من الخصال الحميدة التي تناولها الأدباء عبر العصور، وأفاضوا في الحديث عن محاسنها وفضائلها، ومَنْ يتَّصف بها يتفيَّأ ظلالها، ويعيش في كنف عليائها، تلك هي خصلة «الكرم» التي تفصح عن قدر صاحبها، ومنزلته بين أقرانه وأفراد مجتمعه. وقد أفاض القدماء في حديثهم عن الكرماء، وذكر أوصافهم الشخصيَّة ومزاياهم، وسماحة أخلاقهم، وأصالة معدنهم، وكريم محتدهم، وبشاشة وجوههم، ونقاء نفوسهم، بعيداً عن كثرة الطعام أو قلته، فصفات الكريم أسمى وأعلى من ذلك، وصدق الشَّاعر القديم حين قال: أُضَاحِكُ ضَْيفي قَبْلَ إنزالِ رَحْلهِ ويَخْصُبُ عندي والمَحِلُّ جَدِيبُ ومَا الخَصْبُ للأَضْيَافِ أن يَكْثُر القِرَى ولكنَّما وَجْهُ الكريمِ خَصِيبُ قال محمد بن المهاجر:(ثلاث خصال لا تجتمع إلَّا في كريم: حُسْنُ المَحْضَر، واحتمال الزَّلَّة، وقِلَّة الملالة). وقال الشَّعْبيُّ - رحمه الله - :(إنَّ كرام النَّاس أسرعهم مودَّةً وأبطؤُهُم عداوةً ، مثل الكوبِ من الفضَّة يبطئ الانكسار ويسرع الانجبار ، و إنَّ لئام النَّاس أبطؤُهُم مودَّةً، وأسرعهم عداوة، مثل الكوب الفخَّار يسرع الانكسار، ويبطئ الانجبار). أمَّا أبو حاتم بن حبَّان فيُذكِّر ببعض الصِّفات التي يرى أنَّها تتنافى مع الكرم، وتسلب من صاحبها تلك الصِّفة وتبعده عنها، إذ يقول:(الكريم لا يكون حقوداً ولا حسوداً، ولا شامتاً ولا باغياً، ولا لاهياً ولا فاجراً، ولا كاذباً ولا ملولاً، ولا يقطع إلْفَه، ولا يؤذي إخوانه، ولا يُضيِّع الحِفاظَ، ولا يجفو في الوداد، يُعطي من لا يرجو، ويؤمِّن من لا يخاف، ويعفو عن قُدرة، ويصلُ عن قطيعة). ما أجمل هذه الصّفات وما أبدعها في شخصية اكتنزت أعلى درجات كرم النفس، وأرقى قيم النُّبل والوفاء ، مع رقَّة طبع، وصفا قلب، ونقاء سريرة، وهي ملامح جديرةً بالتأمُّل والنَّظر، حيث وقف بعض الشُّعراء عند هذا المعنى، وجسَّده فيمن يحمل هذه الخصلة النَّبيلة، ومنهم ابن زنجي البغدادي، الذي قال: رَأَيْتُ الحَقَّ يَعْرِفُه الكريمُ لِصَاحِبهِ، ويُنْكُره اللَّئيمُ إذَا كَانَ الفَتَى حَسَناً كريماً فَكُلُّ فِعَالِهِ حَسَنٌ كَريمُ أمَّا الأمير الشَّاعر أُسامة بن منقذ الكناني فقد اكتسب كل صفات الشَّهامة والنبل والكرم، يقول: سَلَوْتُ عَنْ كُلِّ حَالٍ كُنْتُ ذَا شَغَفٍ بِها ، ولَمْ أَسْلُ في حَالٍ عن الكَرَمِ مَا غَالَ دَهْرِيَ وَفْرِي في تقلُّبِهِ إلَّا جَعَلْتُ النَّدى سِتْراً على العَدَمِ ولذا فهو يقدِّم كرمه وعطاءه لمن يستحق، ولا يخشَ أن يفنى ماله فيما يقدِّم لأنَّه يثق بأنَّ ما قدَّمه اليوم سيأتي به الغد، يقول: يَقُولُونَ لي: أَفْنَيْتَ كُلَّ ذَخيرةٍ وأَنْفَقْتَ مَالاً لا تَجُود بِه النَّفسُ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَرَّقْتُ مَا جَمَعَتْ يدي وأَرْجُو غَداً يأتيَ بَما أَذْهَبَ الأمسُ وهو ما يُفصح عن عظمة تلك الخصلة النَّبيلة وسمات أربابها من أصحاب المكارم والسَّجايا الحسنة، التي أشار إليها الأدباء في تراثنا الأدبي.