إن الخلل الذي يلاحظه الياباني: نوتوهارا في الشخصية العربية، من خلال ملاحظته للتصرفات الجمعية العينية، خلل تراكمي، خلل تسلل إلى هذه الشخصية؛ فأصابها بالعطب منذ فجر تاريخها المجيد . ولا شك أن إجهاض الحركات العقلانية طوال هذا التاريخ، هو نتيجة وسبب - في آنٍ واحد - لهذا العطب الذي تجاوز درجة الاستثناء إلى درجة التعبير العام، بل إلى درجة يكاد أن يكون المعبر فيها عن الهوية المعلنة لهذه الجغرافيا وأبنائها: العالم العربي . يلاحظ نوتوهارا أن المظاهر السلبية لهذا العالم لا تقع في الشوارع الخلفية المعتمة، ولا تمارس في السر. أي أنها ممارسات ليس مدانة من قبل العقل الجمعي الذي يحكم تصرفات الأفراد على نحو تلقائي، ولا من قبل القانون الذي يفتقد قيمته عندما لا يطبق بصرامة على الجميع. وهكذا، تسمح الأخلاق (الرخوة) - التي تعكس مستوى السقوط العام، السقوط الذي يستحيل أن يكون نتيجة أعوام قليلة - بكل المظاهر السلبية التي يمكن ملاحظتها - بوضوح مفضوح - في ظاهرة: الارتشاء، التي تمارس كسلوك معلن في معظم المطارات العربية، والتي تعطي الزائر الانطباع الأول عن مستوى الانحلال الأخلاقي الذي وصل حد التطبيع. يحكي نوتوهارا كيف يغشه البنك الرسمي في المطار العربي، وكيف يطلب منه موظف المطار مبلغا من المال، ثم يكتشف أنه ليس مبلغا رسميا، وإنما رشوة، يكتفي الضابط الكبير بتعنيف هذا الموظف على هذا السلوك. وبما أن الرشوة في بلد كاليابان تعد كبيرة الكبائر، فإنه لا يستطيع فهم هذا التعاطي المتسامح معها، وكأنها خطأ عابر، لا يقع فاعله تحت طائلة العقاب الرادع. يقول نوتوهارا: "إنني أفهم أن يوجد موظف يستغل وظيفته لصالحه الخاص ولكنني لا أفهم لماذا لا يحاسب مثل هذا الموظف عندما يكتشف الآخرون فساده. هل يعني ذلك أن الجميع يستغلون وظائفهم؟ وأن الجميع اتفقوا بالصمت على قبول هذا الواقع؟ لا أعرف تماما ولكن الحوادث كثيرة بحيث تبدو وكأنها ظاهرة عامة". التأكيد هنا على كثرة هذه الظواهر، إلى درجة أن تصبح ظاهرة عامة، هو إشارة واضحة إلى عملية تطبيعها. وهذه العملية لا يمكن أن تتم إلا في سياق خلل قيمي، تبررها ثقافة الجميع للجميع، أو - على الأقل - خلل يطال سلم الأولويات التي تحدد تراتبية الجريمة في الوعي العام. أي أن الرشوة - وفق هذا السياق - لا تصبح فعلا داعرا، يصيب البنية العامة للقانون بالشلل، وإنما تغدو خطأ مثل سائر الأخطاء، وربما خطأ في أدنى سلم الأخطاء!. ما تلمح إليه ملاحظة نوتوهارا في عدم مساءلة الجريمة، أن الجريمة لم تعد جريمة، وأنها حتى وإن بقيت جريمة في مدونة القانون، فإنها ليست كذلك في القانون الأخلاقي الذي يعكس قانون الثقافة. كما يعكس حقيقة أن الجميع يشارك في تدمير الجميع. أي أن هناك غيابا تاما للوعي بعلاقة الفردي بالجمعي، وأن مصلحة الفرد - وخاصة في الوطن الواحد - ليس بمعزل عن مصلحة الجميع، وأن الأنانية ليس مجرد حب طاغ للذات، وإنما هي حب أعمى، حب لا يعي ذاته في حدود