أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمرا ملكيا يقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء ومن يتم لهم الإذن بالفتوى ممن ترى فيهم الهيئة القدرة على الاضطلاع بالفتوى، مستثنيا من ذلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، على أن يمنع منعا باتا التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء ومفردات أهل العلم المرجوحة وأقوالهم المهجورة، وكل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائنا من كان. جاء في الأمر الملكي الكريم الذي وجه إلى المفتي العام للمملكة رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء ورئيس هيئة كبار العلماء، والجهات المعنية «انطلاقا من قول الحق جل وعلا: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون* بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾، وقوله سبحانه: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾، وقوله: ﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون* متاع قليل ولهم عذاب أليم﴾، وقوله جل جلاله: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾، وقوله تعالى: ﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون* وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون﴾، وقوله جل شأنه: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾، وقوله: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون* ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾. وعلى هذا الأساس القويم الذي حفظ لنا حمى الدين، وبين خطورة التجاوز عليه والوقوع فيه، ترسخت في النفوس المؤمنة مفاهيم مهمة في شأن الفتوى وحدود الشرع الحنيف، يجب الوقوف عند رسمها؛ تعظيما لدين الله من الافتئات عليه من كل من حمل آلة تساعد على طلب العلم، ولا تؤهل لاقتحام هذا المركب الصعب، فضلا عمن لا يملك آلة ولا فهما؛ ليجادل في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإنما هو التطفل على مائدة الشرع، والعجلة- خالي الوفاض- في ميدان تحفه المخاطر والمهالك من كل وجه». وأضاف الأمر الملكي «تابعنا هذا الأمر بكل اهتمام ورصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم؛ حفظا للدين، وهو أعز ما نملك، ورعاية لوحدة الكلمة، وحسما لمادة الشر، التي إن لم ندرك خطورتها عادت بالمزيد، ولا أضر على البلاد والعباد من التجرؤ على الكتاب والسنة، وذلك بانتحال صفة أهل العلم، والتصدر للفتوى، ودين الله ليس محلا للتباهي، ومطامع الدنيا، بتجاوزات وتكلفات لا تخفى مقاصدها، مستهدفة ديننا الذي هو عصمة أمرنا، محاولة- بقصد أو دون قصد- النيل من أمننا، ووحدة صفنا، تحسب أنها بما تراه من سعة الخلاف حجة لها بالتقول على شرع الله، والتجاوز على أهل الذكر، والتطاول عليهم، وترك ترجيح المصالح الكبرى في النطق والسكوت، بما يتعين علينا تعزيره بما نراه محققا لمقاصد الشريعة، وكل من خرج عن الجادة التي استقرت بها الحال، وسنة سنها رسولنا صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الصحابة رضوان الله عليهم وعلماء الأمة منذ صدر الإسلام، واطمأنت إليها النفوس، ثقة بكبار علمائنا وأعمدة فتوانا، على هدي سلفنا الصالح، ونهجهم السوي، ولأن كان عصرنا هو عصر المؤسسات لتنظيم شؤون الدنيا في إطار المصالح المرسلة، فالدين أولى وأحرى في إطار مصالحه المعتبرة. إن تباين أقوال أهل العلم يتعين أن يكون في نطاق هيئاتهم ومجامعهم العلمية والفقهية، ولا يخرج للناس ما يفتنهم في دينهم، ويشككهم في علمائهم، فالنفوس ضعيفة والشبه خطافة، والمغرض يترقب، وفي هذا من الخطورة ما ندرك أبعاده، وأثره السيئ على المدى القريب والبعيد على ديننا ومجتمعنا وأمننا. إننا بحمد الله أسعد ما نكون بالحق، فلا نعرف الرجال إلا به، ونفرق بين سعة الشريعة وفوضى القيل والقال، وبين اختلاف أقوال أهل العلم فيما بينهم على هدي الشريعة وسمت علماء الإسلام، وبين منازعة غيرهم لهم والتجاوز على حرمة الشرع، كما نفرق بين مسائل الدين التي تكون بين المرء وربه في عبادته ومعاملته، ليعمل فيها- في خاصة نفسه- بما يدين الله به، دون إثارة أو تشويش، وبين الشأن العام مما لا يسعه الخوض فيه بما يخالف ما تم حسمه بآلته الشرعية التي تستند على أقوال أهل العلم بالدليل والتعليل، وهنا نستذكر قاعدة