على مدار الأشهر العسيرة الماضية، خاضت أغلب الهيئات الرسمية اختبارات غير مألوفة ومفاجئة للحفاظ على استقرارها وتلبية احتياجات الجماهير في خضم الاضطرابات الناتجة عن تفشي فيروس كوفيد -19، وإن كانت القطاعات الخدمية هي الأكثر تأثرًا واحتكاكًا بالأزمة، فالهيئات الصناعية أيضًا قامت بجهود مُضاعفة للحفاظ على الاحتياجات المحلية والصناعات القائمة من التخبط الاقتصادي وانعكاسه على الأسواق، من بين هذه الهيئات بالطبع "مدن" أو الهيئة السعودية للمدن الصناعية والمناطق التقنية، والتي قامت بإجراءات استثنائية لدعم الشركاء الصناعيين خلال ذروة تداعيات فيروس كورونا، فخفضت الإيجار السنوي بنحو 25 % حتى نهاية العام 2020، وأصدرت إعفاءات عن بعض الرسوم، كما مدت الفترة المُحددة لبناء المصانع لتبلغ 36 شهرا بعد حد أقصى 24 شهرا في الماضي، ما أتاح لبعض الصُناع والكيانات الاستثمارية فرصة التقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأولويات، كما وفر لها حماية من خطر التداعي، الأمر الذي يشكل نجاحا بارزا في آونة الأزمات. أحد النماذج التي يُمكن التدليل بها على نجاح مُدن وتوظيف آليات الهيئة على خير وجه لعبور عام الجائحة، وما ترتب عليه من عصف بالمشهد الاقتصادي الإقليمي ومسارات التبادل التجاري، هو نموذج المصانع الجاهزة. والمصانع الجاهزة يمكن تبسيطها وشرحها للمواطن العادي غير المختص على النحو التالي: هي مساحات صناعية تتراوح ما بين 700 إلى 1500 متر مربع، مجهزة بكافة التجهيزات من مصادر الطاقة والكهرباء والمناطق الإدارية والإنتاجية على أعلى مستوى، وجاهزة لاستضافة أية صناعات أو أعمال بسيطة في الحال، كالصناعات الغذائية والصناعات الطبية التحويلية وغيرها. الأمر الذي جرى توظيفه على أكمل وجه في الحقبة الماضية، إذ كشفت الجائحة دور المصانع الجاهزة في التخفيف من آثار الجائحة على نحو فعال بتوفير حاجات المواطنين الأساسية محليًا، دون تأثر عملاق بالإجراءات الاحترازية العالمية المشددة على التبادل التجاري، ليشهد العام الجاري طفرة في أعداد المصانع الجاهزة للتأجير، بالتوازي مع حساسية وإدراك "مدن" لمُتطلبات السوق المحلي المتعطّش لسلع أساسية مصنّعة محليًا، من ناحية أخرى، من الممكن استشفاف الأثر طويل المدى لهذا النموذج، الذي وإن جرى التوسع فيه بناءً على الأزمة الصحية العالمية، من شأنه أن يكون خير عون للقطاع الصناعي لفتح آفاق متعددة للاستثمارات المحلية الواعدة، ودمج المتوسطة والصغيرة منها على وجه التحديد في التيار الصناعي الجارف. خطوات أخرى اتخذتها مدن لدعم القطاع الصناعي في المملكة، إلا أنها تركزت في مصلحة المواطن بشكل رئيس، وهي المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي والطبي، إذ تمكنت مدن خلال الفترة الماضية من جذب استثمارات محلية وعالمية لقطاع الصناعات الغذائية والطبية، فحفزت عددا من الشركات الكُبرى على إنشاء مصانع متخصصة جديدة بالمملكة، ومجمع متكامل للصناعات الدوائية على سبيل المثال. إلا أنه من الضروري ملاحظة ارتباط أهداف تعزيز الصناعات الغذائية والدوائية الوطنية، برؤية المملكة 2030 التي استشرفت أهمية تكامل القدرات الإنتاجية الوطنية، واخُتبرت أول ما أخُتبرت مُبكرًا في ضوء الجائحة غير المتوقعة وأثبتت جدارة وفعالية.