القوة ظاهرة إنسانية عبّرت عن نفسها باستخدامات مختلفة ووجوه متعدّدة. هذا ليس وليد اللحظة الراهنة، وإنما جزءٌ من ميراث القوة وتجلياتها عبر العصور. فقد شهدت ميادين التاريخ في حقبه المتتالية تطورات ومتغيرات، خصوصاً في القرون الثلاثة الماضية، أكدت أنّ القوة مفتاح المنتصرين وصولجانهم العالي. ولعل القرن السابع عشر يعدّ من أهم العصور التي لعبت فيه القوة دوراً واضحاً، وأصبحت من المسلّمات النظرية والعملية في العلاقات الدوليّة، من خلال ما عرف بمفهوم توازن القوى الذي اعتمد عبر الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات، مثل معاهدة وستفاليا 1648 مروراً باتفاقيات فيينا 1815 وما تلا ذلك وسبقه من معاهدات دولية أسهمت في خلق أسس تحكّمات المجتمع الدولي وهيمناته في ذلك الوقت. وما أشبه اليوم بالبارحة، كأنّ أساطيل الإسكندر الأكبر لم تعد بعدُ إلى مرافئها، فما زال التنافس الجيوسياسي الدولي محتدماً، وما زال أوار الحرب ملتهباً لا يخرج، إلا من حيث الكيفيات، عن السياقات التاريخية السابقة. وجرى عبر مصطلح «توازن القوة» منح الحرب أو التهديد بها مشروعية دولية، ولو مواربة، حيث يتردد في كل الحروب والنزاعات أنّ الدبابات تحركت والطائرات حلّقت من أجل حماية مناطق النفوذ والمصالح، ووضع الخطوط الحمراء بين مختلف الدول الفاعلة على الساحة الدوليّة، وعليه يمكن القول إنّ المواجهة القائمة بين روسياوأوكرانيا تجسيدٌ أكيد لمظاهر الصراع في بنية النظام الدولي. السيناريوهات والتطورات المتسارعة في الحرب الجارية الآن في عمق أوروبا تؤكدان القناعة بأهمية القوة ومعاييرها المختلفة، في ترسيخ مكانة الدول وتعزيز نفوذها وحماية أمنها الوطني، فالحرب في أوكرانيا تمثّل بعداً استراتيجياً واضحاً لجهة رفض الهيمنة الغربية على مناطق نفوذ تعتبرها روسيا جزءاً من خريطة بيئتها الأمنية. والحرب إن اشتعلت لا تأبه بالتداعيات، سواء طالت روسيا التي تعاني من العقوبات القاسية، أو مسّت أمريكا نفسها التي تعاني انقساماً داخلياً في البنى الاجتماعية وتنافساً شديداً بين قطبي السياسة التي يتنازع في رحاها الجمهوريون والديمقراطيون، على إيقاع انتخابات التجديد النصفي الأمريكية في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فضلاً عما يواجه واشنطن من تحديات وتهديدات المنافسة الشرسة مع الصين، وهو ما دفع بالولايات المتحدة إلى الالتفات شرقاً والتفكير استراتيجياً واقتصادياً وسياسياً للحد من تمدّد نفوذ بكين إلى المنطقة، والحيلولة دون تعزيز علاقة الصينبإيران. في ضوء الاستقطاب الإقليمي والدولي، فإنّ الاهتمام بالقوة يتجلى واضحاً لملء الفراغ في النطاقات الإقليمية لا سيما في الشرق الأوسط، بالنظر إلى مساعي إيران ورغبتها في الحصول على القدرات النووية عبر إيجاد تسوية للملف النووي وإنجاز الاتفاق في فيينا الآن، ما يتيح لطهران الاستمرار في تعزيز حصولها على التقنية النووية، وتوسيع نفوذها وقوتها ذلك أنّ القوة كانت ولا تزال المتغير الأساسي الذي يؤثرعلى الممارسات الدوليّة. ولن يكتب النجاح للنزعة الهجومية وفرض الوقائع ب»القوة الغاشمة»، وهو تعبير يطلق على الدول المارقة، التي تعمل الدول الفاعلة في المنطقة على إيقاف نزعتها التوسعية وصدّ تطلعاتها غير المشروعة للهيمنة وخوض الحروب من خلال الوكلاء. هذا الخطر الماثل أمام صناع القرار في بعض الدول في المنطقة، دفع إلى ضرورة إيجاد مقاربات جديدة في سياساتها لمواجهة الأطماع الإيرانية، وخلق أطر جديدة تأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة الجديدة، في ظل ديناميات إقليمية جديدة تشكل زخماً استراتيجياً للتفاهمات بين دول منطقة الشرق الأوسط. بيْد أنّ أية مقاربات أو تفاهمات إقليمية جديدة لن يكتب لها التحقق، ما لم تأخذ برؤى دول المنطقة الفاعلة والمؤثرة إزاء أي أمر يتصل بحاضر أو مستقبل هذه المنطقة الحيوية، كيلا تنزلق إلى اختبار قوة سيُضاعف أزمات العالم ومكابداته. * كاتب ودبلوماسي سابق