يحتفل العالم بذكرى مرور عشر سنوات على زوال حائط برلين وانحلال الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي الخاسر الأكبر في "الحرب الباردة"، ولكن كل فريق يحتفل بهذه المناسبة على هواه. فروسيا من جهتها تستعد لدخول غروزني عاصمة الشيشان واستردادها بعد سحق الجمهورية الصغيرة تحت وابل من القنابل والصواريخ، وسط صمت المجموعة الدولية، وحياء خجول للامم المتحدة. والحلف الاطلسي يثبت أقدامه في البلقان، ويمد أطراف استراتيجيته نحو القوقاز حيث تقرع طبول حرب في العديد من الجمهوريات التي "فرخت" نتيجة انهيار الامبراطورية السوفياتية. ويشهد العالم في كل أطراف المعمورة، أحداثاً ما كان يمكن لها ان تحدث لولا انتهاء الحرب الباردة بخسارة أحد قطبيها الحرب، وتبوء الولاياتالمتحدة مركز القوة العظمى الأولى والوحيدة في العالم. وفيما يعتبر بعضهم ان انتهاء الحرب الباردة والتسليم بهيمنة الولاياتالمتحدة هو نهاية عصر النزاعات، في ظل عولمة اقتصادية متزايدة، تساهم في ربط المصالح الاقتصادية للدول بشكل يبعد شبح الحروب في المستقبل. يرى آخرون ان هيمنة قوة عسكرية واحدة، يضعف نظام العولمة الاقتصادية. ويؤجج النزاعات، ويفتح الأبواب مشرعة أمام نزاعات اقليمية كان توازن الاقطاب يحول دونها في زمن الحرب الباردة. وفي مقدم هؤلاء الصينوفرنساوالهند. واذا كان من الممكن تفهم وجهة نظر الصين التي تبحث عن دور لها على الساحة العالمية، وكذلك الهند التي تصبو الى دور قوة عظمى توازي وزنها الديموغرافي ووضعها الاستراتيجي. وكما يمكن تقديم تفسير لموقف فرنسا التي تدافع عن مصالحها الاقتصادية وتتخوف من انفراد الولاياتالمتحدة بالأسواق الكبرى في العالم، فإنه من الصعب ان نجد تبريراً لموقف الكونغرس الاميركي الذي يحاول ارجاع عقارب الساعة الى الوراء والعودة الى أجواء الحرب الباردة، وإلا فكيف يمكن تفسير مواقفه الأخيرة، خصوصاً رفضه اقرار معاهدة حظر التجارب النووية، مما يفقد المعاهدة قانونيتها، ويفتح الباب مجدداً أمام سباق تسلح نووي؟ يسعى بعض المحللين الى تحميل الكونغرس مسؤولية هذا التراجع. والواقع ان سياسة الولاياتالمتحدة بدأت تتوجه، منذ حوالي سنتين، الى توسيع رقعة المواجهة "الهادئة"، كما يصفها الديبلوماسيون، والمقصود بالمواجهة الهادئة ليس فقط تكريس واقع خلل ميزان القوى العسكرية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية لمصلحتها، بل زيادة حدة السباق، في كل المجالات، بشكل يدفع القوى الأخرى، الحليفة أو غير الحليفة، الى التخلي عن مجهودها لتحديث نوعية ترسانتها العسكرية. ويتفق المحللون على تسمية هذه الاستراتيجية "استراتيجية حرب النجوم" التي أطلقها الرئيس السابق رونالد ريغان، وأثبتت جدواها في جعل الاتحاد السوفياتي ينهار محاولاً اللحاق بسباق تسلح أنهك قواه الاقتصادية. ولا يمكن تفسير رفض الكونغرس المصادقة على هذه المعاهدة المهمة في محاولة الدول للتخلص من السلاح النووي الا ضمن هذه الاستراتيجية. وبالفعل، فإن