عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعالت أصوات أمريكية عاقلة تطالب بتشخيص أسباب وقوع تلك الكارثة ومعالجة القضايا التي تؤرق مضاجع العرب والمسلمين، إلا أن تلك الأصوات وئدت في مهدها. ومضت الإدارة الأمريكية نحو حملة عالمية جامحة أسمتها (مكافحة الإرهاب) ما لبثت أن انحرفت عن مسارها المعلن إلي استهداف العرب والمسلمين وقضاياهم بصورة واضحة وصريحة دولاً وشعوباً وأقليات ومنظمات وجمعيات وأفراداً. أضافت زخماً واسعاً لصورة الأمريكيين السيئة السائدة في المنطقة أصلاً نتيجة الدعم الأمريكي لإسرائيل. وقد دفعني لكتابة هذا المقال هو استقالة السيدة كارين هيوز وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية المكلفة بتحسين صورة بلادها في العالمين العربي والإسلامي، وهي ثالث مسؤولة أمريكية تتولى هذا المنصب. وبغض النظر عن أسباب استقالتها إلا أنني أعتبر أن تعيين مسؤولين أمريكيين لتحسين صورة بلادهم في العالمين العربي والإسلامي نوعاً من العبث السياسي وذر للرماد على العيون. إذ إن الدبلوماسيين الأمريكيين هم أعرف من غيرهم بشؤون المنطقة ودهاليزها منذ عشرات السنين بحكم علاقتهم الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني كما أن تحسين صورة أمريكا في العالم العربي والإسلامي لا يحتاج إلى تعيين وكلاء أو مبعوثين أو سفراء نوايا حسنة، بل يتطلب تغييراً جذرياً على الأرض في النوايا والسياسات الأمريكية تجاه العرب والمسلمين وقضاياهم الجوهرية والتي من أهمها: - فلسطين: هي قضية العرب والمسلمين الأولى لاحتضانها المسجد الأقصى ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواقف الدول الأخرى تجاه العرب والمسلمين يمر عبر تلك القضية والولايات المتحدة التي آلت على نفسها دعم الكيان الإسرائيلي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وضعت نفسها في صدام مستمر ومتجدد مع المشاعر العربية والإسلامية الذي ولَّد بالتالي تلك الصورة المقيتة لأمريكا لدى العرب والمسلمين. - احتلال العراق: وجرح فلسطين التي فتحته القوى الاستعمارية في وقت مبكر من القرن الماضي لم يندمل بعد. بادرت الإدارة الأمريكية إلى فتح جرح آخر واحتلت بلداً عربياً مسلماً تحت ذرائع اعترفت تلك الإدارة بعدم صحتها أو وجودها. إنما هو غزو بغيض يستهدف الإنسان والأرض والثروات والحضارة والمنطقة بأسرها. - احتلال أفغانستان: بالرغم من تفهم العرب والمسلمين للغضب الأمريكي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وموقفهم من حركة طالبان الحاكمة التي احتضنت بن لادن. إلا أن احتلالهم لبلد مسلم كأفغانستان وما حدث أثناءه من قتل وتشريد للمدنيين الأفغان أثار مزيداً من سوداوية صورة الأمريكيين لدى جميع مسلمي العالم وعلى وجه الخصوص لدى مسلمي أفغانستان وباكستان. - قرارات الشرعية الدولية: منظمة الأممالمتحدة التي يعوّل عليها العالم حفظ السلام والأمن الدوليين تم اختطافها من قبل الإدارة الأمريكية لتضعها بيد ثلة مما يسمى بالمحافظين الجدد والدوائر الصهيونية لتكون قرارات تلك المنطقة بالتالي ضد العرب والمسلمين وقضاياهم!! فاستصدار قرارات لغير صالحهم تتم صياغتها والموافقة عليها بصورة سريعة وقياسية فيما تستخدم أمريكا حق النقض ضد أي قرار من مجلس الأمن فيه مصلحة للعرب والمسلمين!! في تحد سافر لمشاعر الشعوب العربية والإسلامية علاوة على ذلك فإنه يتم إلزام الدول العربية والإسلامية بتطبيق القرارات الدولية تلك بينما يتم استثناء إسرائيل من تطبيقها!! وآخر مثالين على ذلك فرض مجلس الأمن عقوبات دولية على إيران بدعوى حيازتها للسلاح النووي، وفي نفس الوقت إجهاض قرار للمجلس للتنديد بإسرائيل على جرائمها وحصارها لغزة واكتفى المجلس بقرار يطالب بوقف الصواريخ الفلسطينية من غزة!! وإن المواقف المتكررة