سعيد عقل شاعر الغزل بامتياز. فشعره في الحب يضاهي شعره الوطني رونقاً وتألقاً وجمالاً. وقصائده الغزلية حتى اليوم على كل لسان. في هذه الحلقة، يشرح صاحب "رندلى" مفهومه لهذا النوع الادبي، ونظرته السامية، العفيفة، العذرية الى المرأة كما يكشف عن جوهر فلسفته القائلة بپ"الفن للفن"، ما دامت اجمل ابياته الغزلية وليدة حب وهمي مجرد، لا تجربة حياتية معاشة. في منطق شعر الحب، فضول قارئه ان يعرف المرأة التي أوحت بالقصيدة. هكذا احياناً تضيع جمالياً القصيدة وراء هم البحث عن صاحبة القصيدة. فمن من قدر الشاعر، وحياته ملك قرائه، ان يبحث الناس عن النساء في حياته، فضولاً يطغى غالباً على قراءة قصيدة الحب كمقطوعة فنية. سعيد عقل يلغي هذا الامر فوراً. المرأة في حياته تساعد على مناخ القصيدة ولا يمكن ولا بحال ان تكون القصيدة. لذلك الغى من حياته الخاصة وهج امرأة مباشراً على قصيدة الحب لديه. في مطلع 1952 عقد خطبته على سعاد أبي صالح. دامت الخطبة سنتين ولم تكمل الى الزواج. بعدها بثلاثين عاماً، مساء الأربعاء 9/12/1981 عقد خطبته على الشاعرة أمال جنبلاط. دامت الخطبة خمسة اشهر وتكللت بالزواج صباح الاحد 2/4/1982. غير ان الزواج لم يدم الا خمسين يوماً، وانكسر بمأساة غياب العروس عصر الاحد 23/5/1982. في دواوين سعيد عقل وكثير من قصائده او عناوين قصائده اسماء نساء او اهداءات الى نساء. فهل من الضروري ان نبحث في شعره الغزلي عن امرأة وراء كل قصيدة؟ دواوينه الغنائية بدأت في "رندلى" 1950 وقصائدها مكتوبة قبل ثلاثين عاماً 1930، ثم "أجمل منكِ؟ لا" 1960، "أجراس الياسمين" 1971، "قصائد من دفترها" 3197، "دُلزى" 3197. وله "كتاب الورد" كلمات حب - 1972، وقصائد حب في "يارا" 1961 و"خماسيات" 1978، و"الذهب قصائد" بالفرنسية 1981. جميعها من الشعر الغنائي الغزلي، وبينها ديوان كامل في الغزل بالطبيعة "أجراس الياسمين". والطريف هنا ان احد النقاد وهو من حملة الدكتوراه في الأدب كتب مقالاً مطولاً في الديوان كال فيه المديح لتلك "المرأة التي اوحت لسعيد عقل بهذه القصائد"، والديوان ليست فيه قصيدة واحدة ذات علاقة بالمرأة، بل جميعها في التغزل بالطبيعة. مما يؤكد على صواب سعيد عقل حين يشدد على اهمية الثقافة عند الشاعر اوعند الناقد، "... كيف نخلق قارئاً مثقفاً اذا كان شاعره وناقده غير مثقفين؟". الغزل شهم وصعب! وإذا كانت "بنت يفتاح" هي "أول مأساة عرفها الشرق" كما قال لامنس، فان "رندلى" اول ديوان غزل متكامل في الشرق عدا الفرس الذين عرفوا هذه الظاهرة قبلاً. قبله، كان الغزل جزءاً من ديوان يحوي وجدانيات ومواضيع شتى. لماذا خصص الشاعر ديواناً كاملاً للغزل؟ ها هو يشرح، فيأتي شرحه كالعادة خلاصة لما اختزنه من ثقافة: "الحب اجمل عاطفة على الاطلاق. وكلما كان شعب يكرم المرأة، يصدر عنه غزل راقٍ. وإذا لم يكن يكرمها، يصدر عنه غزل مزيف. يخلط الناس بين الغزل والابتذال. وقد عرفت الشعوب في شتى عصورها شعراء مبتذلين. شرط الغزل ان يبقى شهماً، وصعوبته انه معرّض للانزلاق الى سهولة يتأثر بها الجمهور العريض غريزياً. وثمة شعراء كثيرون استغلوا هذه الغريزة فأكثروا من الشعر المبتذل على انه غزل، وما هو بذلك قط". يتشدد سعيد عقل في هذه المسألة. ويروي حادثة جرت معه اكثر من مرة: "احياناً حين كنت أُدعى الى امسية شعرية، قبل البدء بقراءة شعري، ارفع هذا الخاتم في يدي، وهو ذهب اصلي من امي وفي قلبه فيروزة مطبوخة كلما شحبت يقال ماتت بسبب ما يلحقها من ماء وصابون ومواد اخرى تطال اصابع اليد استبدلها بمطبوخة اخرى لأن الفيروزة الاصلية ثمينة جداً. وليس من يميز بين الاصلية والمطبوخة الا العارف الخبير. ارفع الخاتم اذاً، ثم انبه الحضور ان يميزوا الغزل السامي الانيق من الغزل المزيف الساقط لأن بينهما فارقاً واهياً لا يلتقطه سوى الخبير. وحدث وأنا في السيارة، في طريقي الى أمسية لي، ان تناولت بعض قصائدي، ونسجت على القافية نفسها والوزن نفسه، نسخاً مزيفة سريعة لا قيمة شعرية فيها بل فيها ايحاءات رخيصة. ثم برحت اقرأ للحضور النسخ المزيفة واحدة بعد اخرى، فظنها من اشعاري الحقيقية. عندها قمت بالقاء قصائدي الاصلية، متبسطاً في