كان من الطبيعي ألا تستمر فوضى الفتاوى التي سادت مجتمعنا منذ أكثر من عامين وبلغت حدًا لا يمكن الصمت عليه ، إذ لم تعد بابًا للاجتهاد الملتزم بضوابط ، ولا وسيلة للتيسير على الناس، ولا خاصة بمن يحق لهم الفتوى ، فمارسها كثير ممن لا يحق لهم أن يفتوا، وليسوا مؤهلين لها ، واتخذها بعضهم مهنة للتكسب ووسيلة لإثبات الوجود والتشويش على المجتمع ، واستفاد منها كل من أراد أن يشيع الفتنة أو يصفي حساباته مع الذين يختلف معهم، كما استغل نفر مناخ الفوضى هذا فحرّم أمورًا ، وعندما مارسها أسبغ عليها اسمًا آخرَ ، وأضفى عليها شرعية خاصة به ليحمي نفسه من الانتقاد ، وبعضهم أفتى ثم تراجع أو كذّب أو تبرأ مما نسب إليه ! فاختلط الحابل بالنابل ولم يعد المتلقي يعرف ما الفتوى وما الاجتهاد وما الرأي الشخصي ؟ ومن الصادق ومن المغرض ؟ ومن الشيخ ومن التاجر؟! وحتى الآراء الفقهية التي لا تلزم سوى صاحبها أنزلها بعض المتشددين منزلة الفتوى الملزمة للجميع ، وكان حتميًا أن يكثر المزايدون والهتافون والمحرضون ومثيرو الشغب والأنصار والمناوئون لهذا المفتي أو ذاك ، حتى بلغنا حد التكفير والتحريض على القتل وغير ذلك ، مما جعلنا أضحوكة لفرط غرابة الفتاوى وتناقضاتها ووحشية بعضها ، وكان بعضها يأتي كرد فعل للالتفاف على بعض الأمور المستجدة ، خصوصا ما له صلة بالمرأة والتعليم ، فلا يكاد يصدر أمر أو تنظيم أو دعوة حتى تقتحمنا فتوى مناهضة تسير بها الركبان والفضائيات ، وصارت الفتوى ملازمة للجديد أيًا كان ، تحشد لها الأدلة والنصوص الصحيح منها والضعيف ، ولم يقتصر الأمر على الفتاوى بل صاحَب ذلك إصدار البيانات التي تعارض وتعرّض وتحرّض وتنكر، أدمن ممارستها جمع من الهواة والمشتغلين في الشأن العام ، حتى منبر الجمعة في المسجد الحرام كان له نصيب من ذلك ؛ إذ صار يخوض في أمور ليس الحرم مكانها ، كما أسهم في هذا المناخ المحتسبون ومفتو الفضائيات والهواتف الذين حولوا الفتوى إلى تجارة رابحة تبعا لأهداف اقتصادية أوسياسية ! وقد اتكأ الأمر الملكي على عدد من آي الذكر الحكيم التي تحض على الاستئناس برأي أهل الذكر ، وتحذر من القول على الله بلا علم والكذب والافتراء ، والتحريم والتحليل دون دليل قوي ، والنهي عن الفرقة والاختلاف ، والتعاون على الإثم والعدوان. وكثيرًا ما تساءل العقلاء في خضم تلك المعمعة أمَا لهذه الفوضى من آخر ؟ وفي أي مجتمع نحن ؟ فتارة نغدو كطالبان لفرط التخلف والتوحش ، وتارة إخوان مصر لترسُخ الحزبية والحركية ، وتارة أخرى يستعصي الأمر على التصنيف فيبدو لا مثيل له . جاء الأمر الملكي بتنظيم الفتوى وقصرها على مؤسسة الإفتاء ليضع حدًا لتساؤل الناس واستنكارهم ، ولقطع دابر هذه الفوضى التي اتسمت بتجاوزات وتلاعب بالفتوى تستوجب المحاسبة والجزاء الرادع ؛ حسب البيان : " رصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم ، لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وتحذير المتلاعبين بالفتوى بلغة واضحة وحاسمة ، فكل من يتجاوز هذا الترتيب سيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائناً من كان " ! وقد اتكأ الأمر الملكي على عدد من آي الذكر الحكيم التي تحض على الاستئناس برأي أهل الذكر ، وتحذر من القول على الله بلا علم والكذب والافتراء ، والتحريم والتحليل دون دليل قوي ، والنهي عن الفرقة والاختلاف ، والتعاون على الإثم والعدوان ، وليس ثمة عدوان أكثر من التلاعب بالفتوى وإشاعة الفتنة والفوضى في أرجاء الوطن . ومن المضامين الدينية والوطنية في الأمر الملكي : - استهداف الدين بقصد أو بدون قصد والنيل من الأمن ووحدة الصف ، والجرأة على الكتاب والسنة ، مما يشكل ضررًا على البلاد والعباد بانتحال صفة أهل العلم ، والتصدر للفتوى . - لم يعد خافيًا أن الدين بات " محلاً للتباهي ، ومطامع الدنيا ، بتجاوزات وتكلفات لا تخفى مقاصدها " - يمنع منعاً باتاً التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء ، ومفردات أهل العلم المرجوحة ، وأقوالهم المهجورة . - مصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار ، ومن يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع ، كائناً من كان . - النأي بمنبر الجمعة عن الدخول في الصراعات والتحريض والتسييس ، إذ هو " للإرشاد والتوجيه الديني