"لا يتحقق فرحي بغير الشعر، إن وجودي الشعري سرّ غبطتي. وإن شئت الدقة، أنا في حقيقتي الداخلية شاعر يفكر ومفكر يشعر." فؤاد رفقة. توفي الشاعر الكبير فؤاد رفقة يوم 13 مايو 2011 في العاصمة اللبنانية بيروت. كان قد صدر له قبل أيام ديوانه الشعري الأخير " محدلة الموت وهموم لا تنتهي " (دار نلسن – 2011). هذه مقالة عنه. سأل ألبير خوري الشاعر فؤاد رفقة في حوار نشر في ( موقع الإمبراطور الثقافي) . - لو لم تكن شاعراً ومفكراً وفيلسوفاً لكنت...؟ -فأجاب : لا أستطيع إلا أن أكون الثلاثة معاً، لأن أي خروج عن هذا المثلث يعني إلغاء وجودي في المطلق. لا أملك أي موهبة أخرى. أقول ذلك بكل تواضع. هذا الشاعر ، وأحد المترجمين الكبار للأدب الألماني خلال القرن العشرين ، قال في كتابه" مرثية طائر القطا" (2009) " الويل لمن يختاره الشعر!". حكمته لعنة الشعر أو كما هو القول العربي "أدركته حرفة الأدب". لكن فؤاد رفقة من سلالة شعرية عربية حمل لواءها زهير بن أبي سلمى ، وهي السلالة المضادة لسلالة امرئ القيس، وهي سلالة أفضت به إلى الحكمة أو الفلسفة والفكر الصوفي. تمكن هذا الشاعر أن يمشي على جسرين. جسر الشعر حيث وصل به العقل نحو الروح بقدر ما منحت العقل عنده سمة الروح نفسها. كما مشى على جسر اللغة حيث وصلت به حدود لغة غوته ناقلا منها ومنقولاً إليها ولكن بسبب الفلسفة. توازت إصداراته الشعرية بين عامي (1961-2011) دون أن ننسى كتاباته التأملية ( الشعر والموت 1973، أمطار قديمة 2003) ومعها أعمال الترجمة بين عامي (1969-2009) من القصص الألمانية ( مع مترجمين آخرين ) ثم الشعر الألماني والأمريكي. ولعلنا نتعرف على التجربة الشعرية من خلال أكثر من مدخل . البدايات عبر الولادة ثم الانتقال من سوريا إلى لبنان والدراسة في ألمانيا، والمشهد الثقافي حسب السياق الشعري ، والشعرية الصوفية، والترجمة الأدبية. من هذا الحطاب الشارد؟ ولد فؤاد رفقة (1930 - 2011) في قرية الكفرون السورية على أطراف وادي النصارى ( قرب حمص). حين بلغ العاشرة، انتقل مع عائلته إلى بيروت، حيث تابع دراسته التكميلية والثانوية في طرابلس. انتقل بعدها (1949) إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وأتم دراسته فيها حتى نال الماجستير في الفلسفة الغربية، عن أطروحة تناول فيها فيلسوفاً انكليزياً ينتمي إلى المدرسة الوضعية. لكن ألمانيا فتحت له ذراعيها بمنحة دراسية من جامعة توربينغن ليحمل الدكتوراه عن أطروحة بعنوان "نظرية الشعر عند مارتن هايدغر". ثم عمل أستاذا للفلسفة في الجامعة الأمريكية. وقد استطاعت مجلة شعر (1957-1964) في مرحلتها الأولى ( عادت للصدور عام 1967) حين انضم إليها فؤاد رفقة أن تقدم للشعر العربي دفعة حاسمة ضمن مراحل تطوره، وهو يشكل الجناح السوري فيها مع مؤسسها يوسف الخال وأعضائها الآخرين: أدونيس ونذير العظمة ومحمد الماغوط وسنية صالح وخالدة سعيد مقابل الجناح اللبناني شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وعصام محفوظ. ويرى رفقة أنه " لم تكن مجلة شعر حركة شعرية فقط، كانت حركة ثورية تجديدية على الصعيد الثقافي". فقد شكلت جماعة مجلة شعر بشعرائها ودار النشر الخاصة بها ( أصدرت دواوين شعرية ودراسات نقدية وروايات)، المرحلة الثالثة في تاريخ تطور الشعر العربي خلال القرن العشرين وتتبعها جماعة كركوك الأدبية ( تأسست عام 1958) بشعرائها فاضل العزاوي وسركون بولص وجان دمو ، بعد المرحلة الأولى لشعراء كتاب الديوان (1921) لعباس محمود العقاد ولإبراهيم المازني