في زيارته الأخيرة للمملكة، تركز برنامج زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على ثلاثة مواضيع رئيسة هي العلاقات مع المملكة ومع دول الخليج العربي والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش". وقد كتب عن هذه الزيارة مقالات وتحليلات كثيرة، لكنها انصبت أساسًا على موضوع الشرخ في العلاقات بين المملكة والولاياتالمتحدة، ثم ازداد في أثناء حرب اليمن وسحب أنظمة الدفاع الجوي الأمريكي من المملكة في عام 2021 في ذروة حرب التحالف ضد قوات الحوثيين المدعومة إيرانيًا. وتصاعد الخلاف بعد القرارات السعودية السيادية في مجال النفط والعلاقات مع إيرانوالصين والموقف السعودي من الحرب الأوكرانية. وقد مهّدت وزارة الخارجية الأمريكية لهذه الزيارة ببيان تحت عنوان: العلاقة بين الولاياتالمتحدة والمملكة العربية السعودية: ثمانية عقود من الشراكة ومما جاء فيه أن الولاياتالمتحدة، "وبناء على الالتزامات التي تم التعهد بها في بيان جدة خلال زيارة الرئيس بايدن إلى المملكة العربية السعودية في سنة 2022، تواصل الشراكة مع المملكة العربية السعودية في القضايا السياسية والأمنية ومكافحة الإرهاب والاقتصاد والطاقة، بما في ذلك الابتكار في مجال الطاقة النظيفة، لتعزيز رؤيتنا المشتركة لشرق أوسط أكثر سلمًا وازدهارًا واستقرارًا." ونحن في المملكة نقدّر هذه الشراكة الاستراتيجية ونتمسك بها بمقدار التزام الشريك الآخر بها عمليًا، ولا يعني افتراق الطرق في بعض القضايا الدخول في حالة قطيعة لأن ذلك لا يخدم المصالح المشتركة للبلدين. لكن بعض الدوائر الأمريكية تخطئ أحيانًا في تقدير حقيقة الموقف السعودي وتتخطى حدود اللياقة ما يشير إلى أن هذه الدوائر لم تستوعب التحول في السياسة السعودية، أو ربما هي لا تريد ذلك، منذ ظهور سمو ولي العهد على مسرح السياسة الدولية وإصراره على أن تلعب المملكة دورها الطبيعي كقائدة للعالمين العربي والإسلامي. وعندما تختلف الرؤى، ظلت قيادة المملكة تحتفظ بحكمتها المتوارثة في عدم الانجرار للمعارك الخطابية وإعطاء الطرف الآخر فرصة لمراجعة مواقفه والتزاماته والتراجع عن أخطائه، ومن ذلك تعهّد الرئيس بايدن بمعاقبة المملكة بعد مشاركتها في قرار "أوبك +" في عام 2022 بخفض إنتاج النفط. يومها قالت وزارة الخارجية السعودية إن الرياض لا تقبل الإملاءات وترفض مساعي تحوير أهدافها لحماية الاقتصاد العالمي من تقلبات أسعار البترول. وقبل ذلك تعهّد بايدن في حملته الانتخابية بجعل المملكة "دولة منبوذة" وهو التعهد الذي وضعه في حرج كبير واضطر للتراجع عنه وزار المملكة بعد ذلك. في ذلك الحين، قال محللون كثيرون بأن الخراب الذي ألحقته إدارة بايدن بالعلاقات بين البلدين يحتاج إلى أكثر من زيارة وهذا ما حدث بعد ذلك إذ تقاطرت على المملكة وفود أمريكية كثيرة للتأكيد على متانة هذه العلاقات. لكن يبدو أنه بعد ثمانية عقود من الشراكة أن الإدارات الأمريكية، الديمقراطية والجمهورية، تريد السير على إرث الماضي في الهيمنة على القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وحتى الاجتماعية، في الدول التي تعتبرها صديقة أو حليفة وهذا نهج لم يعد صالحًا في عالم يشهد تغيرات جيو-سياسية خطيرة في الصراع الحالي من أجل عالم متعدد الأقطاب. وهذا النهج لا يمكن أن يدوم لأنه مثل الحب من جانب واحد!. وعلى الرغم من افتراق المواقف، لم تغلق المملكة الباب أمام فرص الحوار للتوصل إلى حلول للأزمات التي تخلقها الدول الكبرى في التنافس على مناطق النفوذ وبناء التحالفات ولهذا يمكن لأي متابع أن يلاحظ الدور المتنامي للقيادة السعودية الجديدة لتهدئة الأزمات