يُعد اختراع الإنترنت واحداً من أكثر الاختراعات الثورية والمثيرة في آن واحد في القرن الأخير، اعتبارًا من خط بدايته النظرية أو التطبيقية، فإن الأفق الذي أتاحه وسيط الإنترنت أفق إشكالي من الدرجة الأولى، ففي حين وفر الإنترنت الوسيط اللازم لكافة عمليات التواصل والتبادل المعرفي بكفاءة عليا، على الجانب الآخر، كانت له مثالبه، في مقدمتها بالتأكيد الضوابط الحاكمة للنشر الرقمي، وغيرها، لكن ما أعني به هاهنا معضلة المقابل المادي للمحتوى الإبداعي، فبإيذان عصر الإنترنت، أصبحت كافة وسائل النشر خلافه وسائل صورية، أو على الأقل بدأت سطوتها وقدرتها على تحقيق الربح لصاحبها تقل شيئًا فشيئًا حتى تبددت فاعلية أغلبها. في خضم هذه الثورة التي خلفها اختراع الإنترنت في مسألة النشر وفقدان الوسائل التقليدية لترجمة المحتوى الإبداعي إلى أرباح مادية فاعليتها، أصبح راتب صانع المحتوى إحدى إشكاليات العصر الرقمي، لتظهر لاحقاً محاولات عديدة، في مقدمتها بالتأكيد وضع الإعلانات على المحتوى ذي الشعبية، لكن بعضها لا يرتبط تمامًا بمدى شعبية المحتوى وانتشاره. من بين الحلول العملية لحماية حقوق صناع المحتوى المادية والأدبية عن أعمالهم، وضمان حصولهم على أجور عادلة عما يقدمونه من مواد فنية أو ثقافية على أي شاكلة، نجد بعض المنصات الضامة لصناع المحتوى كمنصة Patreon، التي أسسها شاب يهوى الموسيقى وينشر أعماله عبر اليوتيوب يدعى جاك كونتي العام 2013. انحصرت أزمة كونتي في حصوله على ملايين المتابعين، فيما تبقى عائداته محدودة، ما توفره منصة باتريون هو فرصة دفع المتابعين لقيمة ما يشاهدون من محتوى خدمي أو إبداعي بشكل دوري، ما يجعل صانع المحتوى يحصل على أجر شبه دائم كموظف بدوام كامل. في النموذج ذاك، الجميع مستفيد، إذ يحصل المشاهد/ المستهلك على محتوى خاص دائم التجدد، ويتلقى الفنان/ صانع المحتوى أجراً شهرياً أو وفق أي نمط ملائم لاحتياجاته، فالمنصة مطروحة للموسيقيين وصناع الأفلام والفنون البصرية والبودكاست والكتاب، وكذلك صناع المحتوى التعليمي، وشعار المنصة هو "اصنع قواعدك الخاصة"، أي أن صانع المحتوى يتمتع بمرونة كبيرة في تحديد احتياجاته. مايزال رغم ذلك هناك تساؤلات حول كيفية عمل المنصات الداعمة لصناع المحتوى والمبدعين المستقلين، فعلى سبيل المثال ما قواعد أو معايير نشر المحتوى على المنصة؟ وهل المحتوى لابد أن يلائم كافة الفئات العمرية في آن واحد؟ وكيف يمكن الإبلاغ عن محتوى غير المقبول كخطاب الكراهية؟ من جهة أخرى لابد من أن نتطرق لمدى ملاءمة تلك المنصات للعمل داخل المنطقة العربية.. فهل يقبل جمهورنا العربي العمل بنظام الاشتراكات الشهرية للحصول على محتوى من غير المتخصصين بجودة متباينة في حين مازلنا في بعض الأحيان نتساءل عن إمكانية تطبيق نظام الاشتراكات في الصحافة الرقمية ونراهن على الأجيال الجديدة من المتلقين.. لا يمكن الحصول على إجابات قطعية سوى بالتزامن مع ميلاد تجارب محلية نرصد تطوراتها عن قرب ونشهد تفاعل الجمهور معها مباشرة نسطر الأحرف الأولى في عصر الإنتاج المفتوح.