امتناع الولاياتالمتحدة يؤدي الى إلغاء المعاهدة عملياً وسقوطها في سلة الإهمال، ذلك ان من شروط دخول هذه المعاهدة الموقعة العام 1996 حيذ التنفيذ، توقيع ومصادقة 44 دولة ادرجت اسماؤها ضمن هذه المعاهدة. وهذه الدول تندرج في فريقين: دول النادي النووي الرسمي وهي الولاياتالمتحدةوروسياوفرنسا وبريطانيا والصينوالهند واوكرانيا وقد أنهت هذه الأخيرة تفكيك كافة منشآتها النووية، وتم نقل كافة الصواريخ التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي الى روسيا. وقد انضمت باكستان أخيراً الى هذه الفئة بعد اجرائها مجموعة تفجيرات نووية في الصيف الماضي. اما الفريق الثاني فيمكن تقسيمه الى نوعين: دول "العتبة" وهي الدول التي تمتلك المقدرة على تفجير قنبلة نووية أو أنها تمتلك القدرة النووية العسكرية ولا تعترف بها، وهي اسرائيل وكوريا الشمالية. وكانت افريقيا الجنوبية ضمن هذا الفريق قبل وصول الرئيس نيلسون مانديلا الى الحكم وتفكيك مجمل الأسلحة النووية وإيقاف التعاون النووي بين النظام العنصري الذي كان قائماً واسرائيل. وكذلك كان الوضع بالنسبة الى العراق قبل تفكيك صناعته النووية عقب حرب الخليج الثانية. ويضيف بعض الجهات الجزائر وايران الى هذه اللائحة. اما القسم الثاني فيتضمن الدول التي تملك مفاعلات أو منشآت نووية للطاقة لأهداف سلمية ومدنية، وقادرة على الحصول على المواد الانشطارية اللازمة لصنع قنبلة نووية. وقد نصت المعاهدة على ان تخلّف أحد هذه البلدان عن التوقيع والتصديق على المعاهدة قبل نيسان ابريل العام 2000 يلغي هذه المعاهدة. وامتناع الولاياتالمتحدة يعطي تبريراً للعديد من الدول لعدم التصديق على المعاهدة في حال وقعت عليها أو عدم التوقيع مطلقاً أنظر الجدول الملحق. ويربط بعضهم بين موقف الكونغرس الاميركي الذي يسيطر عليه الجمهوريون والصراع الدائر بين الادارة الديموقراطية في اطار روزنامة انتخابات الرئاسة في العام المقبل. غير ان الجدل الذي رافق هذا الأمر تجاوز رقعة التنافس الانتخابي الضيق. وسجلت المناقشات الحامية تدخل العديد من الخبراء والمسؤولين السابقين امام الكونغرس بصفة مستشارين أو بشكل تحليلات على صفحات الجرائد والصحافة الاميركية. ومن المعارضين لهذه المعاهدة هنري كيسنجر وسكوكروفت مستشار الأمن القومي السابق الذي كان وراء وقف التجارب النووية الاميركية العام 1992. وفيما يبني المؤيدون للتصديق على المعاهدة حجتهم على ان الولاياتالمتحدة ستجمد الوضع وهي في موقع قوة، مع تشديد الرقابة على الدول الأخرى عبر مؤسسات الاممالمتحدة ولجنة حظر الأسلحة النووية المذكورة في المعاهدة. يرد المعارضون بأنه في الوقت الذي تسعى الصين وكوريا الشمالية التي لم توقع اصلاً على المعاهدة لتطوير أسلحة تستطيع الوصول الى الولاياتالمتحدة يصبح من المستحيل تقييد يد الرئيس الاميركي بأي معاهدة تمنع الولاياتالمتحدة من الحفاظ على تقدمها في هذا المجال. بالإضافة الى الانعدام ثقة الكونغرس والعديد من الاميركيين بأنظمة