يبدو أن الرياض بدفئها وكرمها وطموحها قد أثارت مشاعر الكثير من المشاركين في مؤتمر التنافسية الذي أقيم في الرياض الشهر الماضي، وهؤلاء المشاركين هم في الحقيقة من الناس الذين نعتبرهم كالأساطير في عالم الاقتصاد والتقنية، كما نقرأ عنهم وعن انجازاتهم سنين طويلة قبل أن نتصور أن تراهم هنا في المملكة يتحدثون عن تجارب عالمية ناجحة في هذا العالم الصعب، والسير جون روز هو الرئيس التنفيذي لواحدة من اكبر الشركات المتخصصة في التصنيع الثقيل في العالم كمحركات الطائرات، ولقد وجد في المملكة الأرض الناشئة الخصبة الصالحة لنشوء عالم جديد وحضارة جديدة بسياستها الحكيمة المتحابة مع من حولها واقتصادها المتين وطاقاتها الشابة الواعدة، يتحدث السير جون في مقاله عن ما كان يبدو في الماضي كأنه شبه مستحيل بينما نراه نحن الآن غير بعيد المنال وهو الدخول في عالم الصناعات الثقيلة بما تحمله من تحديات صعبة. منتدى التنافسية..خطوة جدية يقول السير روز: يجسد منتدى التنافسية الدولي في الرياض مدى جديّة المملكة العربية السعودية في سعيها الحثيث نحو التنمية الاقتصادية. وقد غدا هذا الحدث نقطة تركيز يتمحور حولها النقاش الدولي وتتناولها دراسات قضايا التنمية العالمية. وقد شرفني أن يتم دعوتي للمشاركة في هذا المنتدى المهم. وتتمثل القضية التي أتطرق إليها - والتي أرى أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمملكة العربية السعودية - في أهمية تطوير اقتصاد متوازن يجمع بين مزايا وفوائد التصنيع ذو القيمة العالية. فباعتقادي، تعتبر الأنشطة عالية القيمة مفتاحاً لتحقيق النجاح الاقتصادي، حيث تجني تلك البلدان التي تستثمر في هذه الأنشطة عالية القيمة من الفوائد التي تدفعها إلى تحقيق النجاح الاقتصادي الطويل الأمد. يتضمن التصنيع ذو القيمة العالية أنشطة تنطوي على ما أسميه "بالمعرفة العميقة". ليس هنالك طريقة واحدة مباشرة لإيجاد هذه القيمة، لكن هنالك عددا من العناصر الأساسية التي تساعد المؤسسات في الحصول على القيمة من خلال التصنيع، حيث يتضمن ذلك تسخير البحث والتقنية واستغلال العلوم والملكية الفكرية التجريبية. وتحتاج الأنشطة عالية القيمة فهماً عميقاً للعملاء، والحلول التي يتم تطويرها لتلبية الاحتياجات المعقدة. وذلك أمرٌ يصعب القيام به بالشكل المناسب. مثال على تقنيات التصنيع ويواصل السير جون حديثة قائلاً: اسمحوا لي، من باب الإيضاح، أن أتناول عنصراً واحداً صغيراً من العناصر التي تشكل مفتاحاً لنجاح المحركات الجوية التي تصنعها الشركة، حيث يتجسد هذا العنصر في "شفرة التوربين الكريستالية المفردة" التي تصنعها الشركة. يوجد 66 شفرة توربين كريستالية مفردة في محرك ترينت 1000 من الشركة الذي شغل طائرة البوينغ 787 في أول رحلة لها الشهر الماضي. توضع كل شفرة مصنوعة من الكريستال المفرد في أتون مفرغ مصنوع من خليط معدني خاص تعود ملكيته لنا. يجب أن تتحمل هذه الشفرة تياراً غازياً تزيد حرارته بمقدار 350 درجة مئوية عن درجة انصهارها، بحيث يعطي قوة تعادل قوة سيارة فورمولا1، ويتحمل قوة تساوي قوة سحب حافلة لندنية ذات