الفارق الدقيق. الذي يميز لغة شهمة لا يمكن ان تخرج بها قصيدة الا اذا كان شكلها الفني كذلك شهماً وأنيقاً. فثمة كلمات لا يمكن استعمالها في شعر الغزل لأنها تجرح الشهامة. هنا الغزل شهم وصعب. غالباً ما تبدأ حضارة من ديوان غزل او قصة حب خالدة قصة "روميو وجولييت" مثلاً في انكلترا. وحين أقول الغزل اعني الشهامة والبطولة والشرف والفضائل السامية التي حين يقرأها الناس في الغزل يتأثرون بها في حقول الفلسفة والتاريخ والسياسة ويلتزمون بحدودها الشهمة. هكذا يصبح للغزل طابع تعليمي يرفع الناس الى مناخ سام رفيع، مع انه ليس شعراً تعليمياً بأي حال من الاحوال...". ويتابع الشاعر: "هكذا فكل قصائدي الغزلية، لها رسالة وليست مجرد افكار او كلمات مستوحاة من امرأة. والمرأة، يكفي ان تكون بطلة القصيدة. فحتى لو لم يكن الشاعر يحب امرأة معينة، مجرد كتابته للغزل، يعني انها موجودة او يفترضها في خياله". النزول الى مستوى القرّاء ذات يوم كتب إدوار حنين مقالاً نقدياً ايجابياً عن شعري الغزلي، ثم قال: "ليس في قصيدة سعيد عقل امرأة حقيقية لوّعته وألهبت لواعجه". وما ذنبي اذا لم اعرف في حياتي امرأة لوعتني؟ هل اخترع امرأة عذّبتني، فقط لمجرد ان اكتب فيها هذا الكلام؟ أنا أباهي بأن شعبي دللني والمرأة دللتني. فلماذا اخترع او افتعل ما لم يحدث؟ عَرِفتُ شاعراً، في مطلع شبابي، قام شعره على النواح والحزن والأنين وندب الشباب، مع انه في ريعان الشباب. كان دائماً في شعره افتعال الحزن والوجع والحرقة. وهكذا يفعل شعراء كثيرون. انا لا أؤمن بما يصدر عن الطبقات غير المثقفة. وهذه الاخيرة اريدها، كي ترتفع الى اعلى، ان تقرأ في شعري كيف تحب وتشعر. لست انا من ينزل اليها قط. لم يحدث في حياتي ان تناولت عن قناعة شعرية من اجل النزول الى مستوى القراء العاديين او الطبقات غير المثقفة. والغزل مدرسة مهمة لترقية الشعب. وبداية كل شاعر عظيم، قصائد غزل. ويلُ شعبٍ لم يعرف الغزل الحقيقي. وويل عالم او سياسي اذا لم يبدأ بقصيدة غزل، لأن الغزل يمنحه الشهامة ويزيده رهافة في التقاط نواميس الطبيعة. من لم يتغزل، تمر امامه الاصوات العظيمة ولا يراها... انطلاقاً من وعيي لهذا الواقع، بدأت اكتب قصائد الغزل بعدما اصبحت مثقفاً. صحيح ان بعض الغزل عشته في مطالع حياتي، لكن الذي عشته لم يتعد 40 في المئة من قصائدي الاولى، والباقي جاء مع المعرفة التي اكتسبتها. في ما بعد صرت اكتب قصائد غزل غير معاشة على الاطلاق، من منطلق الغزل للغزل، وكي ابدع وطناً عظيماً يقوم على عواطف الغزل الراقي. طبعاً تأثرت بنساء في حياتي، وبنساء اعجبت بهن من التاريخ اليسا وزوجة استروبال، وبملكات لبنانيات منهن جوليا دومنا وجوليا ماما وجوليا ميزا اللواتي اعجبت بهن لأنهن تفوقن على الميديتشيّتين اللتين حكمتا فرنسا وكنّ يقدن الجيوش الفينيقية... اعجبت بتلك الشخصيات النسائية اكثر من اعجابي بأية امرأة احببتها ولم تكن بطلة. ثمة نساء احببنني اكثر مما احببتهن. واللواتي احببت كانت لديهن حسنات زاد منها حبي لهنّ. ومعظم اللواتي احببت كن يقرأن اشعاري ويتمثلن ببطلة القصيدة ورب لحظة حب في قصيدتي تختصر سنوات من حب كبير. ثلاثة يبتكرهم الشاعر: الشعب، المرأة، القارئ. فاذا بقيت اكتب للقارئ كما يريد هو، لا أحسّنه ولا أرفعه عما هو عليه. قبلي كان التغزل بالمرأة من قاموس امرء القيس. وهذا كان مخلصاً حين استعار لوصف المرأة عيون المها وعنق الغزال وقوام الشجرة لأنه نادراً ما كان يرى في بيئته الجرداء اجمل من عيني البقرة الوحشية ووثب الغزال وقوام الشجرة. فهل أحذو أنا حذوه؟ ما قلته، لم يقله قبلي احد. والمرأة اذا بقيت بعد حب الشاعر كما كانت قبله، فمعنى ذلك ان الحب الذي نتكلم عنه فاشل وعادي جداً. الاستحالة جزء من جمالية الشعر الغزلي عندي. فالحياء اجمل العواطف، ودوره اساسي في الغزل. وبالمرأة المتمنعة المح الى الرأس العالي، وأشير الى السياسي ان يتمنع عن الذل بالاستزلام الى سلطة خارج وطنه. الزواج؟ كان دائماً في بالي. لم اخف يوماً من مشاكله وهي جزء من مشاكل اكبر في الحياة. كنت دائماً احس انني اكبر من مشاكل الحياة. ولذا اعترف اليوم بندمي على عدم الزواج".