الشرع الحنيف في أنه لا عصمة لأحد إلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا قول نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذه القاعدة الشرعية لا تتعارض ولا تنفك عن الضوابط السابقة، فهي تجري في سياقها، وتتوخى مقاصدها، ولا يزال أهل العلم قديما وحديثا يوصون باجتماع الكلمة، وتوحيد الصف، ونبذ الفرقة، ويدخل في هذا الاجتماع على أمر الدين، وقد ترك بعض الصحابة- رضوان الله عليهم- بعض آرائهم الفقهية؛ من أجل اجتماع الكلمة، وأن الخلاف شر وفتنة. ويدخل في معنى تلك التجاوزات ما يحصل من البعض من اجتهادات فردية، يتخطى بها اختصاص أجهزة الدولة، ولاسيما ما يتعلق بالدعوة والإرشاد، وقضايا الاحتساب، فقد أقامت الدولة- بحمد الله- منذ تأسس كيانها على قاعدة الإسلام، مؤسسات شرعية تعنى باختصاصات معلومة لدى الجميع، وقامت بواجبها نحوها على الوجه الأكمل، لكن نجد من البعض من يقلل من هذا الدور، متعديا على صلاحياتها، ومتجاوزا أنظمة الدولة، ومنهم من نصب نفسه لمناقشتها، وعرضها على ما يراه، وهذا ما يتعين أخذه بالحزم ورده لجادة الصواب، وإفهامه باحترام الدور الكبير الذي تقوم به مؤسساتنا الشرعية، وعدم الإساءة إليها بتخطي صلاحياتها، والتشكيك في اضطلاعها بمسؤولياتها، وهي دعوة مبطنة لإضعاف هيبتها في النفوس، ومحاولة الارتقاء على حساب سمعتها وسمعة كفاءاتنا الشرعية التي تدير شؤونها، التي يتعين عليها التنبه لهذا الأمر، وتفويت الفرصة على كل من تسول له نفسه اختراق سياجها الشرعي والنظامي، والنيل من رجالها، وهم حملة الشريعة وحراسها. ولا شك أن للاحتساب الصادق جادة يعلمها الجميع، خاصة وأن الذمة تبرأ برفع محل الاحتساب إلى جهته المختصة، وهي بكفاءة رجالها وغيرتهم على الدين والوطن محل ثقة الجميع، لتتولى أمره بما يجب عليها من مسؤولية شرعية ونظامية. ولم تكن ولن تكون الجلبة واللغط والتأثير على الناس بما يشوش أفكارهم، ويحرك سواكنهم، ويتعدى على صلاحيات مؤسساتنا الشرعية أداة للاحتساب وحسم الموضوع، بل إن الدخول الارتجالي فيها يربك علم مؤسساتنا الشرعية ويسلبها صلاحياتها، ويفرغها من محتواها، بدعوة واضحة للفوضى والخلل، ومن هؤلاء من يناقض نفسه بإعلان حرصه على هذه المؤسسات وتزكيتها، وعدم النيل منها، ثم يلغي بفعله الخاطئ دورها، ومنهم من يكتب عرائض الاحتساب للمسؤولين فيما بينه وبينهم، كما هو أدب الإسلام، ثم يعلن عنها- على رؤوس الأشهاد- ليهتك ما ستر الله عليه من نية، أو سوء تدبير على إحسان الظن به، وفي مشمول هؤلاء كل من أولع بتدوين البيانات والنكير على الخاص والعام لسبب وغير سبب ومن بينهم من أسندت إليهم ولايات شرعية مهمة. وفي سياق ما ذكر ما نما إلى علمنا من دخول بعض الخطباء في تناول مواضيع تخالف التعليمات الشرعية المبلغة لهم عن طريق مراجعهم، إذ منبر الجمعة للإرشاد والتوجيه الديني والاجتماعي بما ينفع الناس، لا بما يلبس عليهم دينهم ويستثيرهم، في قضايا لا تعالج عن طريق خطب الجمعة. وترتيبا على ما سبق، وأداء للواجب الشرعي والوطني، نرغب إلى سماحتكم قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، والرفع لنا عمن تجدون فيهم الكفاية والأهلية التامة للاضطلاع بمهام الفتوى للإذن لهم بذلك، في مشمول اختيارنا لرئاسة وعضوية هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ومن نأذن لهم بالفتوى، ويستثنى من ذلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، على أن يمنع منعا باتا التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة، وكل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائنا من كان؛ فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار، وقد زودنا الجهات ذات العلاقة بنسخ من أمرنا هذا لاعتماده وتنفيذه، كل فيما يخصه، وسنتابع كل ما ذكر، ولن نرضى بأي تساهل فيه قل أو كثر؛ فشأن يتعلق بديننا، ووطننا، وأمننا، وسمعة علمائنا، ومؤسساتنا الشرعية، التي هي معقد اعتزازنا واغتباطنا، لن نتهاون فيه، أو نتقاعس عنه، دينا ندين الله به، ومسؤولية نضطلع بها- إن شاء الله- على الوجه الذي يرضيه عنا، وهو المسؤول جل وعلا أن يوفقنا ويسددنا، ويدلنا على خير أمرنا، ويلهمنا رشدنا وصوابنا، وأن يسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، ويزيدنا من فضله ويستعملنا في طاعته، إنه ولي ذلك والقادر عليه» .