وانضم إليهما الشاعر عبدالرحمن شكري بالإضافة إلى شعراء المهجر الشمالي لا الجنوبي من خلال كتاب "الغربال"(1923) لميخائيل نعيمة ( الذي قدم له العقاد نفسه) وأعمال جبران خليل جبران وأمين الريحاني وإيليا أبي ماضي ، وهذا ما دفع الشاعر السعودي محمد حسن عواد إلى إصدار كتابه " خواطر مصرحة" (1926). وأما المرحلة الثانية فهي لجماعة مجلة أبولو(1932-1934) بمؤسسها ومنظرها أحمد زكي أبو شادي وشعرائها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وأبي القاسم الشابي وحسين عفيف كما يجايلها ذات الفترة مجلة الأديب (1942-1983) لمؤسسها ألبير أديب ، وقد انطلقت منها تجربة التفعيلة مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومحمود البريكان ونزار قباني بقدر ما خدمت الشعر المنثور مع ثريا ملحس وإلياس زخريا ونقولا قربان ، وقد شهدت بدايات أنسي الحاج ثم جاءت مجلة القيثارة (1946-1947) لجماعة الشعر الجديد لمؤسسها عبدالعزيز أرناؤوطي لتسهم في هذه المرحلة أيضاً من خلال شعرائها نديم محمد وسعيد عقل ونزار قباني وفاتح المدرس(الشاعر لا الرسام) وإدوار برصوميان كما أنها شهدت بدايات الشاعر أدونيس . ويمكن إضافة المرحلة الرابعة وهي مرحلة الثمانينيات التي نهض بها شعراء السبعينيات في أكثر من بقعة عربية سواء كانوا منخرطين في جماعات أدبية أو نشطوا في تأسيس وإدارة تحرير ملاحق ثقافية متخصصة في الصحف والمجلات، إذ يمكن أن نقترح جماعة إضاءة 77 ( تأسست عام 1977 ) في مصر على رأسها حلمي سالم وأمجد ريان، وجايلتها أسماء لبنانية مثل بول شاوول وعباس بيضون ومحمد العبدالله، ومجلة كلمات ( تأسست عام 1987) التي أسهم فيها قاسم حداد وعلي الشرقاوي بالإضافة إلى أسماء من الخليج العربي والمغرب العربي كذلك. وبرغم أن رفقة يعد الشاعر الأقل ضجيجاً سواء في التنظير والشعر والترجمة مثل أدونيس ونذير العظمة، ويتقرب من عزلة وفرادة إبراهيم شكر الله وشوقي أبي شقرا ( حيث يشترك مع الثاني في استثمار المعجم الريفي) كما يبتعد عن الفعالية الثقافية عند يوسف الخال وأنسي الحاج، ولا يشابه الصخب الذي تحفل به تجربة محمد الماغوط وعصام محفوظ.غير أن إخلاص رفقة للشعر من حيث هو شعر سواء في كتابته أو ترجمته عن الألمانية. خربة الصوفي المهموم "أظن أنني أشبه المعري أو أكمل خطه الشعري أو خط التصوف في الإسلام. إنني أشعر بالفعل خارج الوجود الشعري بأنني سمكة خارج الماء. الشعر مائي وهوائي ومدينتي وبيتي ولهذا قضيت حياتي أكتب الشعر أو أترجمه وفي الحالتين كنت مع الشعر". هذا مقطع من حوار شهيرة أحمد ( جريدة الاتحاد،2009) حيث يؤكد أنه أقرب إلى السلالة الشعرية المتفرعة من زهير بن أبي سلمى المتصلة بأبي العلاء المعري وابن عربي والحلاج وابن الفارض وصولاً إلى المتصوف السوري خير الدين الأسدي (1900-1971) صاحب ديوان " أغاني القبة" (1951) الذي أنجز موسوعة حلب الشهيرة. كما لا يخفى الأثر الصوفي في شعر أدونيس (1930 ) منذ مجموعته "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" (1977) ثم في مجموعة"أبجدية ثانية" (1994). كذلك الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1930-2010) الذي انطلق من خلال ديوان " من دفتر الصمت" (1968) وتركت التجربة الصوفية ظلالها عليه، وقد أسهم على مقربة منهم الشاعر أنسي الحاج (1937) من خلال ديوانه الخامس "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975) وإن كان أقرب إلى الغنوصية الشعرية( الصوفية المسيحية). غير أنه لا يمكن تجاهل