاية يضطر الكاتب معها إلى ملئها بمثل تلك المقولات بينما من شأن القاريء، في حال كانت الرواية عميقة الأحداث، أن يستنتج تلك المقولة، مثلا، دون أن يتلفظ بها السارد على لسان شخوصه. كما أن تلك العبارة ومثيلاتها مما جاء على لسان شخصية فتون والخاصة برؤيتها عن الرجل وتعاطيه مع المرأة يتناقض تماما مع أفعال وممارسات تلك الشخصية بحسب حضورها في الرواية، وسيدرك القارئ حتماً أنها أقوال المؤلف. كذلك في الرواية نستشعر بعض المشاهد التي كتبت من وجدان عميق وبسردية مقنعة كمشهد السيل في الحارة وكمشهد سكان القرية في المخيم بعد أحداث الحوثيين، لكن في المقابل هناك مشاهد كتبت عن بعد كمشهد ذهاب مبخوت والأكتع الى معقل الحوثيين، فالسارد في كتابته لذلك المشهد اعتمد على ماهو متداول إعلاميا عن تلك الجماعة وبالتالي جاء وصفه بنكهة الصحافي وليس السارد كما غابت براعة السارد عن وصف مشاهد فتون في المستشفى. لقد قامت رواية لوعة الغاوية على تصور ذهني جميل في مخيلة كاتبها، لكنها إذ كتبت لم تأت مطابقة لذلك التصور، فالحكاية تبدو جيدة في صنع عشق غائب يطارد من طرفين كل منهما يرتحل إلى جهة أخرى من العشق، لكن رسم هذه الحكاية على الورق لم يكن بذلك الإتقان مما أدى إلى ترهل الرواية كثيراً، وقد عانت أيضاً من كثرة المصادفات اللا مبررة كما عمد الروائي إلى التخلّص من بعض شخصيات الرواية بالموت أو بالغياب اللامنطقي، وفاضت الرواية باللغة الوعظية والخطابية، وكتبت الكثير من المشاهد دون عناية، وغاب العمق في تفاصيل شخصياتها. وأخير، أحسب أنه عندما يكتب صاحب البوكر عبده خال رواية بهذا المستوى فإن من حقنا أن نتأسى على حال الرواية السعودية.