يؤكد الفيلسوف الإنجليزي الكبير برتراند راسل على الصلة الوثيقة بين التقدم العلمي الذي ظهر في عصر النهضة الأوروبية وبين ازدهار الفردية آنذاك.. الفردية التي جعلها راسل لازمة للتطور العلمي تعني- في أبسط صورها - حصول الفرد على حقه المشروع والطبيعي في ممارسة حريته، بما لا يتعارض مع حرية الآخرين، على اختلاف في تقدير ذلك لدى المشرّع القانوني، باعتبار المباشرة واللامباشرة بين هذه الحرية وتلك.. وبعيداً عن تحديد أيهما النتيجة والسبب، وعن تحديد طبيعة العلاقة وتوصيفها، بين الفردية كقيمة، والتطور العلمي، فإن هذا التلازم - بما هو ظاهرة جرى رصدها - يدل على أن التقدم الحقيقي لا يحدث إلا في بيئة تطلق العنان للإبداع - أياً كان نوعه - ليمارس حقه في الوجود. وبما أن الإبداع إنما هو نتيجة التنوع من جهة، وتراكمه - أي التنوع - كمياً من جهة أخرى، فإن هذا التنوع في الإنتاج لا يمكن أن يكون موجوداً وإيجابياً في الوقت نفسه، ما لم يكن التنوع في الاستهلاك مشروعاً، وما لم تكن الأنظمة والقوانين المعرفية تبيح ذلك، بل وتدعمه بأقصى طاقاتها وامكاناتها المادية والمعنوية.. إنه الوعي بأن لاشيء يأتي من فراغ، وأن انعدام الوصاية فيما يقرأ ويسمع ويشاهد (يستهلك) يؤدي - بالضرورة - إلى الإبداع والأصالة فيما يؤلف ويصنع (ينتج)، باختصار، أن يوجد العقل الإبداعي القادر على تجاوز التخلف - فكراً - ومن ثم - واقعاً -. وبما هي كذلك - أي الأنظمة والقوانين التي تتماس مع الشأن المعرفي، وتعنى بتنظيمه - فهي ملزمة بحمايته - في صورته الثقافية الأولى على الأقل - من محاولات الوأد التي يتعرض لها - كثيراً - من قوى التقليد والظلام والإرهاب، وذلك بأن يكون للكلمة الثقافية - بكافة أنواعها وتشكلاتها - حصانتها التي تجعلها تأخذ صيرورتها الطبيعية، في دورة الفحص الثقافي المشتغل على نفسه، والجدير بأن يتجاوز أخطاءه بهذا الاشتغال، دون خوف من هذا الرقيب المتزمت أو ذاك الجاهل المتعنت. الحصار الأيديولوجي حصار قامع بطبيعته، يوظف الأشياء والأشخاص لتمرير رؤاه التي تقمع الإبداع، لأنها تمنع التفرد وتحاصره.. إنه يمارس ذلك بدعاوى شتى، حتى إنه ليوظف في سبيل ذلك من الأشخاص والأفكار ما هو معه على أشد حالات العداء.. لكنه يمارس براجماتيته العارية في تعاطيه مع الآخر المختلف، بل إنه ليجد من داخل منظومته ما يبرر به ممارسته لهذا السلوك البراجماتي الذي يلعنه ليل نهار، بدعوى النقاء الأخلاقي المزعوم. يقوم بذلك، لأن المهم لدى المتأدلج رواج أيديولوجيته ولو على الجماجم والأشلاء، فكل شيء في سبيلها مباح ومستباح. وللطابع الشمولي الذي يطبع الممارسة الأيديولوجية ولا ينفك عنها بحال، دور واضح في محاصرة عناصر التفرد، ولهذا فهي - دائماً - على حافة الاصطدام مع الفردية التي تشكل بطبيعتها ممانعة ضد الأدلجة بكافة صورها، حتى إنها - أي الفردية - لتتمنع على كثير من مفردات الحرية التي تتقاطع مع رؤاها الخاصة، لا لشيء، إلا لأنها - بوقوعها كمفردة في سياق رؤية مؤدلجة - ذات طابع شمولي، ومن ثم، فهي - في العمق - على الضد من قيم التفرد، لأنها تمتهن الوصاية - احترافاً - على كل حال تكون عليها. قد يظن البعض أن سن القوانين والأنظمة التي تحمي الإبداع وتصون الكلمة وأربابها عن تطاول هذا المتزمت أو ذاك الرجعي المتعنت، كفيلة بأن تجعل الثقافي يعمل مطمئناً