الطابقين من مقدمتها. وعلى سبيل الذكر يحتاج تصنيع هذه الشفرة إلى مهارات علماء متخصصين في علوم المواد، والمعادن، والرياضيات، ومقاومة الهواء؛ ومهندسي الاحتراق، والحرارة الجوية، والإجهاد، والتصنيع، والعمليات، ومتخصصين في المشتريات وعمليات النقل والإمداد. وما هذه الشفرة إلا واحدة من أكثر من 2500 قطعة مختلفة في المحرك الجوي التقليدي. أهمية التصنيع الثقيل وبعد هذ المثال تحدث عن اهمية التصنيع قائلاً: يعتبر التصنيع ذو القيمة العالية أمراً بغاية الأهمية لأي اقتصاد وذلك لأنه - وقبل كل شيء – يعود عليه بالأرباح المالية. ولكن في مقارنةٍ للقيمة، نجد أن قيمة محرك الطائرة تزيد عن قيمة الفضة بستة مرات. ومن قبيل المقارنة أيضاً نجد أن قيمة محرك السيارة تعادل قيمة شطيرة الهامبرغر. وليس من قبيل المصادفة أن تكون الاقتصاديات القومية الأولى المتصدرة لهذا العام ضمن مؤشر التنافسية الدولية هي: سويسرا، والولاياتالمتحدة، وسنغافورة. حيث تشترك هذه الاقتصادات الثلاث في العديد من الخصائص ذاتها؛ كالمستويات العالية من استثمارات البحث والتطوير، والتعاون القوي بين الصناعة والأوساط الأكاديمية، والترجمة الناجحة للبحث عن منتجات وخدمات قابلة للتسويق، ومرونة سوق العمالة. ومن الفوائد الأخرى للاستثمار في مجال الأنشطة عالية القيمة أنها تتيح خيارات جديدة للأفراد والشركات والبلد ككل. عندما تسعى أي شركة لتطوير قدراتها في القطاعات المتقدمة، سواء أكانت في: الطيران، أو المستحضرات الصيدلانية، أو المجال الطبي، أو الطاقة النووية، أو تقنية المعلومات؛ فإن الآثار المترتبة على الفشل في هذه القطاعات تكون آثاراً هائلة. لذلك يتوجب عليك صقل تقنياتك وعملياتك ومهاراتك لتكون بأعلى المستويات، لتعمل في أقصى حدود الممكن، بحيث يمكنك تحويل كافة القدرات التي تكتسبها إلى مجالات أخرى تفتح آفاق فرص جديدة أمام جميع المعنيين. ولا تقتصر هذه الفرص على التصنيع فحسب؛ فقدرة هذا القطاع على إيجاد أنشطة خدمات جديدة هي قدرة موثوقة يمكن الاعتماد عليها. ففي رولز – رويس نحقق حوالي 50% من عائداتنا من الخدمات عالية القيمة تستند على معرفتنا لمنتجنا وعملائنا. أما على مستوى البلدان، فقد وجد مجلس تنمية الاقتصاد السنغافوري بأن كل نشاط تصنيع بقيمة 1 دولار يوجد نشاطاً خدمياً مرتبطاً بقيمة 90 سنت. وفضلاً عن توفيرها للخيارات، فإن الأنشطة عالية القيمة هي أنشطة تحصينية، بمعنى أنها تضع حواجز كبيرة تعيق عمليات الاختراق، وبذلك تتيح لأي بلد الاستجابة بفعالية أكبر للمنافسة الشديدة والمتزايدة في العالم. يمكن النظر إلى الصين والهند على سبيل المثال: فكلا البلدين يمتلك بالتأكيد قطاعات صناعية متطورا سلفاً: حيث تبلغ حالياً الصادرات السنوية للصين من السلع المُصنّعة حوالي 1.2 تريليون دولار، والهند 93 مليار دولار. يقترف غالبية الأشخاص خطأ توصيف هذا التصنيع كصناعة تجميعية منخفضة القيمة، إلا الصين والهند في واقع الأمر ترتقيان بسرعة في سياسة سلسلة القيمة التصنيعية Value Chain. فمن المهم لأي بلد تسعى لتطوير قدراتها الصناعية أن تسعى للوصول إلى ذروة