المباشر والآني. وهذا يعني أن اتساع نطاق الجريمة الفردية التي تخترق مصالح الجميع، هو اتساع لمساحة الغباء في العقل الجمعي، الذي لم يعد - في مثل هذه الحال - واعيا حتى بتآكل مساحات التعقل لصالح الغباء. لا يقتصر تطبيع الجريمة العامة على التسامح الصريح معها، بل يشمل - أيضا - تغيير موقعها من سلم الأولويات. فالجريمة ليس من السهل تجاهلها تماما. لهذا، يتم إجراء عملية تبديل مواقع، بحيث يكون تجريمها (المُخفف) وكأنها تشريع صريح لوجودها، بل ولنموها واطرادها. ولهذا - كما في الواقعة التي ذكرها نوتوهارا - لم يكن عقاب الموظف الفصل والسجن - كعقاب قانوني وأخلاقي يفي بحجم الجريمة - وإنما كان مجرد التعنيف العابر. التعنيف هنا ليس عقابا. إنه مجرد هروب - غير مباشر - من المسؤولية. وبهذا فهو لا يقوم بدور إيجابي؛ كما قد يتصور من يغريه ظاهر الحدث، بل هو هنا سلوك في قمة السلبية تجاه جريمة علنية تمارس بمباركة الجميع. إن التعنيف هنا يقوم بعملية تطهير مزوّرة، يخرج منها المجرم والمسؤول عن محاسبته من طائلة تأنيب الضمير. فكأنه بهذا قبض المال فعوقب، أي دفع ثمن المال، وانتهى الأمر، استراح ضمير المرتشي والمسؤول!. ولهذا لاحظ نوتوهارا أنه رغم هذا التعنيف، إلا أن المال الذي دفعه مكرها للموظف المرتشي لم يرجع إليه؛ مع أن الضابط المسؤول رأى تفاصيل الجريمة أمامه. وهذا ما يؤكد رؤيتي أن الجميع شركاء، وأن التعنيف سلوك سلبي، يستحضر الجريمة ولا ينفيها. إن الفساد مجرد وجه لثقافة التخلف التي تتحكم في تفاصيل الوعي العام. ولهذا فهو فساد يصل إلى كل من تحتضنهم هذه الثقافة، ولا يسلم منه حتى أولئك المخلصون الأنقياء أصالة؛ فالوعي العام يتسرب إلى كل شيء؛ ليصبح قانونا عاما مفروضا - بالعرف على الجميع. وهذا ما يلاحظه نوتوهارا عاجزا عن فهمه، فضلا عن تفهّمه. يقول: "ودوائر الهجرة في البلدان العربية وجه آخر مرير من وجوه القمع وعدم الشعور بالمسؤولية. لقد تعودت في ذلك الجو من الفوضى والإذلال أن اعتمد على صديق عربي لكي أحصل على الموافقة على إقامة، أما أنا فأضع نفسي كحجر تماما كحجر منتظرا انتهاء المعاملة. مرة شاهدت راهبة تدفع رشوة في دائرة هجرة فضحكت وقلت لصديقي؛ لي أسبوعان هنا وهما غير كافيين لأتكيف مع الوضع وأتصرف مثل تلك الراهبة. أقدر أن عندها تجربة طويلة في الإقامة والتعامل مع دوائر الهجرة". لقد جرى تطبيع ما ليس بطبيعي. الجريمة (الجريمة بالعرف الإنساني العام) ترتكب وكأنها ليست جريمة. وإذا كانت الرشوة التي يجري تطبيعها على مستوى السلوك العام، لا زالت جريمة في مدونة القانون، فإن كثيرا من مفردات السلوك العام، هي مما يدخل تحت طائلة الجريمة. لكن، لا عقاب لها في المدونات القانونية، أي أن التصدي لها مسؤولية وعي عام تصوغه الثقافة المهيمنة. لكنها هنا - للأسف - ثقافة التخلف، التي قد لا تجرؤ على تطبيع الجريمة صراحة بإلغائها، لكنها تمارس تطبيعها بوضعها في درجة دنيا من تراتبية التصنيف