التحولات في المشهد العربي، ترصد الصورة أدق تفاصيلها، لا يمكن الهروب من معالم الصورة. وإذ نراها اليوم ونراقب مساراتها السلبية والايجابية، فنحن أمام تحولات ضخمة تنقلها صورة عابرة للحدود والسدود والحجب ساعة بساعة.. وستكون الدهشة كبيرة عند قراءة تفاصيلها ومفرداتها وعناوينها وتطوراتها السريعة. عبارات سيطرت على الشارع العربي منذ مطلع هذا العام، أكثرها شهرة (الشعب يريد..) المهم ان يعرف ماذا يريد! جماهير (مزنوقة) في مواجهة حكومات (مزنوقة) في مرحلة أدخلت العرب إلى (زنقات) قد تؤدي إلى شارع الحرية الفسيح أو تقودها إلى نفق معتم. (الزنقة) الكبرى التي تؤدي إلى المجهول وليست نافذة لطريق الحرية الأوسع، هي ثمرة حراك يرفع أو يضمر شعاراً طائفياً أو فئوياً. الشعوب العربية التي حققت قدراً من التعاطف مع ثورتها، وستقطف ثمارها اليوم تلك التي تمتعت بنسيج وطني متماسك من النادر ان تصطك أذنك بكلمات عربية فصحى في الشارع المصري، الفصحى ليست لغة الشارع الثائر. من الذي اطلق (الشعب يريد..) لتصبح أشهر شعار ثوري في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين في بلاد العرب.. وهو شعار جذاب ومرن.. فمرة يريد اسقاط الرئيس وأخرى يريد اسقاط النظام وبينهما يريد اسقاط الحكومة. لم يطلق من أبدع الشعار في هذه المرحلة: (المواطن يريد..)، هل كان وعياً كامناً ان شعار المواطنة شعار حكومي، أو مفرغ من مضمونه، أو يوحي بمفهوم يتناقض مع مشروعية التغيير. الشارع المصري ليس فقط معجوناً بالعامية، بل هو متطرف في عشقها، ولذا أصبح شعار (الشعب يريد.. ) قابلاً للتصدير الشارع المصري أسير لهجة جميلة وسلسة وطريفة وفعالة (مش ح نمشي.. هوا يمشي).. ما الذي أغراه بهذا الشعار الصارخ حتى أصبح لازمة ثورية في عصر مختلف. تلقف الناس في أكثر من قطر عربي هذا الشعار، الهوى العربي أسير لغته الجامعة الحية، شعار من أربع كلمات قابلة للتحكم، إنما الثابت فيها ان (الشعب يريد). لم يكن لليبي الذي يريد اسقاط العقيد، أو اليمني الذي يريد اسقاط الرئيس، أو الأردني الذي يريد اسقاط الحكومة أو اللبناني الذي يريد اسقاط الطائفية، أو الفلسطيني الذي يريد اسقاط الانقسام.. ان يتذوق سواه. انه أشهر شعار عربي أطلقه المصريون بتلقائية في ميدان التحرير. حاصرت الخطبة القذافية الأولى الانتفاضة الشعبية حتى الزنقة، حتى لم يجد المتظاهرون سوى خيار وحيد عندما تحولت الزنقة إلى (شارع سد).. زنقة القذافي، حظيت بشهرة فاقت أي شعار طريف من شعارات المصريين الثائرين بميدان التحرير. صنع القذافي طرافة نادرة في بلدان المشرق العربي - رغم مأساوية المشهد - الذي ظل جزءاً من شعبه يتساءل عن الزنقة وأبعادها وحدودها، وهل تؤدي إلى نهايات مفتوحة الأفق، أهي قابلة للنفاذ من زقاق إلى زقاق، أم هي أقرب إلى لعبة اللوغو.. إلاّ أنها لعبة دموية باهظة الكلفة؟! (انزلق) الشارع المصري فخرج لميدان التحرير، واستلم المشهد بعده الشعب اليمني الكادح في ميدان التغيير. الصورة الحية قدمت شعباً يمنياً يعشق المرح حتى وهو يواجه خطر غازات الأعصاب المروعة. مشهد غير متوقع، منولوج يمني شعبي ساخر وسط جمهور يردد (الشعب يريد..) هذا الصعود المفاجيء من منولوج يمني شعبي ساخر تستدعي الابتسام أو الاسترخاء.. فيأتي التجاوب محلقاً وصارخاً (الشعب يريد..).. هذا الصعود بين طرافة السخرية العامية وصدامية وعنفوان الشعار الفصيح كسر الحواجز بين عالمين في تناوب صارخ لا يمكن التنبؤ بما سيأتي بعده. شعار تصنعه القاهرة لتتلقفه صنعاء.. وهي لا تتخلى عن سخريتها اليمانية المعجونة بالمرارة والألم. شعب يأكل ويشرب والخنجر اليمني مشدود في وسطه، أداة توحي برمزية الجهوزية القتالية، ومع ذلك يصر على البقاء في ميدان التغيير وهو يردد (الشعب يريد..).. السؤال: هل بالفعل ثمة وعي تأصل في عقل جمهور اكتشف فاعلية وجدوى سلمية الشعار؟ مازالت ثورتي الشعوب في تونس ومصر نموذجتين إلى درجة ان أصبح ميدان التحرير قبلة الزوار الكبار. ما عداها دخل عتمة البحث عن مخرج بعد ان تسربت لها أدواء الطائفية المتعصبة والفوضوية المدمرة كما الحالة البحرينية، أو أنجرت إلى حالة احتراب ومواجهة دموية بانتظار الحسم.. كما في المشهد الليبي. هناك تشابه مع الفارق ليس فقط بين رؤساء جمهوريات العرب الذي تعرضوا لانتفاضات شعوبهم، وحتى فيما يتعرض له الشعب المنتفض من وسائل ممانعة، وكأن الدروس العربية مجانية وتستعاد ببلادة في كل ميدان. الرؤساء العرب الذي امتدت بهم الأعمار والأقدار والقبض على مفاصل الرئاسات عقوداً من الزمن.. بدأت خطبهم الأولى باستخدام الفزاغات لردع المتظاهرين بلغة تقترب من خشونة الخطاب لا محاولة التهدئة، ثم يعودون في الخطبة الثانية في محاولة لترقيع ما يمكن ترقيعه بقرارات هي أشبه بالمناورة المتأخرة، ثم تتقدم لغة الخطاب إلى حد الاعتراف بالتقصير والخلل مع التذكير بالمخاوف من الفوضى المحدقة.. وقد تنتهي هذه الخطب بنوع الآن «فهمتكم» أو «أعي مطالبكم» أو يستمر مسلسل الممانعة مع التوجيه بالعمل «شعبيات جديدة» (وهذه خاصة بالقذافي فلا يوجد لديه ما يقدمه غيرها)!! هناك تشابه حتى في طريقة ممانعة تلك التظاهرات.. ففي ميدان التحرير في القاهرة جاءت «موقعة الجمل» واطلق المصريون على المهاجمين المعززين بالعصي والسيوف والسكاكين (بلطجية) النظام. أما في ميدان التغيير في صنعاء فأطلق اليمنيون على الفلول التي هاجمتهم بالسيوف والخناجر والحجارة (بلاطجة) النظام. أما نظام القذافي فهو حالة خاصة.. فهو لا يعترف بالسيوف والحجارة في زمن الكتائب المسلحة بالمدافع والطائرات والدبابات.. فهو بدأ الخطبة الأولى بثورة مضادة (ثورة.. ثورة.. ثورة)، ولم يكتف بتهديد المتظاهرين بالحصار في ميدان الساحة الخضراء بل ملاحقتهم حتى اخر زنقة. إلاّ ان أكبر (زنقة) تقتل أي مطالب شعبية، فهي تلك التي تحركها التنظيمات الفئوية والطائفية، إنها معول كبير للتقويض، ولن تقوى على إنجاز أي مشروع تحول سلمي تدريجي يحقق أي مطالب ممكنة. بل هي خطر كامن على مستقبل أي حراك شعبي، فالمطالب تكتسب مشروعيتها من مشروعية أدواتها، ومن ممكناتها، ومن أهدافها ومن الثقة الوطنية بها ومدى الالتفاف الشعب حولها. يجب الاعتراف بأن المنطقة العربية ليست نسيجاً واحداً، حيث يمكن استنساخ تجربة الحراك الجماهيري المطلبي من قطر لآخر. فما كان يقوم به الحراك الجنوبي باليمن مني بالفشل رغم تواصله لأكثر من عامين، والحوثية تراجعت بعد مأزق الاحتراب الداخلي.. ولو تحركت اليوم شعارات المذهبية أو القبيلة في اليمن فستكون كارثة ماحقة على أي مطالب شعبية سلمية. المطالب المشروعة إذا فقدت شرعية أدواتها عبر توظيف الطائفي والفئوي ستكون خطرا ماحقا على السلم الأهلي وعلى وحدة الأوطان. (الزنقة) الكبرى التي تؤدي إلى المجهول وليست نافذة لطريق الحرية الأوسع، هي ثمرة حراك يرفع أو يضمر شعاراً طائفياً أو فئوياً. الشعوب العربية التي حققت قدراً من التعاطف مع ثورتها، وهي تقطف ثمارها اليوم تلك التي تمتعت بنسيج وطني متماسك.. وبوعي سياسي تجاوز فكرة الارتهان لوعي الطائفة الضيق.. إنها تلك الشعوب التي استلهمت من السلمية أداة.. ومن تماسك النسيج الوطني مقوماً.. ومن المطالب الجامعة شعاراً.