في بيئة تحتفي بالإبداع، وأن يكون - فيما يقرأ ويكتب - بعيداً عن حصار الأيديولوجيا التي لا تني عن محاولتها فرض هيمنتها على كافة أنواع الحراك.. لكن وقائع الحال تشهد بضد ذلك، فمع أن سن تلك القوانين والأنظمة الإدارية التي تكون ضمانة للمثقف وللوسيط الإعلامي للثقافة أمر ضروري، وعلى درجة من الأهمية، إلا أنها لا تكفي - وحدها - لبعث الطمأنينة في قلب المثقف، كي يبوح - صادقاً وصريحاً - بكل رؤاه. إن معظم الحالات التي تمكنت فيها الأيديولوجيا التقليدية في العالم العربي من تنفيذ وصايتها، بمصادرة كتاب فكري أو أدبي أو عمل درامي لم تكن القوانين والأنظمة المعنية بالثقافي تشي بحتمية هذه المصادرة، ولم تكن دلالتها على شرعية هذا العمل صريحة، بل يستحيل - من الناحية الواقعية - أن تكون كذلك، لأنها ليست معطى مادياً محدداً، يجري تصنيفه بعيداً عن مقتضيات التأويل، بحيث يدل النظام - الذي يشرع للإباحة أو المنع - على الشيء ذاته كموجود مادي لا يقبل الخلاف.. إن هذا يتعذر، بل يستحيل في الثقافي، لأن وجود النظام المشرّع في هذه المسألة وجود سابق على وجود المنتج الثقافي، ولا (نص) إلا في التفاصيل الإدارية التي يضعها المنفذ، لا المشرع القانوني، والتي يجري العمل من خلالها، وهي قوانين - في صورتها التنفيذية - محل اجتهاد. وكون المسألة اجتهادية تفسيرية للنظام في صورته الحيادية الأولى، فإنها تعطي - بطبيعتها - مساحة كبيرة، وفرصة ذهبية، ليمارس الإيديولوجي وصايته على الثقافي من خلالها، بما تعطيه تلك المساحة المتعذرة على التفصيل القانوني من امكانية للتدخل في كل آن.. وبهذا، يصبح تطبيق الأنظمة والقوانين التي تخص الثقافي، خاضعة لهذا المد الأيديولوجي أو ذاك، بل وتصبح - أحياناً - أداة لطمأنة هذا (الصائل) المتطرف أو ذاك.. ونخرج في النهاية بنتيجة مفجعة، فالأفكار الشمولية - مهما كانت تقليديتها، وبلادتها، ومعاداتها للعلم الحديث وللثقافة المعاصرة - هي التي ستكسب الجولة في نهاية الأمر، ما دامت هي الأرفع صوتاً، والأكثر فاعلية في الجماهيري المتماهي معها. محاصرة الثقافي - أياً كان نوعها - تعني بكل وضوح موت الثقافة، ومن ثم ضمور السياقات المعرفية كافة، والدخول في عالم الانحطاط والتخلف والمهانة الأممية.. ولا يختلف اثنان - ممن لها عناية حقيقية بقراءة إشكالية التخلف - على أن أزمة العربي والإسلامي أزمة كامنة في ثقافته قبل أي شيء آخر.. وكل مراقب يعي الانحطاط الذي تعانيه الثقافة العربية المعاصرة، جراء عوامل كثيرة، ليست محاصرة الثقافي من قبل التقليدي والشعبوي بأهونها.. ويدرك الجميع - لأن شواهدها معلنة - أن كل ما كان محاطاً بالتسامح - من الإنتاج الثقافي - قبل عقود أصبح - الآن - محاصراً تحت شعارات المحافظة والتقليد، أو الخصوصية والتميز. إن ظهور الشعبيات وإقليمياتها، في صورها التافهة، وما تقاطع معها، واكتساحها للوعي العام العربي، وصعود التقليدية الميتة، لتكون واجهة الأمة ثقافياً، متزامنة مع تراجع الأطياف التنويرية، وانكفاء محاولات البعث الإسلامي العصراني عما كانت عليه قبل عقود من الزمن، كل ذلك ينذر بخطر داهم ينتظر الجميع العربي و الإسلامي.. الحصار على الثقافي الذي تشي به هذه الحال حصار يمارس عليه في وقت هو الخيال الأمثل للأمة، بغية الخروج بها من واقع التخلف المزري الذي تعانيه ويلاته.. وهو - من قبل ومن بعد - الخيار الأكثر سلمية، والأضمن نتائج على المدى القريب والبعيد من كافة الوعود المؤدلجة، تلك التي لا تمتلك إلا حماستها، بينما تفتقد أدنى درجات المعرفة الضرورية لقراءة ذاتها وواقعها - بما فيه الآخر الحضاري - قراءة موضوعية، نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الظرف التاريخي الخاص. وإذ تنكشف أوراق التطرف ويظهر بوجهه الإرهابي الإجرامي المقيت، مشيرة إلى خطورة التعصب، وأن القتل والتفجير ليس إلا وجهه المعلن عن نفسه صراحة، بينما الجيوب الخلفية تمارس تكتيكها المراوغ، يحاول هذا التطرف ومن تقاطع معه في الرؤى والتصورات العريضة، أن يعيد نفسه في مدارات أخرى، وبصور شتى، تقطع - ادعاء - مع الإرهابي الحركي، بغية أن تستثمر السائد الاجتماعي لصالحها.. وهي في كل ذلك تطمح إلى بعث الطمأنينة في الاجتماعي والسياسي.. بعد أن فقدت الكثير من مكتسباتها، بتناغمها - المعلن حيناً والمضمر أحياناً - مع التطرف في الداخل والخارج. وواضح للعيان ان قوى التطرف تحاول أن تمارس تكتيكاً آخر في هذا الظرف العصيب الذي تمر به الآن، والذي يهددها بنفور الجماهيري منها، بل واطّراحها جملة وتفصيلاً.. إنها تحاول - في سياق هذا الظرف الخاص - أن تمارس دور الرقيب الفكري والأخلاقي على المجتمع الذي تتموضع فيه، عبر وسائط تأخذ الطابع المدني والقانوني، بعد أن تعذر عليها ممارستها مباشرة ب (قوة الذراع!).. وهي بهذا تعمد إلى تحقيق هدفين كبيرين، فضلاً عن أهداف ثانوية، تأتي عرضاً بطبيعة الحال. الهدف الأول: الحصول على تعاطف جماهيري، برفعها راية الذود عن السائد الفكري والاجتماعي، وظهورها في صور الطهارة الأخلاقية، لكونها تلعب دور الرقيب الأخلاقي، وتمارس التشهير بكل تجاوز يأباه المجتمع في هذا المضمار.. وبهذه الممارسة تحظى باحترام الجماهير، وتمنحها هذه الجماهير - المحافظة بطبيعتها - ثقتها، دون اعتبار لمحركات هذه الممارسة، بوصفها خطاباً للقراءة على أية حال.. وهذا - بالنسبة لها - في غاية الأهمية، إذ يأتي في وقت تواجه فيه خطر فقدان هذا التعاطف، والذي تعتبره رصيدها ومخزونها الاستراتيجي الذي يمدها بالعناصر، كما يمدها بالدعم المادي والمعنوي. الهدف الثاني: هي بهذا العمل - في منحاه الفكري خاصة - تحاصر الآخر الأيديولوجي الذي يهددها، إذ لا وجود لها - بما هي قوى تخلف وتقليد - بوجود الآخر الإيجابي.. إنها لا تقنع أحداً إلا عندما تنفرد بالساحة، وتفرض آراءها كحقائق يقينية على الجماهيري الذي تلج له من خلال عواطفه، لا من خلال عقله، فترهبه أكثر مما تعلمه، فيشرق بعد ذلك بكل سؤال. وهكذا، بينما تصادر الآخر الفكري، فتدفع عن نفسها خطر منافسته، نجدها - في الوقت نفسه - تستقطب الجماهيري لرحلتها البائسة التي لا تنفك عن التبشير بها، نحو خليفة المسلمين ودولة الإسلام القابعة في رحم الزمان.. وإذ لا يزال الوجدان الجماهيري الساذج معلق - بفعل الزخم التراثي- بهذا الحلم البائس المستحيل، فإنه يندفع معها في تزمتها، لأنه يرى أنه يقف بهذا الاندفاع التزمتي ضد كل ما يلمس فيه أنه عقبة تعترض سبيل هذا الحلم الجميل من قريب أو بعيد. هكذا، وبفعل الوصاية الأخلاقية، يصبح الفضاء (الفضائيات) مرفوضاً ومداناً، والانترنت كذلك، وهكذا - وهو الأهم هنا - يصبح الكتاب الورقي محاصراً حتى في ميدانه، وكأنه الخطر الداهم