الثقافي للجريمة. وكمثال على هذا التطبيع - غير المباشر - الذي تنهض به ثقافة التخلف، يذكر نوتوهارا هذه الجريمة العلنية التي جرى تطبيعها. يقول: "ولقد شاهدت يوما طفلا يلف خيطا على عنق عصفور صغير ويجره وراءه والعصفور يرفرف على التراب. كان الطفل وكأنه يجر حمارا أو كلبا! وكان الناس يمرون بجانب الطفل دون أن يقولوا له شيئا! إذن كان المنظر طبيعيا بالنسبة لهم؛ طفل يتسلى بلعبة! لقد فهمت الأمر وما شابهه على هذا النحو التالي؛ ضعيف تحت سيطرة قوي. الناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويرضخون له. أي يسمح المجتمع أن تسيطر قوة على أخرى اضعف منها. وبالنسبة لي فإنني أتساءل؛ إذا سمح المجتمع بهذا المنظر فإلى أين سيصل؟" هنا يدرك نوتوهارا - على نحو ما - أن بنية القمع جزء من البنية العامة للوعي العربي المتشكل بثقافة معطوبة منذ اللحظات الأولى لتكوّنها؛ عندما جرت - تدريجيا - عملية محو متعمد للإنسان. ولهذا فجريمة القمع تمارس من قبل الجميع على الجميع بمباركة الجميع. يقول نوتوهارا - مفجوعا بهذا المستوى غير المعقول من القمع -: "مرة كنت أزور مدرسة ابتدائية عربية. اصطف التلاميذ بهدوء وصمت في أرتال منتظمة ودخلوا قاعات الدرس، لقد مرت خمس دقائق وكأن المدرسة مكان للتأمل والعبادة وفجأة تفجرت الأصوات وجاءت من أبواب الصفوف كلها. أصوات الأطفال يبكون ويصرخون ويتوسلون للمعلمين. كذلك لقد فهمت بدأ الضرب. ما زال الضرب أسلوبا معتمدا في أغلب المدارس العربية. لقد كررت زيارتي للمدارس العربية وغالبا كنت أحصل على النتيجة نفسها. هكذا يبدأ القمع. من سلطة الأب في المنزل إلى سلطة المعلم في المدرسة وهكذا يألف الطفل القمع كجزء من وجوده". واضح أن قمع الطفولة هنا، وعلى هذا النحو الصريح، قمع مشرعن في الثقافة؛ مع تجريم الأنظمة له. ولهذا لا يعني شيئا تجريم مدونة النظام؛ ما دامت مدونة الوعي العام تبيحه، بل وتدعمه. فمع أن معظم أنظمة التعليم في العالم العربي تجرّم ظاهرة الضرب، إلا أن الظاهرة تمارس بشكل علني من قبل المعلمين، على مرأى ومسمع من الإدارة المدرسية، ومن مديريات التعليم، ومن مسؤولي الوزارة المتواطئة - ضمنا - مع هذه الجريمة. فلا أحد يحاسب أو يعاقب على هذه الجريمة الأخلاقية، التي تزرع (إباحية) القمع في براءة الأطفال، والتي تجعل منهم مشاريع للقمع، تجاه أسرهم، وتجاه مجتمعهم، وتجاه إخوانهم من بني الإنسان. عندما يلاحظ نوتوهارا هذه الروح القمعية التي تتلبس الجميع، وتطال الجميع، حتى تصل إلى محاضن التربية، يستعرض نوعا آخر من القمع. إنه القمع الذي يطال الحريات الشخصية التي لا يفهم - كياباني - كيف يتم اقتحامها بالقمع. يستعرض ما يسميه ب: الملابس والقمع. وهنا لا يستطيع فهم الانتهاكات التي تمس المرأة في هذا المجال؛ عندما يفرض عليها المجتمع تفاصيل التفاصيل في لباسها، الذي هو - في النهاية - من مسؤوليتها الخاصة، وليس من مسؤولية الآخرين؛ غلا في ظل استشراء