الرقابة الدولية، ويعطون مثالاً على ذلك العراق وكوريا الشمالية. وتوجه جهات ديبلوماسية مقربة من أوساط نزع السلاح النووي في فيينا، حيث تجري المحادثات الخاصة بمنع التجارب النووية نهائياً، اصابع الاتهام الى سياسة الرئيس كلينتون منذ سنوات في مجال دعم انشاء نظام صواريخ مضاد للصواريخ، وذلك بشكل مخالف للمعاهدات الموقعة مع الاتحاد السوفياتي العام 1972، ويدفع الكونغرس للامتناع عن تصديق هذه المعاهدة، ويشجع في المقابل الدول الممتنعة عن التوقيع على الانتظار والمماطلة، كما يدفع بالدول التي سبق أن وقعت الى السعي للمحافظة على مجهودها في مجال التسلح، وأفضل أمثلة على ذلك الهند وباكستان. ان نظام الصواريخ الجديد الذي تسعى الولاياتالمتحدة لتطويره هو عبارة عن نظام دفاعي متكامل يمنع وصول الصواريخ العابرة للقارات الى أراضيها. ويعتمد هذا النظام على مجموعة متشابكة من محطات الانذار المتواجدة في الاقمار الاصطناعية، والمرتبطة مباشرة بشبكات صواريخ على الأرض، بحيث يتم اعتراض الصواريخ التي تطلق باتجاه الولاياتالمتحدة في طبقات الجو العليا قبل وصولها الى أراضي الولاياتالمتحدة. ويعرف هذا المشروع بنظام "الستار الواقي"، وهو اساساً من مخلفات مشروع حرب النجوم، أحياه الرئيس كلينتون بتخصيص 2.2 مليار دولار له قبل سنتين. وقد أعلن في الشهر الماضي نجاح أول تجربة لاعتراض صاروخ أطلق فوق المحيط من قاعدة في كاليفورنيا. ومن المنتظر ان تفوق تكاليف هذا المشروع 40 مليار دولار. ولكن مبدأ بناء هذه الشبكة يتعارض، وبصورة فاضحة مع معاهدة موقعة العام 1972 مع الاتحاد السوفياتي معاهدة الحد من انتشار نظام الصواريخ المضادة للصواريخ ABM. وتسمح هذه المعاهدة لكل من البلدين بالمحافظة على محطتين فقط للصواريخ المضادة للصواريخ عابرة القارات: قاعدة لحماية العاصمة وقاعدة لحماية منصة واحدة لإطلاق صواريخ عابرة للقارات. وفلسفة هذه المعاهدة بسيطة جداً لكنها أثبتت اهميتها في حفظ السلام بين الجبارين. فحماية العاصمة هو حماية القرار السياسي. وحماية قاعدة اطلاق صواريخ هي حماية ل"حق الرد" الشامل والمدمر على أي اعتداء من الخصم. ويعتبر العديد من المختصين ان هذه المعاهدة سمحت بإقامة توازن الرعب الذي أدى الى الانفراج في العلاقات الدولية، وساهمت بخلق حالة سلم عالمي ما زالت مستمرة. ويرى بعضهم ان سعي واشنطن لإعادة النظر بهذه المعاهدة يمكن ان يسبب توتراً مع روسيا التي ترفض خطوات الولاياتالمتحدة في هذا الاتجاه، خصوصاً انها عاجزة مالياً وتقنياً عن القيام بأي مجهود تسلح للحاق بواشنطن. أما أوروبا فهي متخوفة كذلك من مضي اميركا في هذا الاتجاه الذي يعزز النزعة الانعزالية لدى السياسيين خصوصاً في الكونغرس، ويرفع مظلة الحماية الاميركية عنها. كذلك فإن كل فك ارتباط يحصل في الدفاع المشترك بين اوروبا والولاياتالمتحدة، يمكن ترجمته بزيادة توتر بين الكتلتين الاقتصاديتين. اضف الى ان فرنسا التي بنت ايديولوجية دفاعها وفق مبدأ "ردع الصغير للكبير"، أي ان