إن العلاقة بينهما تكاملية، ويمكن للإنسان أن يستخدمهما في وقت واحد، أو يعتمد على أحدهما دون الآخر، وهذا يتوقف على الظروف المحيطة بصناعة القرار، وعلى مجال اتخاذ القرار. لا أجد من المنطق تفضيل أسلوب على آخر.. في أدبيات القيادة يركز المختصون أو المنظرون على أهمية اتخاذ القرارات وفقاً لحقائق وبيانات توفر لصاحب القرار مجموعة من البدائل ثم يختار القرار المناسب للأهداف اعتماداً على تحليل تلك الحقائق والبيانات. القيادة يختصرها البعض بأنها اتخاذ القرار. هذا القرار حسب الأدبيات يحتاج إلى دراسة وخطوات تشمل تحديد المشكلة وتحديد البدائل ثم اختيار البديل المناسب للظروف المحيطة ومنها إمكانية التطبيق. هذه الخطوات المنطقية المعروفة هي في نظر البعض خطوات ومهارات مطلوبة لكنها غير كافية. من هؤلاء الأستاذة لين. أ. روبنسون مؤلفة كتاب (توظيف الحدس في مجال الأعمال/ دار الخيال/ 2018) هذا الكتاب يشجع القياديين على توظيف الحدس والثقة بالموهبة الداخلية في اتخاذ القرارات. تعتقد المؤلفة أن عالم الأعمال يدار من قبل مفكري الدماغ الأيسر حيث يعتمد اتخاذ القرار على الحقائق والوقائع والبيانات والتحليلات. هذه المهارات في نظر المؤلفة مطلوبة لكنها غير كافية. وهي ترى أن الحاجة الآن تتزايد للقدرات الكامنة في دماغنا الأيمن مثل الإبداع والتعاطف والمرح والتفكير السريع وتحقيق الذات. تقول المؤلفة: لاحظت أن الحدس ذكر في كل كتاب عن الأعمال صدر خلال العقد الماضي.. وتستشهد بتجارب لمجموعة من رواد الأعمال أدركوا أهمية الحدس ومارسوه مثل هوارد شولتز الرئيس التنفيذي لسلسلة مقاهي ستار بوكس.. وستيف جوبز، والإعلامية أوبرا وينفري، ووارن بنيس مؤلف في مجال القيادة والتغيير، وريتشارد برانسون مؤسس مجموعة فيرجن، وغيرهم. توصلت إحدى الدراسات عن دور الحدس في اتخاذ القرارات إلى أن المديرين يعتمدون على الحدس في اتخاذ القرارات الاستراتيجية في حالة عدم التأكد، ونقص المعلومات والمعطيات اللازمة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية. وتشير دراسة أخرى إلى أن اتخاذ القرارات الصائبة هي من نصيب من يثق أكثر بموهبته الداخلية في مقابل خطوات التفكير التحليلي. وتوصل بحث في هذا المجال إلى أن استغراق وقت طويل قبل اتخاذ القرار قد لا يكون هو الأفضل لحل المشكلة. يقول الدكتور سام غاليو من جامعة تورنتو: (إن الحكمة الشعبية تقول إنه يجب تجنب الحدس لأن التفكير المتأني يعد أضمن طريق للاختيار الجيد. ولكننا لا نستطيع الهروب من مشاعرنا. ويجب على الناس أن يقرروا ليس فقط ما يختارونه، بل كيف يختارونه. المصدر: ديلي ميل) وهو بهذا الرأي يعطي أهمية للأسلوبين. هناك من يعتقد أن العصر الذي نعيش فيه وهو عصر المعلومات التي تتوفر بسرعة، وعصر التحليل والتفكير العلمي، والتقنية، هذا العصر لا ينبغي الاعتماد فيه على الحدس في اتخاذ القرارات المهمة. ورغم واقعية هذا الرأي إلا أن الحدس لا يمكن تجاهله فهو لا يأتي من فراغ وإنما هو حصيلة معارف وخبرات وتجارب ومعالجة دماغية للمعلومات لمقارنتها بتجارب سابقة، وبالتالي فهو يعكس شخصية الإنسان ويعبر عنها. التاريخ حافل بالقرارات السياسية والعسكرية والاجتماعية وفي مجال الأعمال استناداً على الحدس. قد يتبادر إلى الذهن أن على الإنسان أن يختار بين الأسلوبين أو النمطين، الأسلوب التحليلي أو أسلوب الحدس، وألا يجمع بينهما. هناك دراسات تثبت العكس، وترى أن العلاقة بين الأسلوبين علاقة تكاملية، ويمكن للإنسان أن يستخدمهما في وقت واحد، أو يعتمد على أحدهما دون الآخر، وهذا يتوقف على الظروف المحيطة بصناعة القرار، وعلى مجال اتخاذ القرار. لا أجد من المنطق تفضيل أسلوب على آخر. الموقف هو الذي يحدد اختيار الأسلوب. لا أتصور أن إطلاق المركبات الفضائية مثلاً يأتي بقرارات مبنية على الحدس. هذا عمل يتطلب التأني ودقة المعلومات وتفاصيل علمية لا يوفرها الحدس، صحيح أن قرارات الحدس تتسم بالسرعة وتنجح أحياناً في مواقف حسم الصفقات في مجال الأعمال، وقد تفشل في مواقف أخرى، الأمر نفسه ينطبق على قرارات التفكير التحليلي فهي معرضة للنجاح والفشل. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع استخدام الحدس في اتخاذ القرارات فإن الكتاب المشار إليه كتاب مهم ومفيد يستحق القراءة وتحويله إلى دورات تدريبية لتدريب الناس وليس القياديين فقط على استخدام الدماغ الأيمن لأنه يحقق التوازن في حياة الإنسان. مؤلفة الكتاب من أكثر المتحمسين لموضوع الحدس، بل إنها رئيسة مؤسسة للاستشارات الحدسية، وهي خبيرة في هذا المجال تستثمرها في تأليف الكتب والاستشارات. أختم بموقف طريف حدث في أميركا عام 1981. كانت ربة البيت دورا ويلسون في بيتها، أطلت من النافذة فلاحظت مجموعة من الرجال يحملون سجاداً غالي الثمن من بيت جيرانها ويضعونه في سيارة نقل. كانت تعلم أن جيرانها في إجازة، لذلك سألتهم، ماذا تفعلون، قالوا، نأخذ السجاد لغرض التنظيف. قررت (بحدسها) أن تستفيد من نفس الخدمة، فقالت لهم، أريد منكم أخذ سجاداتي أيضاً من فضلكم. وكانت هدية جميلة للصوص. كل إنسان بحاجة إلى الجانبين من دماغه وإلا تحوّل إلى آلة.