بعد صدور رواية (الموت يمر من هنا) كانت مقولة عبده خال: من حقي أفخر بروايتي كمنجز ذاتي يجلسني مع الكبار في العالم الروائي. وبعد صدور روايته (نباح) سألته هل تشعر بأنك أخذت مكانك مع الكبار؟ كانت إجابته ممتلئة بثقة النفس والطموح: نحن الذين نختار أماكننا، وهذا لا يعني تلك التصنيفات الجاهزة، فلو قلت لك أني أبحث عن أبعد مكان تصل إليه الرغبة فلن أكذب، هذا ما أبحث عنه، وتظل هذه رغبة ذاتية تحتاج إلى مطية نشطة وسريعة لبلوغ ما تصل إليه مخيلتي، والبحث عن هذه المكانة ليس للتربع والاسترخاء، ولكن لكي تستفزني للدخول إلى عوالم لم تدخل بعد. براعة الاستهلال في روايات عبده خال تكتسب لديه أهمية خاصة، فهو يحرص على أن تكون فاتحة الرواية مشوقة وجاذبة للقارئ وربما صادمة. ولا أحد ينسى عبارته الشهيرة في افتتاحية رواية مدن تأكل العشب" أنا لا أعرف جمال عبدالناصر وأنتم لا تعرفون جدتي" عندما سألته: ماذا تعني لك البدايات في الرواية قال: البدايات هي فخ لتوريط المتلقي في الدخول إلى عوالم الرواية سواء كانت بوليسية أو حكاية سمجة، فحتى الحكايات الميتة لها رأس تطل به على الآخرين!! "عشت يتيماً من الرجال، وغنياً بالنساء " أتذكر هذه العبارة جيدا لعبده خال فهي ليست عبارة من رواياته، بل كانت إجابة لسؤالي عن أثر المرأة في حياته، وهل شعر أن هذا الأثر امتد إلى السرد الذي يكتب فيه، حيث تداعى عبده خال ليقول: عشت طفولة وشباباً بين أيادي نساء، فأنا لا أعرف وجه الرجل في حياتي، لم أستظل تحت أوامره أبداً، كنت ومازلت مرتهناً للمرأة، أنقاد إليها وأبحث فيها عن رحم وحن وقلب. فمنذ تلك الطفولة البعيدة، حين كنت مغروساً في الأودية بحثاً عن علف لمواشينا، أو حين كنت أردد آيات القرآن، أو حينما يأوي الليل لننيره بالحكايات، أو وأنا انتظر عودة أمي من أعماق الحقول، بعد يوم من في محاولات نساء قريتنا لبذر البذور داخل شقوق الأرض اللينة، أو في السوق حين أجلب وجبتنا الصباحية، أو في مشاور القرى المتعددة، لم أكن إلا بصحبة امرأة.. النساء في قريتي هن العاملات وهن المنتجات وهن المربيات.. عشت يتيماً من الرجال، وغنياً بالنساء، حوطتني أمي وأخواتي، وأول علم تلقيته من امرأة داخل الكتاتيب، وأول حكاية سمعتها خرجت من أفواه النساء، وصاحبت الفلاحات الصغيرات في الحقول وفي المراعي، واشتري سلعتي من نساء، وألعب مع الفتيات. لكنه عندما ينتقل إلى المدينة يتخفف من الحنين، تصبح ذاكرته تتلمس الفارق بين القرية والمدينة، تصبح الذاكرة تتمتع بمزايا المساءلة: حتى إذا انتقلت إلى المدينة وجدت أن النساء هن أكثر رحابة في تأجيج المخيلة (ليس بالمفهوم الجنسي والسطحي) فالنساء لهن قنوات يسيرن بها ماء الحياة، آه، حينما تحك امرأة ينبلج الصباح.. لن تعرف ذاك ما لم تعش هذه التفاصيل الصغيرة في حياة النساء، إنهن فعلاً رمز الخصوبة، خصوبة كل شيء، أليس هن من ينتج الحياة.. أنا نتاج امرأة باختصار. بما أننا نعيش في مجتمع شديد المحافظة، هل وجد صعوبة في التقاط ورسم الشخصية النسائية, عبده خال يختار زواياه لكتابة تلك النماذج، يتجاوز المأزق، يقول :أجدني لا أعيش هذه الأزمة، ربما لأني تفتحت في مجتمع يقدم المرأة كعنصر منتج ومشارك حقيقي في صنع الحياة وربما لأني تربيت على احترام هذا الكائن والإيمان بأنه هو صانع الحياة الحقيقي وليس الذكر.. تربيت على أن المرأة هي الحصن الأخير للنجاة حينما يسقط كل شيء.. عندما سألته: هل نموذج المرأة المثقفة غائب في رواياته، وبماذا تفسر هذا الغياب؟ توقعت أن يوافقني وأن يؤكد على هذا الغياب . لكنه فاجأني بقوله :الثقافة ليست قراءة وكتابة، وليست قشوراً تتمظهر على شكل استخدامات لمنتج تقني أو زيارة المدن الأوربي.. الثقافة هي صناعة الوعي، والنساء اللاتي نطلق عليهن لقب أميات هن أكثر امتلاء بحركية الزمن، أكثر عناية بصياغة الفعل، هن أشبه بالأرض التي تستقبل المطر وتنبت من غير الحاجة إلى بذور تُرمى بين شقوقها.. إن من صنع التاريخ نساء لم يدخلن إلى جامعات أكاديمية بل خرجن من ذروع التجربة والمعاناة والمحاكاة والبحث عن المستقبل لأبنائهن وأزواجهن.. انظر إلينا إننا نتحسر على جداتنا وما قدمنه