من يرى أن المشروع الثقافي تحصيل حاصل ولا يحمل ذات الأهمية التي تحملها قضايا أخرى، فهو بشكل أو بآخر يتجاهل أن الثقافة بمفهومها الشامل ذات الأثر الأكبر في تشكيل شخصية الإنسان، وهي التي تؤثر في سلوكه وخياراته وهي التي تحدد أولوياته، بل هي من يحدد رؤيته تجاه قضاياه الأخرى. اتساع الحيز الثقافي في تكوين إنسان يعني اتساع مساحة رؤيته لعالمه. وبهذا المفهوم فهي تساهم في إعادة ترتيب نسقٍ ذهني قادر على انتشال الإنسان من وهدة اليومي واحتباساته، كما أنها تحول دون الوقوع في براثن التجهيل أو التلقين لاتساع دائرة التلقي، والانفتاح على الآخر، وتعظيم مساحة التسامح، وتقدير الملكات والمواهب. إلا أن انعكاسها الأهم يبدو في تعزيز قدرات الإنسان عند تحديد مواقفه من قضايا ذاتية واجتماعية عبر تعظيم عائد التفكير الموضوعي القائم على رصيد جيد من المعرفة والاطلاع. المجتمعات التي تزداد وتنمو فيها شرائح المثقفين هي أكثر المجتمعات حصانة من عوامل الاختراق بكل أنواعه سواء من الثقافات الضارة التي ستملأ هذا الفراغ الذي لابد من ملئه، أو ثقافة الاستلاب والجور على عقل إنسان.. ربما ظل موحشاً دون ذلك البريق وكما أن الذات الواعية لا يمكن أن تستلب أو توظف لصالح مشروع تدميري أو عبثي، فكذلك الثقافة الجيدة من خلال قدرتها على تلبية احتياجات نفسية وعقلية، دونها تظل الحياة دوامة في يوميات باهتة أو مستهلكة للذات، وانصراف لملء فراغ وجداني وعقلي بتصورات واتجاهات وانهماك قد تكون آثاره السلبية أكبر بكثير من نتائجه الايجابية . الثقافة كمشروع إبداعي وتنويري يستهدف ترقية المواهب والقدرات، كما أنه ترقيه للذائقة والعقل والفكر بما هو أجدى وأعمق وأمتع. وهذا الأثر يظهر في الحياة بوضوح من خلال سلوكيات واختيارات وتوجهات وعلاقات تحمل سمتها من المضمون الثقافي الذي يحمله الفرد أو المجتمع. المؤسسات الثقافية كيانات كبرى تتوزع وتنتشر وتستقبل وتحفل وتشكل قيمة لا يمكن تجاوزها في أي مجتمع يدرك أهمية الدور الذي تشكله هذه المؤسسات، وهي المختبر الذي يعلن عن بروز القامات الثقافية أياً كان نشاطها أو مجال إبداعها. يأتي السؤال بعد كل هذه السنوات ماذا أنجزنا في المشروع الثقافي؟ ماذا تحقق أكثر من جمع بضعة نشاطات متفرقة تحت عنوان وزارة؟ ومنذ مؤتمر المثقفين السعوديين الأول والأخير الذي عقد في عام 2004، أي منذ ما يقارب ست سنوات، يطل السؤال أين ذهبت التوصيات والمقترحات والى أين وصل مشروع استراتيجية التنمية الثقافية، وماذا تحقق في مشروعها؟ وهل تحولت إلى خطة تنفيذية؟ الإجابة عن تلك التساؤلات هي من يقدم المؤشرات الضرورية لفهم المسار الذي يتحرك فيه مشروع ثقافي لم ير النور بعد. أليس من الخلل أن يُختزل المشروع الثقافي ليظل بضعة أندية أدبية وجمعية فنون تشكيلية أو شعبية ومعرض كتاب سنوياً... بينما الشأن الثقافي مشروع أوسع يطال الأدبي والعلمي والفني والفكري والإبداعي بشكل عام، ويطال ثقافة الطفل، ويطال البنية الأساسية الذهنية التي تؤسس بجوار التعليم أهم مصادر تكوين الشخصية الإنسانية. ليست المشكلة في إعداد دراسات مفصلة عن قضايا ثقافية لها أهمية كبيرة في تفعيل العمل الثقافي في المملكة كقضية حقوق المثقف، وإعداد مقترحات ودراسات بشأن إنشاء مؤسسات ثقافية جديدة أو تحوير وتطوير مؤسسات وبنى ثقافية قائمة .. كل هذا يظل في إطار توصيات لا يكفي فيها إعداد الدراسات ولا تكثيف المشورات طالما كان التوقف سمة طويلة ومعطلة. وبعد ستة أعوام من المؤتمر الأول للمثقفين السعوديين الذي خرج بعدة توصيات منها إنشاء مراكز ثقافية شاملة في مدن المملكة المختلفة توفر كافة التجهيزات اللازمة لمختلف أوجه النشاط الثقافي والفني، وتحديث الأنظمة واللوائح والتنظيمات المتعلقة بالمؤسسات الثقافية المختلفة كالأندية الأدبية وغيرها بما يضمن لها ملاءمة التطورات الحديثة في التنظيم والإدارة الجماعية ويساعدها على ارتياد آفاق جديدة في عالم الثقافة الواسع....