أدهشتني أبياتٌ في الكرم كنتُ وضعتها في إحدى صفحاتي (الإلكترونية) وظننتها لحاتم الطائي الذي لا يمكن أن تصدر عن غيره؛ أبيات في غاية الجود، والسخاء، غير أن أحد أصدقائي الأكاديميين نبّهني إلى أن الأبيات ليست كما أتوهم لحاتم الطائي، بل هي لعمرو بن الأهتم، صاحب الحلل المنشرة، الملقّب ب(المكحّل) أحد شعراء الصحابة المجيدين، شاعر مخضرم، أدرك الإسلام، وحسن إسلامه، وقد رجّح بعض المحققين نسبة هذه الأبيات إليه، وهي التي يقول فيها: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والزمان جديبُ وما الخصب للأضياف أن تُكثِرَ القِرى ولكنما وجه الكريم خصيبُ وقد دعاني هذان البيتان إلى أن أفتّش في ديوانه، فوجدته مليئًا بأبيات فخمة، تحث على البذل والندى، وهي أبيات تحاكي فلسفة حاتم الطائي في الكرم، وتجعل من شاعرنا جوادًا منسيًا، ومغمورًا. يقول مثلاً مخاطبًا زوجته أم الهيثم: ذريني فإن البخل يا أم هيثم / لصالح أخلاق الرجال سروق وإني كريم ذو عيال تهمني / نوائب يغشى رزؤها وحقوق ويوصي ابنه (ربعي) بالجود والكرم فيقول: وإنك لن تنال المجد حتى / تجود بما يضنّ به الضمير بنفسك أو بمالك في أمور / يهاب ركوبها الورع الدثور وفي قصيدة طويلة جميلة يصف ترحيبه بضيف طرقه ليلاً في يوم عاصف شديد الرياح يقول: فقلتُ له: أهلاً وسهلاً ومرحبًا / فهذا صبوح راهن وصديق وضاحكته من قبل عرفاني اسمه / ليأنس بي إن الكريم رفيق وهو الذي جعل الكرم يذب عن صاحبه، وينفي عنه الذم، وذلك من خلال بيته الشهير: وكل كريم يتقي الذم بالقِرى / وللخير بين الصالحين طريق وله: وجاري لا تُهينَنه وضيفي / إذا أمسى وراء البيت كور أَصِبْهُ بالكرامة واحتفظه / عليك فإن منطقه يسير وله أيضًا: ونكرم جارنا ما دام فينا / ونُتبِعه الكرامةَ حيث مالا ويقول مفتخرًا بقومه: إنا بنو مِنقرٍ قومٌ ذوو حسبٍ / فينا سُراة بني سعدٍ وناديها والبذلُ من معدميها إنْ أَلمَّ بها / حقٌّ ولا يشتكيها من يناديها وليلةٍ يصطلي بالفرث جازرُها / يختص بالنَقَرى المثرين داعيها لا ينبح الكلبُ فيها غير واحدةٍ / من العشاء ولا تسري أفاعيها رفعتُ ناري على علياءَ مُشرِفةٍ / يُدعى بها للقِرى والحق ساريها أبيات تفجرت من رحم معاناة الشاعر، واعتداده، ومقاومته الصعاب، حتى أصبح يسنُّ قانونًا لأبجديات الجود الأصيل، ويؤكد أن الكرم يكون أدعى للبقاء والخلود كلما كان مخلوطًا بالمشاعر، ويصدر من رؤية فلسفية عميقة. * كاتب وناقد