من فعل في حياتنا. ثم يأخذه الحماس ليتجلى في التذكير بشخصياته النسائية ، المثقفات بحسب تعريفه للمرأة المثقفة: هل بعد هذا تسأل عن غياب المثقفة فيما كتبت، ألم تر كيف استطاعت العجوز نوار في (الموت يمر من هنا) أن تقيم حياة بمفردها وتتحول إلى قطب مغناطيس لجذب الكل ليدور في فلكها، ألم تلاحظ أن مسعدة في رواية (الطين) كانت تسعى لكسر كل القيود حينما استشعرت أن ثمة أحداثاً تريد أن تجفف ينبوع أنوثتها، وناجية في رواية (مدن تأكل العشب) كسرت طوق الحرب، ولكيلا تموت تحت لغم مفاجئ انتقلت بجذورها لتصنع الحياة في مكان آخر... وإن أردت أن أغلق هذا السؤال ستجدني أقول لك إن رواية نباح مثلاً احتفت بالمثقفة (سلوى) وإن كانت صورة سلبية إلا أنها قدمتها وفق الثقافة القشورية التي تمنح للمرأة في ظل إطارها الخانق. من هي المرأة التي كتبها روائياً بلوعة وعذبت داخله وهو يرسم شخصيتها تأتي أجابته :أحببت نوار، ومريم، وصابرة في رواية الموت يمر من هنا، وأحببت ناجية في رواية مدن تأكل العشب، وهند في رواية الطين، ووفاء في رواية نباح، والتي عذبتني لوعة وشوقاً هي مها في رواية الأيام لا تخبئ أحداً. لكن هناك شخصيات كُثر كتبتها بعدائية ومثال لذلك: أم آمنة في رواية الأيام لا تخبئ أحداً، وجعدة أم زوجة بطل رواية نباح. من قرأ رواية فسوق، سيتوقف عند الفصل الأخير الذي يبوح فيه شفيق القبار بسر عشقه لجليلة، كتب ذلك بلوعة وبلغة متأججة بالعذابات. أجابني عبده خال كما لو أنه يكتب ذلك المشهد من جديد: كتبت هذا الفصل عشر مرات، وفي كل مرة أجد أني لم أصل إلى أعماق شفيق.. فاحتجت لان أقف مترويا في إحدى مقابر جدة لوقت طويل، لم يسمح لي ان أبقى إلى ما بعد الغروب.. أن ادخل في الليل ويدخل الليل في داخلي.. وكلما كتبت ذلك المشهد نهض شفيق من الليل ومن عزلته باصقاً أسفل قدمه.. كمن يتهمني بالتفريط في أمانة أن أعيد سرد مقاطع حياته كما يشعر بها لا أن اسردها كما لو كنت سارقاً.. في كل محاولة لكتابة هذا المشهد أبقى جزءا منه، وحين وصلت إلى المحاولة العاشرة، كنت قد استقررت على ما كتبته.. وانتظرت يومين لأطمئن على صياغته الأخيرة وحين لم يخرج شفيق كعادته باصقاً أسفل قدمه، ثبت ذلك المشهد بقسم ان لا أعود إليه. الشريفة حفصة حضرت في رواية نباح. وهي الشخصية الروائية التي كانت في رواية الرهينة للروائي مطيع دماج. سألته هل هذا دلالة على أن الشخصيات الروائية قد تأخذ شكل الخلود؟ أني أؤمن أن الشخصية الروائية تنتقل من عالمها المكتوب إلى عالمنا الواقعي وتتحول إلى شخصيّة تعيش بيننا. ألا تذكر مئات الشخصيات الروائية التي نتحدث عنها وكأنها حية، بل إن هناك شخصيات روائية تفوق شهرتها على شهرة كاتبيها. وحفصة هي الشخصية التي خرجت من قصر الإمام لترينا الجمال الملكي حين يحنّ على الرعاع والعامة ويمنحهم قليلاً من الحلم. وفي حوار آخر يعزز هذا الرأي بقوله : الشخصية الروائية تنتج معرفة مغايرة لما قيل وسوف يقال، الروائي لم يعد منتجا للمتعة وتزيجة الوقت، لقد غدا منتجا للمعرفة والفلسفة حين يحمل شخصياته كل الآراء التي يؤمن بها لإصلاح الحاضر والانتقال للمستقبل. هذه الاضاءات السابقة هي مقتطفات من حوارات سابقة أجريتها مع الروائي عبده خال، كان كل حوار يختص برواية ما من رواياته بحسب صدروها، فكان الحوار عن رواية، نباح، فسوق، ترمي بشرر، بالإضافة إلى حوار عن حضور المرأة في رواياته .وفي كل الحوارات كان منحازا لنصه، مدافعا عن قناعاته الفنية في الكتابة، له رؤيته الخاصة فيما يكتبه، وكل هذا يأتي نتاج الأيمان الشديد بموهبته وبرؤيته وبقدرته في الكتابة، وربما هو الوحيد من الروائيين السعوديين الذي يفضل الحوار أن يكون شفويا، وهذا يدل على أنه ممتلئ بالسرد، وأن إجابته حاضرة، لا أنسى انفعاله حين كانت أسئلتي سلبية تجاه روايته وترمي بشرر حينها قال: أهاجمك بضراوة كي أحمي تعب ثلاث سنوات من أن تطوح به أسئلتك في الهواء. وهاهي جائزة البوكر للرواية العربية تأتي لعبده خال لتحمي تعبه و تتوج مسيرته السردية التي تستحق الاحتفاء، تكافئ تعبه ودأبه الطويل في الكتابة الروائية. البوكر السحابة التي أمطرت في حقول روايات عبده خال.