كل هذا يظل في إطار مشروع توصيات حتى لو صدرت استراتيجية ثقافية .. فالاستراتيجيات لا قيمة لها طالما لم تتحول إلى مشروعات حقيقية. لن يكون لأية استراتيجية أهمية تذكر طالما لم تتحول إلى خطة ومشروعات تنفيذية. لقد أصابتنا خلال السنوات الماضية حمى الاستراتيجيات، وهي وإن كانت أسساً ضرورية لابد منها لمواجهة أي مشروع كبير يتطلب المزيد من الدراسات والتخطيط الجيد، لكن إذا ما توقفنا عن الدراسات والاستراتيجيات فلن يكون هذا سوى جهد مهدر بلا طائل. وليس من المتعذر أن يكون البدء في تنفيذ بعض المشروعات إذا تعذر البدء بها جميعا. لم تعد الأندية الأدبية مجالا حيويا جاذبا للمجتمع السعودي، وهي أندية نخبوية ضيقة تكاد تتحرك في دائرة الإبداع الأدبي دون أن تصل لمستوى أن تكون مراكز ثقافية قادرة على وضع أجندة الثقافة الجماهيرية ضمن مشروعها. سنوات طويلة مرت على إنشاء هذه الأندية الأدبية، هل كشفت الدراسات التي أجرتها الوزارة عن ضعف فاعليتها في المجتمع، وضعف قدرتها على البقاء في مواجهة استحقاقات ثقافة جماهيرية مغيبة، وهل اكتشفت الوزارة أنها تشهد عزوفا مستمرا لتواضع إنتاجها وتأثيرها؟! ألا يمكن للوزارة الشروع في بناء مراكز ثقافية وطنية في كل مدينة كبيرة تحت مظلة مؤسسة لها مشروع وبرامج تستهدف التأثير في الثقافة الجماهيرية وتطال الأدبي والعلمي والفني وثقافة الطفل والمسرح والفن التشكيلي لتحل محل أندية أدبية بلا اثر اجتماعي عائد يمكن قياس عوائده. ألا يمكن أن تشرع الوزارة في تأسيس هيئة للكتاب ومعرض دائم للكتاب السعودي وتضع نظاما محفزا للناشر السعودي والمؤلف السعودي وتقدم جوائز سنوية في هذا القطاع الثقافي؟ هل تتطلب هذه المهمة أيضا إمكانات كبيرة أم يكفي أن يُوجه لها جزء من الإمكانات المتاحة حاليا؟ ألا يمكن أن تخفف مركزية الإشراف على هذا القطاع ليصبح هناك مرونة ليضع برامجه وينسق خططه ويبحث عن جمهوره ويدعم مقدراته عبر التنافس بين تلك الفعاليات وتنمية مردودها الثقافي؟ ألا يمكن أن تشجع الوزارة وتدعم فكرة إنشاء مراكز ثقافية أهلية وأن تسهل مهمة الحصول على التراخيص لتصبح إضافة للمشهد الثقافي الوطني. وأستدعي هنا مركز صالح بن صالح الاجتماعي- الثقافي بعنيزة. هذا المركز الأهلي الذي أصبح علامة مضيئة في مدينة مثل عنيزة بينما تفتقد كثير من المدن مراكز مماثلة. ألا يمكن للوزارة أن تساهم في التعجيل بظهور جمعية الكتاب والأدباء السعوديين التي نامت طويلا، ولا نعلم أين وصل مشروعها، ولماذا تصبح مثل تلك الجمعيات تمنح بالقطارة، بينما يمكن أن يكون حتى لفنون الكتابة المختلفة جمعيات مماثلة، ويمكن أن يكون لكل المشتغلين بنشاط ثقافي جمعية تمثلهم وتربطهم ضمن دائرة الاهتمام والممارسة المشتركة؟! لا تستهينوا بالمشروع الثقافي... المجتمعات التي تزداد وتنمو فيها شرائح المثقفين هي أكثر المجتمعات حصانة من عوامل الاختراق بكل أنواعه سواء من الثقافات الضارة التي ستملأ هذا الفراغ الذي لابد من ملئه، أو ثقافة الاستلاب والجور على عقل إنسان.. ربما ظل موحشاً دون ذلك البريق.