سلسلة القيمة التصنيعية Value Chain إذا كانت ستنجح في الأسواق العالمية التي تزداد حدة المنافسة فيها. وللأسباب التي ذكرتها آنفاً، أآمن أنه ينبغي على أي دولة تسعى إلى تنويع وتطوير اقتصادها أن تستهدف الصناعات عالية القيمة من أجل تحقيق النمو على المدى الطويل. سيكون التركيز على الإنتاج المنخفض القيمة بكميات كبيرة أسرع طريقة للفشل بالنظر إلى السرعة التي ترتقي بها غالبية البلدان في سلسلة القيمة. وهذه نقطة ذات أهمية خاصة للمملكة التي تسعى إلى تحقيق خطط طموحة لإنشاء سلسة من "المدن الاقتصادية" في شتى أنحاء المملكة. فالسبيل الوحيد ليكون هذا الاستثمار الضخم بحد ذاته استثماراً مستداماً هو من خلال اتخاذ قرار واع للتركيز على الوصول إلى ذروة سلسلة القيمة Value Chain . كيف ننجح في المملكة في الصناعات الثقيلة يقول السير جون: يمكن للصناعات عالية القيمة أن تنجح فقط في حال توافر التعليم والمهارات اللازمين للحفاظ على هذه الصناعة. وتتمثل إحدى الأولويات الأخرى لذلك في ضمان إيجاد ارتباط قوي بين أنواع المهارات التي يتم إنتاجها والأنشطة عالية القيمة التي ستدعمها هذه المهارات. وهذا هو السبب الذي يجعل من تطوير الصُرُوح التعليمية مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية أمراً في غاية الأهمية للتنمية المستقبلية للمملكة. وذلك كجزء من تزويد البلد بالمهارات التي سيحتاجها في القرن الواحد والعشرين، حيث ستزيد الجامعة من جذب المملكة للشركات باعتبارها موقعاً للاستثمارات المتنقلة عالية القيمة. فعلى سبيل المثال، إذا أمعنت النظر في المواقع التي تقيم فيها شركة رولز – رويس استثماراتها الجديدة، ستجد بأنها تميل بشكل متزايد نحو البلدان التي تتميز بمعايير تعليمية عالية مثل الولاياتالمتحدة وألمانيا والدول الاسكندنافية وسنغافورة. وستجد أيضاً بأنها تسعى للعمل عن كثب مع المراكز المرموقة للأبحاث العلمية والتقنية. من الآليات الأخرى الهامة في توفير أنشطة تضيف قيمة عالية على المنتجات، خلق بيئة تسمح بتشكيل وازدهار المحاور التنافسية الدولية. فقد عقدت الحكومة السعودية عزمها على بناء سلسلة من المدن الاقتصادية في أرجاء المملكة باعتبارها وسيلة لإيجاد فرص جديدة لأعداد كبيرة من الشباب الذين تركوا النظام التعليمي، وذلك كخطوة تشجع على خلق هذه البيئة. وتعتبر مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، الواقعة شمال مدينة جدة، أفضل مثال لما يمكن تحقيقه من خلال رؤية واضحة وتوجه محدد مع التصميم على أرض الواقع. هنالك أيضاً نقطة أخيرة هامة من الواجب ذكرها؛ فمن الصعب على المملكة الوصول إلى هذه الدرجة من التغيير دون مشاركة شركات ومستثمرين من خارج المملكة. ومع ازدياد حدة المنافسة في الأسواق العالمية فمن الصواب القول بأنه ينبغي على حكومة المملكة التركيز على الأنشطة التي تجعل من المملكة نقطة جذب للشركات العالمية التي يمكنها الاستثمار ومواصلة تطوير قاعدة المهارات المحلية. وقد نشطت رولز – رويس في المنطقة منذ أكثر من 50 عاماً وتتطلع قدماً لمواصلة دعم المبادرات الهامة التي تجري مؤخراً.