ثقافة القمع. يتحدث نوتوهارا - أيضا - عن ظاهرة لها علاقة بالقمع، باعتبارها صادرة عن رؤية تشرعن القمع ابتداء، وهي ظاهرة العنصرية التي تمارس على عدة مستويات. يقول عن هذه الظاهرة: "شعرت عميقا أن العرب يمارسون العنصرية داخل مجتمعاتهم ضد بعضهم بعضا على أكثر من شكل. وسأكتفي بمثال واحد على ذلك ومثالي هو أصحاب السيارات الخاصة. يتفاخر مالك السيارة بسيارته وكأنها مجد فريد أحرزه دون غيره من بني البشر. ولذلك يتبارى الأغنياء بشراء أحدث موديلات السيارات وأغلاها ثمنا. هذا التفاخر الصريح يتحول إلى تعال على الآخرين، واضطهاد لهم مع أن ملكية السيارة في البلدان المتقدمة صناعيا ليس امتيازا، ولا يختلف كثيرا عن ملكية دراجة عادية". هذا مثال مخفف!. فمع أن هذا المثال يعكس نفسية تتجه بكليتها نحو سلوك القمع، إلا أنه لا يستعرض التجليات الأشد بشاعة، إلا بالتلميح. وهو يصرح أنه يتعمد هذا، حتى لا يمنع من دخول الأقطار العربية؛ فيما لو أشار إليها صراحة، بل حتى لا يقع أصدقاؤه تحت طائلة المساءلة من قبل مؤسسات القمع. وهو يؤكد أن هذا السلوك غير الصريح من قبله؛ جراء خوفه على نفسه وعلى أصدقائه، دليل على شدة القمع وعلى اتساع نطاقه، وشموله حتى للضيوف العابرين من أمثاله. إن المظاهر السلبية الكاشفة التي استعرضها نوتوهارا، والتي تفضح بنية ثقافة التخلف السائدة، كثيرة، بحيث لا يمكن الإشارة إليها جميعا. لكن - في مجملها - تعكس غياب النفس العقلاني، وسيادة العاطفي والغرائزي والبدائي، بل والمرضي. فالازدواجية التي تتحلى معظم الشخصيات العربية، والتي لا حظها نوتوهارا من خلال أصدقائه العرب (الذين - كما عايشهم بنفسه - يمارسون السلوك الأخلاقي المتزمت داخل بيوتهم، بينما يمارسون أعلى درجات العربدة والمجون خارجها) تفضح حال الثقافة التي تبارك هذه الازدواجية، أو على الأقل تتسامح معها. كما لاحظ - من خلال وجوده في القاهرة إبان تشييع جنازة: عبد الناصر - هذا المرض بالزعامة، والخلل الكامن في آليات تقويمها: من هو الزعيم الجدير بالثقة؟، وكيف يكون الزعيم؟، بل لماذا الحاجة للزعيم أصلا؟ لماذا هذا الاعتماد الطفولي على الزعيم؟. وهنا يؤكد أن: "صورة الزعيم (في اليابان) فقيرة جدا"، وأنهم يعتمدون - خلافا للعرب - على أشياء أخرى. هذه شهادة مدعمة بالشواهد الواقعية، التي تمثل تجليات ثقافة التخلف المهيمنة في عالمنا العربي. وهي ليست شهادة من غربي متآمر!؛ كما هي عادتنا في اتهام تقييم الآخرين لنا، وإنما هي شهادة من شرقي، نردد - دائما - أنه صديق ودود؛ لأن تاريخنا معه يخلو من الصراع، عكس الآخر الغربي. هذه الشهادة أو القراءة، تحتاج لقراءة من قبلنا، تحتاج لأن نطرح على أنفسنا الأسئلة من خلالها، أن نعيد تقييمنا لثقافتنا، ومن ثم، لسلوكياتنا بالوقوف على إشاراتها وتضميناتها. لا يمكن أن تنتهي أزماتنا؛ إلا بتراجع الثقافة التي تنتجها من خلالنا. ولا يمكن أن تتراجع هذه الثقافة؛ إلا باستحضار مشروع ثقافي مضاد.