والاجتماعي بما ينفع الناس ، لا بما يلبس عليهم دينهم ، ويستثيرهم ، في قضايا لا تعالج عن طريق خطب الجمعة . - الرفع عمن توجد فيهم الكفاية والأهلية التامة للاضطلاع بمهام الفتوى للإذن لهم بذلك ، في مشمول الاختيار لرئاسة وعضوية هيئة كبار العلماء ، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. - ليس الاحتساب بالجلبة واللغط والتأثير على الناس بما يشوش أفكارهم ويتعدى على المؤسسات الشرعية ، أو الإعلان عنه على الملأ ، أو كتابة بيانات الإنكار من طلاب العلم الشرعي والأكاديميين وبعض من أسندت إليهم ولايات شرعية مهمة . - الفصل بين الخاص والعام في أمور الدين ، وحصر الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات ، والمعاملات ، والأحوال الشخصية بين السائل والمسؤول . ولا شك أن الأمر بتأطير الفتوى وحصرها في جهات رسمية ، والتحذير من مقاربتها ممن ليسوا أهلاً لها ، سيحول دون التكسب بالدين – عن طريق برامج الإفتاء - الذي صار سمة لكثير ممن يشتغلون بالعلم الديني في هذه الأيام ! ولم يكن علماء الدين قبل القنوات الفضائية يسعون إلى الشهرة الجالبة للثراء الفاحش ، فكانت الفتوى والدرس الديني لوجه الله ، أما اليوم فهم ينافسون نجوم الفن والرياضة ، وأصبح الدين مهنة من لا مهنة له ، حتى وجد الأدعياء والتائبون من ماض مشين ضالتهم في المحاضرات والجلسات الدينية ، وعدتهم آيات قليلة وبضعة أحاديث وشيء من القصص والحكايات ، وفقدت المحاضرة الدينية اتزانها عندما صار الداعية أو " الشيخ " يغني وينكت ويحكي قصصاً عن ماضيه قبل أن يتدين ، بل تجرأ بعضهم على نعيم الجنة بحديث غرائزي عن الحور العين - بلهجة عامية ساخرة - أقرب ما يكون لأفلام البورنو ، فلم يعد للشيخ ذلك الوقار وتلك الهيبة ! فهذه السوق إن جاز لنا أن نسميها كذلك بحاجة إلى تنظيم وتنقية من المدّعين المتكسبين ، وكذا لقب الشيخ الذي صار يطلق على الجميع دون استثناء . ولعل هذا القرار سيكون بداية لتصحيح كثير من الاختلال الذي أصاب كلّ ما له صلة بالفتوى والدروس والمحاضرات الدينية ، وإنني لأعجب كيف يسمح للهواة والمدعين، وهم كثر، بركوب هذا المركب الصعب دون تأهيل شرعي ؟ فيتصدون للمحاضرة في جموع أغلبهم من الشباب الذين لابد أنهم سيستسهلون الأمر عندما يرون كيف أصبح أولئك البسطاء من ذوي الشهرة والثراء الفاحش . كما أن حصر الفتاوى الخاصة غير المعلنة بين السائل والمسؤول – حسب الأمر الملكي - سيحول دون برامج الإفتاء التي تبث من خلال القنوات الفضائية ، وكذا من خلال مواقع الإنترنت ، لكن هذا سيفتح المجال واسعا أمام فتاوى الهواتف الجوالة ، إذ سينشط ذلك السوق فيصبح لكل داعية ممن لا ينضوون تحت مظلة كبار العلماء هاتف يستفتي الناس من خلاله بمبالغ طائلة في شؤون يعرفها طالب المرحلة الابتدائية ، فعطلوا العقول وأوقفوا العمل بالأحاديث الداعية إلى إعمال العقل واستفتاء القلب ومعرفة الحلال والحرام ، والبر والإثم ، وصار الناس يستفتون في كل شيء ، وأصبح كل ما له صلة بالدين من قرآن وأحاديث وأدعية ، وصلاة وصيام وحج وزكاة مجالا للتكسب بمبالغ باهظة قد تبلغ آلاف الريالات شهريا ، حتى مواقيت الصلاة صار بعضهم يتكسب بها إذ يرسل صاحب الهاتف رسالة ليعلمه الهاتف بمواعيد الصلاة ، التي كان أجدادنا ومن سبقهم يعرفونها حتى قبل أن يعرفوا الساعة ، أفلا يحتاج سوق الفتوى عبر الهاتف تنظيمًا أيضا كي لا يُسمح بإثراء أناس ثراء فاحشًا باستغلال الدين ؟ لم يفت بعض أهل الأهواء أن يحرّفوا الأمر الملكي عن وجهته الحقيقية ، فمال بعضهم إلى اعتباره موجها إلى ثلاث فتاوى هي فتوى الاختلاط وفتوى إرضاع الكبير وفتوى الغناء ، وذلك كي يجعلوه خاصا بشخصيات ثلاث ، لينزهوا أنفسهم ، وليظهروا بمظهر من هو فوق المساءلة والمحاسبة !!! أخيراً إن توسيع دائرة هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ؛ للتوسعة على الناس وللتقليل من التشدد ، امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم (يسّروا ولا تعسّروا ) ! وانسجاماً مع الأمر الملكي الداعي إلى الرفع إليه بمن توجد فيهم الكفاية والأهلية التامة للاضطلاع بمهام الفتوى للإذن لهم بذلك ، في مشمول الاختيار لرئاسة وعضوية هيئة كبار العلماء ، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.. سيكون له فائدة عظيمة !