تعتبر المنطقة الشرقية بمنطقتيها القطيف والأحساء منذ حقبة طويلة من التاريخ مركزاً مهماً للكثير من الصناعات البيئية القديمة التي عرفت على نطاق واسع في بلادنا، وعلى مستوى الدول العربية الخليجية المجاورة، فكانت الكثير من تلك الصناعات تعد من أهم ما يميز المنطقة الشرقية منذ فجر التاريخ، فعرفت بها صناعة السيوف والعديد من الصناعات المعدنية والنحاسية المختلفة التي كانت تلبي احتياجات وطلبات المواطنين في المنطقة وما جاورها.. ولعل ان انتشار واحات النخيل والمزارع والبساتين بها هو مما ساعد على انتعاش الكثير أيضاً من الصناعات البيئية الأخرى المتعلقة بالزراعة والنخيل، والتي من أهمها هي صناعة التمور بمستواها البدائي المعروف، إضافة إلى صناعة المواد المشتقة من النخيل والزراعة والنباتات، كصناعة الحبال والأسلاك والفرش والبسط والحصر والسجاد، كذلك صناعة الفخاريات، وغير هذا من الأدوات والصناعات المميزة الأخرى المعروفة، والتي منها كذلك صناعة الدلال وأنواع «التنك» والصناعات الخاصة بالحدادة بتخصصاتها وأنواعها المختلفة، هذا بجانب الصناعات الجلدية، كصناعة «جرب المياه» والنعل، وأخرى أيضاً كصناعة الملابس والبشوت إلى غير ذلك من أنواع الصناعات التي كانت تقوم أو تعتمد على الحياة أو التضاريس البيئية كصناعة الجص والدبس وصناعة السفن وصناعة ماء الورد ومشتقاته أو المشروبات الأخرى المماثلة له ثم صناعة مشروب ماء (القروف أو اللقاح) ومتفرعاته والذي نتناوله اليوم في هذا الموضوع. صناعة مشروب ماء «القروف - اللقاح» تعتبر صناعة ماء (اللقاح) أو القروف كما يطلق عليه في المنطقة الشرقية ومشتقاته من المشروبات المصنعة والمماثلة له من الصناعات القديمة في المنطقة الشرقية والتي كانت تصنع قبل توقفها تقريباً بوسائل بدائية ولكنها كانت منتشرة في أغلب مدن أو قرى المنطقة ذات الكثافة الزراعية، وخاصة المزارع وبساتين النخيل.. وماء اللقاح كما هو معلوم تؤخذ مادته الصناعية من مذكر نبات لقاح النخيل وتعد كذلك هذه الصناعة الآن من الصناعات المندثرة التي لم يبق منها في المنطقة سوى بعض ما يمكن ان نطلق عليه بقايا قليلة من جيل الصناع من كبار السن ممن عملوا أو ورثوا العمل بمراحل هذه الصناعة. وصناعة ماء اللقاح وكذلك ماء الورد كانتا تعتبران من الصناعات الرائجة في المنطقة والخليج العربي بصورة عامة بسبب توافر موادها الخام التي تؤخذ كما أشرنا من البساتين الزراعية وأشجارها كالنخيل وأشجار الورد والأزهار والليمون والترنج والرارنج والحمضيات بصورة عامة. أما عملية قطف هذه المواد، وتسمى في المنطقة «البهار» فتتم خلال فصل الربيع حيث تتفتح الأزهار والورود وتخضر النباتات والأشجار، وتطلع نباتات لقاح النخيل أو (الفحال) كما يسمونه في المنطقة حيث تؤخذ هذه المواد إلى التحضير للصناعة وذلك عبر مراحل التقطير البدائية، لكنها رغم ذلك تقدم أنواعاً متميزة من المشروبات الجيدة التي كانت منتشرة ومتداولة وتلبي الاحتياجات خلال تلك الحقبة.. مثل مشروبات - ماء الورد والزهر والبهار والنعناع والزموتة والمرقدوش وغير ذلك من أنواع المشروبات التي يعرفها المواطنون في المنطقة الشرقية والخليج. ويذكر في هذا الصدد ان بعض منتجات هذه المشروبات ومن أهمها (الزموتة والمرقدوش) تستعمل كدواء لعلاج (المغص والاضطرابات المعوية والتشجنات) وكانت معظم مشروبات هذه المنتجات تصدر إلى أسواق الخليج.. غير انه بعد انقراض هذه الصناعة الأصيلة في الوقت الحاضر من أماكن صناعتها بالمنطقة بفعل دواعي انتهاء القائمين أو تخليهم عن هذه الصناعة واتجاههم لمجالات أخرى نتيجة لتسارع وسائل التنمية والتطور في الكثير من الصناعات ونمو مجالات الاستيراد الخاص ببدائل هذه الصناعة فقد أصبح المورد الوحيد لهذه الصناعة حالياً هو مجال الاستيراد من الدول المجاورة حيث أصبحت أسواق المنطقة الشرقية تعج بمنتجات هذه الصناعة في أسواقها باعتبارها مشروبات يصرفها جميع سكان هذه المنطقة.. هذا إذا ما استثنينا بعض الصناعات المحلية المشابهة إلى حد كبير القائمة حالياً في بعض مدن المملكة وأهمها الطائف التي عرفت هذا النوع من الصناعة الخاصة بهذه المشروبات وأبرزها ماء الورد والكادي والتي تصدر إلى مختلف مناطق المملكة وخارجها. دعوة إلى قطاع المستثمرين أعتقد ان إمكانية إعادة احياء صناعة ماء (القروف - اللقاح والورد) ومشتقاتهما وتفرعاتهما من المشروبات المعروفة في المنطقة الشرقية قبل عشرات السنين وإنشاء مصانع حديثة لها في منطقتي القطيف والأحساء وكذلك في المدن التي تتواجد بها الواحات الزراعية بمناطق بلادنا الواسعة.. أعتقد ان إمكانية دراسة إنشاء مشاريع لمنتجات هذه الصناعة سيكون لها مردودات اقتصادية جيدة إذا ما خلصت النية من قبل المستثمرين، خاصة وان جميع إمكانات موادها الأولية متوافرة محلياً من خلال ما تشتهر به بلادنا من بساتين وواحات خضراء في أراضيها المنتشرة في كل الأنحاء.