الذي سيدمر الفكر والأخلاق، ويصبح الحصول على النوعي منه رهناً بممارسات (التهريب) التي توحي - لممارسها - إن استطاع ذلك - بأن المعرفة أصبحت جريمة، وأن المثقف إن أراد الاستزادة النوعية من الثقافة فلابد أن يقترف (جريمة) تهريب الكتاب.. إنها - حيازة كتاب في معرض دولي علني - جريمة، والويل لمن يقبض عليه متلبساً بها في ليل أو نهار. وإزاء هذه الحال، لا أدري، كيف للبحث العلمي المتقصي أن يقوم وينهض على قدميه، بينما يحال بينه وبين مصادره؟ كيف تتم معاينة كثير من القضايا والظواهر - مهما كان موقفنا الفكري والأخلاقي منها - ما دامت مصادرها محجوبة؟، كيف يمكن لرؤيتنا الإشكاليات المعاصرة والدين والأخلاق والسياسة أن تكون رؤية علمية موضوعية، بحيث نتخذ على ضوئها قرارات علمية صائبة، ومصادرنا في ذلك ناقصة، بل وما تعذر وجوده منها هو الضروري في عملية الرصد والقراءة؟؟؟! كيف تتم تعرية الواقع، وكشف تشوهات الاجتماعي، ومسلسل تلفزيوني ناقد ويتيم، يتم توظيف الهجوم عليه من قوى التطرف، للدفع بشرائح من المجتمع إلى حالة اعتراض هستيرية، بدل أن يكون الموقف منه قراءة فكرية وفنية تدفع به إلى الأمام، ولا تسعى لإلغائه؟! كيف يمكن لرواية أن تثير مجتمعنا بأكمله، لسطرين أو ثلاثة وردت في سياق فني، وللروائي تفسيره الخاص لذلك وتبريره الفني؟ كيف يتم ذلك في مجتمع لا يملك إلا أن يعترف على نفسه أنه لا يعرف ما هي الرواية، وأنه يجهل طبيعتها من حيث علاقتها بالواقع من جهة، وبالمؤلف من جهة أخرى؟ كيف يحاسب الأيديولوجي الذي يجهل ألف باء القراءة روائياً على صورة وردت، أو فكرة تم عرضها في سياق يستلزمها، وفق مقتضيات العمل الروائي؟، فضيحة أن يقرأ قارئ ما، رواية ما، وكأنها اعترافات شخصية في ساعة محاكمة.. كيف لمقال يحاول معالجة إشكاليات الفكر والواقع أن يأخذ المدى الطبيعي له، وعيون الإيديولوجي تستريب بكل كلمة وبكل إشارة؟، كيف يُلزَم المقال بقراءة واحدة، وربما كانت له أكثر من قراءة يشي بها السياق الكبير أو الصغير؟ كيف تتم قراءة المقال الحديث كبنية - وهو نص حديث أسلوبياً - بعيون تعودت على القراءة التراثية المبعثرة التي تمسك بالجمل لا بالوحدة النصية؟.. كيف وكيف؟؟، وإذ ليس معنى هذه الدعوة إلى التسامح مع الفكري والفني من حيث الوجود، الإقرار بما يمكن أن يكون فيه من تجاوز فكري أو أخلاقي، وإنما هو تحديد لنوع التعامل الذي ينبغي أن يكون مع ما هو موجود واقعاً.. قد لا أقر كثيراً مما أرى وأقرأ وأسمع، وقد أختلف غاية الاختلاف مع هذا وذاك، ولكن لا يعني هذا الاختلاف ان أمنعه من حقه في أن يكون مقروءاً.. إن من حق أي أحد أن يمارس نقده لكتاب أو لرواية أو لأطروحة يختلف معها.. لكن ليس من حقه أن يصادر حق هذا الكتاب أو تلك الرواية في الوجود، لمجرد أنه لا يتفق معه، أو أن تأويله له يجعله في دائرة الاتهام الديني أو الفكري. إن الإنسانية - كتقدم حضاري - تسير إلى الأمام، وإن حدث وسارت إلى الخلف فتلك كارثة، وربما كانت فناء واندثاراً.. ولهذا يصبح الحصار الأيديولوجي للثقافة، بعد كل هذا العناء التنويري على مستوى العالم العربي واقعة تبعث على التشاؤم، ويصبح مجرد مناقشة مثل هذه البدهيات التي كثر الكلام عنها، وأصبحت مواضيع مكرورة، دلالة على أن خطى التقدم تسير في غاية البطء، فضلاً عن أن تشي بعض الشواهد أنها خطوات إلى الوراء.