التجربة الشعرية للرسامة والشاعرة هدى النعماني (1930) صاحبة ديوان " إليك" ( 1970)التي توازيها تجربة الخطاط والرسام سمير صايغ (1949) الذي أصدر ديوان "مقام القوس وأحوال السهم" (1980). وإسهام فؤاد رفقة في أكثر من عمل يكشف عن تكريس التجربة الشعرية حين يدمج فيها الحكمة الفلسفية والصوفية حيث نرى ملامحها في نصوص مجموعته الشعرية "عودة المراكب" (2009):"قفص معدني/ من ثقوبه/ باشق يلمح الأحراج/ رائحة الوعر: يدور/ حول نفسه يدور/ يتعثر/ يسقط/ في ريشه يغيب/ تحت أشلاء الصور/ صديقان هو وحطاب الشعر" كذلك في مجموعته الجديدة والأخيرة " محدلة الموت وهموم لا تنتهي"(2011):"أبعدَ من الأفق/ ومن سديم الغيب/ كنتَ البارحة/ واليوم/ أقرب للعين من البصر/ أيها المنجل الأعمى". ترجمة حضارية رفقوية "في ألمانيا احترام هائل للشعر، وله حيز معتبر وموقع مقدر في الفلسفة. لهذا السبب، ولأنني معنيُّ بالشعر والفكر معاً، عثرت على ضالتي في الحضارة الألمانية ووجدت فيها بيتي وخلاصي وإنقاذي." هكذا يجيب محاورته شهيرة أحمد ( جريدة الاتحاد 2009). حيث استطاع أن يجد معادلاً حضارياً انبثق معه الجانب الجمالي والنفسي في خياره بالتماس والتجربة الشعرية الألمانية. فهو أغنى الثقافة العربية من خلال ترجمات لأعمال الشعراء الألمان ريلكه وهلدرلن ونوفاليس وهيسه وسيلان وبريشت وغوته وسانتغيرات. بدأت الترجمات تتوالى منذ عام 1969 حتى عام 2009. وقد رأى رفقة أنه لا يمكن فهم أي شاعر من دون خلفية فلسفية "مثلما لا يمكن فهم هايدغر من دون الاطلاع على ريلكه وهولدرلن وتراكل... حتى أن بعض الفلاسفة في ألمانيا يعتبرون الشعر أهم من الفلسفة. إذا أردت أن تعرف نظريتك مضبوطة أم لا، اقرأ الشعر". كما أنه يرى أن" الشعر يغذي الفلسفة والفلسفة تغذي الشعر. أكثر من ذلك، بعض الفلاسفة الألمان مثل شلّينج يعتبرون الشعر أهم من الفلسفة كطريق للحقيقة، وكذا عندما يتحدث هَيْدِغِّر ونيتشة عن الفن اليوناني. شيلّينغ، هايدغر، دلتاي وآخرون كثر اعتمدوا على العبارة الشعرية ركيزةً لمواقفهم". هكذا يرى رفقة الشعر الذي ذهب به إلى الفلسفة كما ذهب به إلى اللغة الألمانية ثم أعاده إلى العربية ومن الفلسفة وصل حالة تصوف حتى زهد بالموت نفسه ... الأعمال الشعرية: مرساة على الخليج (1961)، حنين العتبة (1965)، العشب الذي يموت (1970)،علامات الزمن الأخير (1975)،أنهار برية (1982)،يوميات حطاب (1988)،سلة الشيخ درويش(1990)،قصائد هندي أحمر(1993)، جرّة السامري(1995)، خربة الصوفي(1998)، بيدر(؟)،خربشات في جسد الوقت (2000)،وادي الطقوس (2002)، كاهن الوقت (2004)،عودة المراكب (2009)،تمارين على الهايكو(2010)، محدلة الموت وهموم لا تنتهي (2011). الأعمال الأخرى: الكتب النقدية: الشعر والموت (1973)، أمطار قديمة (2003). الترجمات الأدبية والفلسفية: قصص ألمانية حديثة (1966) بمشاركة مصطفى ماهر ، مجدي يوسف،غناء العناكب و قصص ألمانية أخرى (1967) بمشاركة مصطفى ماهر ، مجدي يوسف ، سمير التنداوي، راينر ماريا ريلكه: مختارات من شعره إلى العربية(1969)،هلدرلن : مختارات من شعره(1973)،شعر أمريكي معاصر: مختارات(1985)،غيورغ تراكل: مختارات(1987)، نوفالس:مختارات(1992)، أولي كومندا سانتغيرات : مختارات من شعرها ( 1994)، مراثي دوينو راينر ماريا ريلكه (1997)، من تجربة الفكر وطريق الحقل، مارتن هايدغر (2004)،قصائد ألمانية معاصرة (2008)،هيرمن هسه : قصائد مختارة (2009). يوسف الخال متوسطاً شعراء مجلة شعر ومنهم أدونيس، فؤاد رفقة، محمد الماغوط