وتصفير المشكلات وإنهاء الحروب. لكن الإدارة الأمريكية، وبخاصة منذ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لم تضع منطقة الشرق الأوسط ضمن أولوياتها وتركتها ل"الفوضى الخلاّقة" التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وما نتج عنه من خراب لذلك البلد العربي وفتح الباب على مصراعيه أمام للأجندات الخارجية للانتشار في المنطقة العربية مباشرة أو عبر وكلاء أو حلفاء. وقد أدى هذا التراجع الأمريكي إلى حالة من عدم الاستقرار أدت إلى ثورات "الربيع العربي" وتفريخ منظمات إرهابية مشبوهة بمسميات مثل "داعش" التي أساءت للإسلام والمسلمين، وإلى حروب أهلية كما في سورية واليمن، وفي السودان حاليًا. لهذا كانت محاولة العودة إلى المنطقة متعثرة لأن معظم الحلول التي اقترحتها إدارة دونالد ترمب وإدارة بايدن، ومنها اتفاقيات "السلام الإبراهيمي، وبناء حلف "نيتو" شرق أوسطي، كانت حلولاً ترقيعية فاشلة لا تخدم أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها. في هذه الأجواء، وضمن منظور شفاف وتقييم واعٍ للدوافع الخفية والعلنية المحركة للمصالح، اتخذت قيادة المملكة قرارات استراتيجية أدهشت العالم فيما يتعلق بالعلاقات مع إيران، والحرب في أوكرانيا وعودة سورية للجامعة العربية. لقد بات واضحًا أن الإدارات الأمريكية بتوقيعها لما يسمى بالاتفاق النووي مع إيران في عام 2015 ثم انسحابها منه بعد ذلك، ثم توتير العلاقات بين إيران والمملكة وتصاعد التهديدات المسرحية بين إيران وإسرائيل، خلقت أجواء ملبدة بالغيوم والشكوك وانعدام الثقة وزادت من سباق التسلح ونشر الفرقة في الصف العربي وإطلاق العنان للعربدة الإسرائيلية في سورية والمناطق الفلسطينية. لهذا، توصلت المملكة إلى اتفاق إعادة العلاقات مع إيران برعاية صينية ما أدّى إلى توقف الحرب في اليمن وإطالة أمد الهدنة بين الحوثيين وقوات الحكومة اليمنية الشرعية، واعتراف إيران بلسان أعلى المرجعيات فيها، الذين كانوا يهاجمونها في السابق، بأن المملكة قوة كبيرة لا يمكن تجاهلها. وبهذا تكون المملكة، بانفتاحها على الصين، وإعادة بناء الثقة مع إيران، قد اتخذت قرارًا سياديًا بالسلام مثلما اتخذت قرارها بالحرب في اليمن دون استشارة الحليف الأمريكي في الوقت الوقت الذي يشهد توترًا خطيرًا في العلاقات بين الصينوالولاياتالمتحدة التي تحاول حصارها وبناء تحالفات عسكرية ضدها من اليابان وكوريا وتايلاند والفلبين واستراليا وهو تحالف أصبح نوويًا كما قال رئيس وزراء كوريا الجنوبية هذا الأسبوع. وفي سياق القرار الوطني المستقل، عارضت المملكة الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها دعت في الوقت ذاته إلى حل سلمي لهذه الأزمة وأخذ الهموم الأمنية الروسية بالحسبان وعرضت وساطتها وقدمت مساعدات سخية للشعب الأوكراني. وكسرت المملكة سياسة "إما معنا أو ضدنا" لأنها سياسة عمياء تشبه "وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت...وإن ترشد غزية أرشد." ومثلما تحرص الإدارة الأمريكية على رفاه الشعب الأمريكي وإشباع نهم شركات صناعة السلاح، فإن قيادة المملكة أكثر حرصًا على رفاهية شعبها وأمنه ومصالحه، لهذا عارضت تحديد سقف لإنتاج النفط وعارضت استخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة سياسية بهدف تجويع الشعوب وخنقها فمنعت تذبذب السوق وتغول المضاربين في أسواق النفط العالمية من خلال قرارات تخفيض إنتاج النفط الإلزامي والطوعي. أما على الساحة العربية، فقد نفذّت المملكة، بصفتها الرئيس الحالي لجامعة الدول العربية، قرار الجامعة بعودة سورية إليها، على الرغم من معارضة