بعد تمييزي، في الأسبوعين الماضيين، بين الشعر والنثر، أصل اليوم إلى التمييز في الشعر بين الغزل والحب. يحفل الشعر العربي، منذ مطالعه، بأبيات في الغزل تضيع بين استهلال القصيدة بالوقوف على الأطلال والانتقال إلى مرام الشاعر في قصيدته. وما الغزل؟ هو التشبّب بامرأة قد لا تكون موجودة. يبتكرها الشاعر في خياله ليكتب فيها. وأكثر: قد تكون موجودة إنما ينقصها أن تجعل الشاعر في حالة الحب. يروح يغدق عليها صفات قد لا تكون فيها فيجعلها هو فيها لتكتمل الصورة. وربما لا تكون على مستوى من الجمال أو قدْر من الثقافة أو درجة من المبادلة تجعلها مستاهلة شعره فيها أو انصرافه إليها كتابة أو شفاهة. والقارئ الرهيف يدرك في حدسه أن الشاعر يغالي في نسج قصيدته حتى يجعل ما فيها أقرب إلى الواقع. أكثر بعد: يصح أن تكون قصيدة الغزل موجَّهة إلى أيّ امرأة، ولا تعكس تجربة حية أو أحداثًا جرت، فتكون مرفوعة إلى امرأة من رخام، جميلة لكنها من رخام، وتكون القصيدة جميلة معبِّرة لكنها رخامية باردة. وما شعر الحب؟ هو الذي لا يكون إلّا لامرأة إحدى، معيَّنة، معنيّة، موجودة واقعًا، فتخرج القصيدة نابضة بالحياة لأنها بنت الحياة ولأن الحب فيها ابن الحياة لا التخيّل ولا الافتراض. في شعر الحب، لا بيت شعر واحدًا إلّا من التجربة، فتكون القصيدة مرآة حدث واقع أو حالة حقيقية. قد يعيش الشاعر تجارب مع أكثر من امرأة ويتشبب ويتغزل، وقد يمضي عمره ولا يعرف الحب الحقيقي، فيكون شعره في الغزل لا في الحب. وربما مر بعض عمره، أو جلّه، في الغزل، إلى أن يعرف الحب الحقيقي، ولو في خريف عمره، فيتحوّل خريفه ربيعًا، ويخلع عنه عمومية الغزل ليرتدي إحادية الحب ويتحول شعره من وصف الحياة إلى عيش الحياة. ولكن.. ما دام الغزل، معظمه، افتراضيًّا لامرأة افتراضية أو ناقصة الاكتمال فتكمل القصيدة ما ليس فيها، ينشره الشاعر قصائد متفرقة أو مضمومة في مجموعة، متاحة مباحة للجميع، يتناولها القراء عابرين، أو النقاد دارسين. أما شعر الحب، فليس إلّا لهما فقط: الشاعر وحبيبته. حميم هو، ليس للنشر، كي لا يكون البوح إليها مشرَّعًا للجميع وهو ليس إلّا لها. شعر الحب حميم، كلحظات الحب الصادقة، وشعر الغزل عميم، كأي كلام عام عادي. وعلى الشاعر أن يختار بين الحميم والعميم، بين حبه الدافئ أو غزله البارد.