ترسانتها النووية مبنية بشكل يؤمن لها إصابة أي معتد بشكل ما، وان لم يكن شاملاً، الا انه موجع بحيث يجعل كل من تخول له نفسه استعمال السلاح النووي ضدها متردداً، لا تقبل بنزع آخر مبررات اعتبارها دولة عظمى. والصين من المعارضين ايضاً لتطوير هذه الشبكة خصوصاً ان الولاياتالمتحدة لوحت بإمكان ضم اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان الى المنطقة المحمية وراء ستار نظام الصواريخ هذا. ولا يمكن للصين القبول بالخروج من معادلة توازن القوى هذا في آسيا، اضافة الى ان هذا يعني طي صفحة عودة تايوان الى الوطن الأم. ان السؤال المطروح هو لماذا تسعى الولاياتالمتحدة الى تسخين أجواء العلاقات الدولية؟ ان مؤشرات هذا الاتجاه السياسي في تعامل الولاياتالمتحدة مع بقية دول العالم يصب في خانة تسجيل النقاط في سبيل عولمة شاملة تهدف الى تحييد الصراع العسكري، وحصر القوة العسكرية في يد الولاياتالمتحدة فقط. ومن ثم ترك مجال التنافس الاقتصادي "الحر" مفتوحاً أمام الجميع ضمن نظام العلاقات الدولية حسب المفهوم الاميركي الواسع الذي يرى ان تشابك المصالح الاميركية الاقتصادية مع مصالح اقتصادية لدول أخرى، سيؤمن حماية مصالح هذه الدول تحت المظلة الاميركية. وفي المقابل، فإن كل من يخرج من هذا الاطار تجب محاربته، دولة كانت أم منظمة دولية أم شركة عالمية. وهكذا هو الأمر مع العديد من الدول التي تضعها واشنطن على "لائحتها السوداء" من كوبا الى العراق مروراً بكوريا الشمالية وغيرها. اما بالنسبة الى المنظمات الدولية، فالأمم المتحدة، على سبيل المثال، ما زالت تسعى للحصول على مستحقات الولاياتالمتحدة المتأخرة والتي تصل الى ما يوازي ربع موازنتها، والتي يرفض الكونغرس الموافقة على تحويلها. وحتى الآن لم تسترد واشنطن مقعدها في منظمة اليونيسكو، فيما هي لا تتردد بالضغط على المشاركين في مؤتمر بون العالمي للمناخ والبيئة الذي انعقد اخيراً والذي يسعى في سياق مؤتمر كيوتو، الى الحد من تلوث الجو الذي تسببه غازات المصانع ومحروقات وسائل النقل. وقد نجحت الولاياتالمتحدة، أكبر ملوث في العالم نظراً الى كونها أكبر دولة صناعية وصاحبة أكبر نسبة استعمال لوسائل النقل الملوثة سيارات وطائرات، بعدم اقرار حد لسقف التلوث المسموح به لكل دولة، اضافة الى نجاحها بفرض "خصخصة" لعملية تقييم وضبط نسبة التلوث في جميع الدول. ومن هنا يتفق الجميع على ان قراءة تأجيج هذا الصراع الهادئ، يجب ان تتم ضمن سياق التوجه نحو خصخصة الحياة الاقتصادية لدول العالم تحت سقف حماية دولية تقودها الولاياتالمتحدة. ان هذه المؤشرات ستجد ترجمتها في قمة "سياتل" حيث من المفترض ان تبدأ حلقة جديدة من المناقشات في اطار المنظمة العالمية للتجارة. وسيكون خطاب الرئىس كلينتون محور اهتمام المشاركين لأنه سيعلن الخطوط العريضة المختبئة وراء سياسة القوة العظمى الوحيدة، وذلك خلال مؤتمر رؤساء الدول في الاممالمتحدة، والذي سيجمع رؤساء دول العالم لتوديع الألفية الثانية في نيويورك