الولاياتالمتحدة لها. لكن هذه العودة لم تكن ركوبًا مجانيًا بل شهدت التزاما بالعمل على التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع الحالي ووقف تهريب المخدرات، قبل التأهل لأي مساعدات لإعادة اللاجئين وإعادة الإعمار. كما لعبت المملكة دورًا رئيسًا في إجلاء المدنيين العرب والأجانب من السودان وتعمل مع الإدارة الأمريكية من أجل وقف الحرب الدائرة بين الجنرالين المتقاتلين التي ألحقت دمارًا كبيرًا وشردت مئات الآلاف وقتلت مئات آخرين. كانت هذه هي القضايا الخلافية، باستثناء السودان، التي افترقت فيها الطرق بين المملكة والولاياتالمتحدة. من بين هذا وذاك، تظل القضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان الصهيوني من القضايا الشائكة التي تتباعد فيها المواقف بين الطرفين. وزادت عليها استقبال المملكة للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أحد أشد معارضي السياسة الأمريكية في أمريكا اللاتينية وإعادة افتتاح السفارة الإيرانية في الرياض. ولأن المحادثات بين سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والوزير بلينكن التي استغرقت ساعة وأربعين دقيقة "كانت مفتوحة وصريحة"، بحسب مصدر أمريكي، ومع أنه لم ترشح تفاصيل كثيرة عنها، إلا أننا لا نشك بأن الوزير الأمريكي قد تأكد مرة أخرى من ثوابت المواقف السعودية مقابل المواقف الأمريكية مزدوجة المعايير. ربما كانت المملكة ستستمع للرغبة الأميركية بالتطبيع مع إسرائيل الذي طال الحديث عنه لو أن هذا الطلب مرتبط فعلاً بجهود عملية للضغط على الكيان الصهيوني للقبول بحل الدولتين الذي تزعم الإدارة الأمريكية بأنها تدعمه لكنها لا تفعل شيئًا لتنفيذه، فهذه الإدارة متخاذلة أمام نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. ولأن إدارة بايدن تواجه تحديًا كبيرًا في انتخابات الرئاسة القادمة التي أخذ كثير من السياسيين الأمريكيين يتسابقون لخوضها مع اشتداد المنافسة الحزبية، فقد حرض بلينكين، قبل يوم من زيارته، على إلقاء خطاب أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية-آيباك-، مثلما فعلت كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي، لتأكيد دعم إدارته لبقاء إسرائيل الدولة الأقوى في الشرق الأوسط في مسعى لاجتذاب أصوات اليهود الأمريكيين لصالح بايدن المهدد بالسقوط. لم تكد زيارة بلينكن تنتهي حتى تواصل الاهتمام العالمي بسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مرة أخرى عندما هاتفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتحدث الزعيمان عن "العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تطوير التعاون في مختلف المجالات، وناقشا مسألة ضمان الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية بالتفصيل وأشادا بالتعاون بين البلدين في إطار تحالف "أوبك بلس" للدول المنتجة للنفط". ومع أن بعض المصادر قالت إن من أهداف زيارة بلينكن إقناع القيادة السعودية بأن التقارب مع الصين ليس في صالح المملكة، إلا أنه أعلن بأنه سيزور الصين قريبًا بعدما ألغى زيارة سابقة مقررة ورفض وزير الدفاع الروسي الاجتماع بنظيره الأمريكي. فكيف يكون التقارب الأمريكي مع الصين لصالح واشنطن ولا يكون لصالح المملكة؟ في هذا العالم المضطرب، اختارت قيادة المملكة توسيع علاقاتها إلى خارج التحالفات الغربية التقليدية، وأثبتت هذه السياسة مصداقيتها وعرف صنّاع القرار بأن المملكة اليوم تسير بخطى ثابتة لبناء مستقبل واعد لشعوب المنطقة سواء اتفق الآخرون الذين يتصارعون على اقتسام ثروات هذا العالم مع هذه السياسة أو عارضوها. .