تلك لأمريكا أوجدت بنية صلبة معادية لها في المنطقة. - الإرهاب: فرضت الإدارة الأمريكية تعريفها للإرهاب على دول العالم ومن ضمنها العرب والمسلمون وطلبت منهم الامتثال لذلك وهذا التصرف بحد ذاته يعتبر مصادرة مسبقة لحرية الاختيار وتنكراً لأولويات وخصوصيات الدول العربية والإسلامية وشعوبها ووضعت أمريكا أفراد ومنظمات وجمعيات عربية إسلامية وقوى تحرر من الاحتلال الإسرائيلي على القائمة المتهمة بالإرهاب!! رافضة مجرد دراسة إدراج منظمات يهودية بتهمة الإرهاب ضد العرب والمسلمين على رأس تلك القائمة أو إدراج إسرائيل على قائمة الدول التي ترعى الإرهاب!! - حق تقرير المصير: لا يكتفي الأمريكيون بحرمان العرب والمسلمين من حق تقرير المصير أسوة بغيرهم من شعوب الأرض!! بل يسخّرون ثقلهم السياسي الاقتصادي والعسكري بالإضافة إلى الشرعية الدولية لدفع إقليم أو أقاليم من البلد العربي أو المسلم الواحد الموحد إلى الانفصال عن وطنه بحجة تقرير مصيره!! في نفس الوقت الذي تتلكأ فيه أمريكا بمنح حق تقرير المصير للشعوب العربية والإسلامية التي ترزح تحت الاحتلال وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. - حقوق الإنسان: طوّعت أمريكا مفهوم حقوق الإنسان وما يدعمه من قرارات في المنظمات الدولية المعنية لصالح الإنسان الغربي وبالذات الأمريكي والإسرائيلي أما حقوق الإنسان العربي المسلم فقد شاهد العالم انتهاكات حقوقه في أفغانستان وفي معتقل جوانتانامو بكوبا وفي سجن أبو غريب في بغداد وفي سجون إسرائيل وكذلك القتل الجماعي للعراقيين والفلسطينيين في مدنهم وقراهم ومساجدهم بالطائرات والصواريخ الأمريكية!! كما أن حزمة الإجراءات الأمريكية التي صدرت لمكافحة (الإرهاب) هي بحد ذاتها انتهاك لحقوق هذا الإنسان وقد ذهب الأمريكيون أبعد من ذلك إلى انتهاك حقوق الإنسان العربي المسلم التي لا تروق لهم أجندته السياسية بوضعه على قائمة (الإرهاب) أو إبعاده أو إعتقاله أو تجميد حساباته. - انتهاك السيادة: تتعامل أمريكا مع دول العالم ومن ضمنها الدول العربية والإسلامية عبر سياسة الإملاءات والتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية تحت ذرائع شتى لتحقيق مصالحها وهذا انعكس سلباً على مشاعر شعوب تلك الدول تجاه أمريكا وبالتالي صورتها لديهم. - حظر التسلح: تحظر أمريكا تصدير أي سلاح أمريكي لأي من الدول العربية أو الإسلامية إلا على نطاق ضيق وبشروط. كما تستخدم جميع ما لديها من وسائل ضد أي دولة في العالم لها تعاون تسليحي مع أي من هذه الدول من أجل حملها على التخلي عن ذلك. في نفس الوقت الذي يتم فيه تزويد إسرائيل بأحدث ما توصلت إليه التقنية الأمريكية في مجال التسلح. كما تقوم أمريكا بمنع وصول أي مواد تدخل في تصنيع مواد نووية أو سلاح دفاعي بسيط لأي دولة عربية أو إسلامية، بينما تغض الطرف عن برامج إسرائيل النووية وأسلحة المدار الشامل!! وبعد. أليست تلك قضايا جوهرية كفيلة بأن تجعل صورة أمريكا سيئة وقاتمة لدى العرب والمسلمين؟!! كما أنها كفيلة أيضاً بأن تعصف بكراسي عشرات الوكلاء والمبعوثين الأمريكيين المكلفين بتحسين صورة بلادهم في المنطقة. وإن تحسين تلك الصورة لا يتطلب تواجد مبعوثين أو وكلاء أو سفراء نوايا حسنة كما أسلفت في المقدمة!!. بل يتطلب حلولاً جذرية لجروح المنطقة التي فتحتها الإدارية الأمريكية مثل فلسطين والعراق وأفغانستان السودان ولبنان والكف عن الكيل بمكيالين عند تناول الشرعية الدولية لقضايا المنطقة ومعالجة حقوق الإنسان والإرهاب معالجة عادلة وعدم تطويعها لزعزعة الأمن والاستقرار في الدول العربية والإسلامية. وإن لم يتحقق ذلك فإن هذه الصورة القاتمة السوداء لأمريكا في المنطقة العربية الإسلامية ستطول وتتوسع وتتعزز طالما أن الإدارة الأمريكية ماضية في صنع ورعاية البيئة الصالحة لها.