عرف الإنسان الرحلة أو الترحال أو التنقل بفطرته الأولى منذ نزوله على الأرض. فكثيراً ما كانت الطبيعة تفاجئه بتحولاتها فتجبره في كل مرة أن يرتحل لمكان آخر من أجل البقاء. وإلى يومنا هذا مازال يتواجد على الأرض الآلاف من البدو الرحل، الذين ورثوا حياة الترحال عن أجدادهم منذ عقود، رافضين تغييرها، لأن الترحال بالنسبة لهم ليس نمط عيش فقط بقدر ما هو هوية يحمونها من الاندثار وجزءًا من عاداتهم وتقاليدهم، فتجدهم متشبثين بهويتهم المتنقلة ورافضين لمبدأ الاستقرار. وتعتبر الرحلة نوعاً من أنواع التنقل الزمكاني مارسه الفراعنة، والفينيقيون والرومان والإغريق منذ القدم قبل العرب وصولاً إلى ابن بطوطة، ابن جبير وابن فضلان، الإدريسي والجعايدي وحانون القرطاجني، إلى رفاعة رافع الطهطاوي المصري. ومازال حتى يومنا هذا يمثل موضع اهتمام لدى الكثير من الباحثين من مختلف الجوانب الأنثروبولوجية والجغرافية والأدبية والفنية مع اختلاف ظروف وأسباب كل رحلة. ونظراً لثراء المادة البصرية لكل رحلة، اتخذت الرحلات أشكالاً فنية وتشكيلية جديدة، فعمل بعض الفنانين على إيجاد منهج مغاير لما دأب عليه أترابهم محاولين إثارة أسئلة جديدة حول أهداف الفن التشكيلي ووسائله ووظائفه. وهنا تتواتر الأسئلة بخصوص هذا المبحث فيكون أولها التساؤل حول مفهومي الرحلة والترحال الفني وثانيهما حول مجموعة الأشكال الفنية التي ولدتها مختلف الرؤى تجاه هذا الموضوع؟ فهل أعادت الرحلة النظر إلى المكان وحاولت خلق جغرافيا مكانية جديدة للإبداع سافرت بالفن من الفضاء المغلق النوعي المقتصر على فئات معينة إلى الأمكنة المفتوحة والعامة بأعمال فنية ذات تقنيات وألوان جديدة وقيمة جمالية تحاكي فن الرحلة في كل تفاصيله وتناقضاته؟ كل هذه الأسئلة تتناول فكرة الترحال من زوايا مبحثية ومرجعية متعددة وتؤثث لفسيفساء فكرية وتشكيلية لا متناهية الأطراف. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار الرحلة كفن ينتمي إلى الفنون البصرية، حيث الفن هو هذا الترحال المفتوح الذي لا يختار جمهوره بل يذهب إليه ويرغمه على مشاهدته، يتفاعل معه بخلق وابتكار تقنيات جديدة في تنفيذ الأعمال الفنية كاستعمال دفاتر السفر كمحمل أساسي في الرسم واعتماد أدوات وخامات تمنحهم السرعة والوضوح كتقنية الاكورال وقلم الرصاص، إلى جانب التصوير الفوتوغرافي... فدفاتر السفر تعد تجربة فريدة في المشهد التشكيلي بحيث يعرض من خلالها بلاغات بصرية، وانطباعات سجلت في مختلف المحطات التي وقع المرور بها. فهي تؤرخ للحظات عينية معينة توثق الأحداث التي عاشها المرتحل والانطباعات التي تشكلت لديه بشأنها. كما أن لغة الرمز أو الإيحاء هي التعبير المرن لفتح آفاق الخيال ولدفع المشاهد إلى مساحات أكثر اتساعاً للتنقل من صورة إلى أخرى انطلاقاً من مختلف العناصر الثابتة أو المتحولة في المكان. فهي بإيجاز شكل فني يعتمد الإيجاز والمباشراتية مع الطبيعة والاندماج الكلي بها عبر التعامل بشكل مباشر مع المواد والخامات الأساسية التي تكونها، كالتراب والحجر، إلى جانب الوسائط التعبيرية الأخرى كالخرائط والصور الفوتوغرافية والدلائل والتوليف فيما بينها فنياً وإنشائياً. فدولا كروا مثلاً حين زار المغرب سنة 1832، كان يلتقط، حين كان يشتغل على مذكرات سفره المرسومة، الأنوار والخطوط والأشكال الملائمة للمشهدية الشاسعة التي بلورها في لوحاته فيما بعد، حيث أضحى التشكيل مشهدية مشبعة بالعلامات والكتابات ولعبة الذاكرة. وبالتالي فإن الفن التشكيلي وتعبيره عن الرحلة هو توازن بصري يجمع الذاكرة بالفكرة ليقدم مادة إبداعية لها تلقائيتها انطلاقاً من علامات بصرية مسجلة. فن له إيقاعه وخطوطه التي تنسجم مع الألوان مثلاً الترابية والألوان الباردة والحارة فمن الأزرق إلى الأصفر والأخضر تختلف البيئة والطبيعة والعلامات ودلالتها الرمزية حسب الفكرة المقصودة مع توظيف الشخوص والملامح والعناصر والخامات لتتقمص كلها الدور المرجو منها لإيصال المعنى ومدلوله وهنا تتحقق المتعة البصرية في سرد تفاصيل مستوحاة في ذلك البيئة واللغة البصرية حرفاً وملامح وتشكيلاً للخامات ألواناً معتقة النضج في تفاصيل الحياة، طبيعة، أرضاً وناساً، مع الطبيعة الرمز من خلال تفاصيل المدن في جغرافيا الألوان وتداخلاتها الرمزية. إشراف: أحمد الغنام نماذج من أعمال الفنانة المصرية أزميرالدا حداد نماذج من أعمال الفنانة السورية سعاد مردم بك نماذج من أعمال الفنانة المصرية أزميرالدا حداد