الشيخ العلامة «محمد بن عبدالعزيز المانع» أحد أبرز علماء عصره، ومسيرته -رحمه الله- حافلة بالعلم والمعرفة والتدريس ومتابعة البحث والحفظ، وبذل الجهود الحثيثة طلباً للعلم، ولم يقف طموحه في سبيل العلم على تخصص واحد أو علوم معينة، كما لم يقتصر في طلبه للعلم على علماء المملكة، بل سافر إلى بغداد، ثم دمشق، ثم القاهرة؛ ليأخذ التفاسير والفقه واللغة العربية والرياضيات على كبار أساتذتها وعلمائها، إضافة إلى تنقله داخل البلاد والنهل من كبار علماء المملكة، كما أنه ساهم وبجهود جبارة في مكافحة حملات التنصير بالبحرين التي نشطت إبان النفوذ البريطاني في الخليج، إلاّ أن أهالي البحرين وعلماءها قاوموا وبضراوة هذه الحملات التي كان للشيخ «محمد» دور كبير في إفشالها حتى أصبح أحد الفاعلين في النادي الإسلامي في البحرين. كان للشيخ «محمد» دور في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- فقد أولاه العديد من المناصب الحساسة والمؤثرة في توجهات الناس، وذلك دلالة على ثقته بالشيخ «محمد» الذي ترك العديد من المؤلفات والحواشي، ودرس عليه كبار علماء الدين الذين أصبح لهم شأن فيما بعد. ولد الشيخ «محمد بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن مانع الوهبي التميمي» في مدينة عنيزة عام 1300ه في بيت علم ودين، حيث كان والده وجده من علماء عنيزة وقضاتها، أدخله والده في مدرسة تحفيظ القرآن عند بلوغه السابعة، وتوفي والده وهو صغير فنشأ يتيماً واستمر في حفظ القرآن بعد ذلك حتى ختمه، ثم شرع في قراءة مبادئ العلوم الشرعية على علماء بلدته، ودرس على يد كثير من العلماء في عنيزة منهم الشيخ «عبدالله بن محمد بن دخيل»، والشيخ «صالح العثمان القاضي»، والشيخ «إبراهيم بن حمد الجاسر»، حيث درس عليهم العقيدة والفقه الحنبلي واللغة العربية، كما قرأ على عمه الشيخ «عبدالله». وفي المذنب أخذ عن الشيخ «عبدالله بن محمد بن دخيل» 1261-1324ه، وفي عنيزة على الشيخ «صالح العثمان القاضي» 1282-1351ه وهو من تلاميذ والده الشيخ «عبدالعزيز المانع»، والشيخ «إبراهيم بن حمد الجاسر» – 1338ه، والشيخ «عبد الله بن عائض» 1249-1322ه، وعلى يد هؤلاء العلماء الأفاضل بدأ الشيخ «محمد المانع» حياته العلمية، فقرأ التوحيد والفقه، والحديث والنحو والفرائض. كلّفه الملك عبدالعزيز بمناصب عدة.. منها تكليفه مدرساً بالحرم المكي ورئيساً ل«التمييز» و«الهيئات» ومديراً عاما للمعارف العلاّمة البحر يروي الشيخ "محمد المانع" -رحمه الله- عن بداياته في طلب العلم، قائلاً:"لما توفي والدي كنت صغيراً فقالت والدتي اذهب إلى تلميذ جدك وشيخ أبيك الشيخ محمد بن عبدالله بن سليم" في بريدة فاقرأ عليه، قال فذهبت إليه في بريدة فرحب بي وأكرمني واعتبرني كأحد أبنائه، ولازمته حتى توفي -رحمه الله-، وكنت في سن الشيخ عمر بن الشيخ محمد بن سليم فكنا نتنافس أينا يسبق الآخر في أخذ حذاء الشيخ محمد بن سليم فيقدمها له عند خروجه من المسجد". وكان الشيخ "المانع" كثير التحدث عن شيخه الشيخ "محمد بن عبدالله بن سليم" ومجالسه وسعة علمه وورعه، وكان يصفه بالبحر، وقد توفي الشيخ "محمد بن عبدالله بن سليم" -رحمه الله -عام 1323ه في مدينة بريدة. تنقلاته طلباً للعلم يروى أن العلامة الشيخ "محمد بن عبدالعزيز المانع" قد حفظ القرآن الكريم في أحد كتاتيب عنيزة، ثم التحق بالشيخ "ابن سليم" -رحمه الله- ثم قرأ مختصرات العلوم الشرعية والعربية على بعض علماء بلده، واطلع على الكتب المتداولة وسافر إلى بغداد في سن البلوغ وتلقى العلم على الشيخ "محمود الألوسي" وعدد من علماء العراق، حيث تزخر العاصمة العراقية بكوكبة من العلماء من كافة أقطار العالم الإسلامي الذين قرأ عليهم الشيخ "محمد المانع" في الفروع والفقه والحديث والعربية والحساب والمنطق والنحو والصرف؛ إذ لم يقف على علم محدد، بل طلب العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية وتبصر كثيراً بالعلوم الحديثة والمعاصرة، ثم سافر إلى مصر ودرس في الأزهر، ولازم الشيخ "محمد عبده"، وقرأ على علماء الأزهر في فقه الحنابلة والنحو والحديث والمصطلح والعربية والتفسير، وهناك أيضاً التقى بكوكبة أخرى من العلماء، إلى أن سافر للعاصمة السورية دمشق، وأخذ عن الشيخ "جمال الدين القاسمي"، والشيخ "بدر الدين الحسيني"، والعلامة "عبدالرزاق البيطار" في الفقه والحديث والعربية، ثم عاد إلى بلده عام 1329ه، ثم ما لبث أن سافر إلى الزبير لتلقي بعض العلوم والمسائل التي رأى ضرورة البحث فيها وذلك عام 1330ه، وحينها لازم الشيخ "محمد بن عوجان" وتلقى عليه علم الفقه الذي درسه بغزارة عميقة، وفي عام 1342ه حج والتقى بعدد من العلماء على مختلف مشاربهم وأخذ عنهم وأجازوه متخصصا في العلوم العربية والفقه. نشأ يتيماً وتنقل بين مصر والعراقودمشق طلباً للعلم وحارب «الحملة التنصيرية» في البحرين بدعم من «مقبل الذكير» طلبه «عبدالله بن ثاني» ليتولى القضاء والخطابة والتدريس في قطر.. ودفن هناك بعد رحلة علاج في بيروت سفره لبغداد ولما كان الشيخ "محمد المانع" -رحمه الله- تواقاً للاستزادة في طلب العلم، حريصاً على المعرفة والاستنارة بآراء العلماء الأفذاذ من كافة البلاد، وطموحاً إلى طلب العلم الشرعي وعلوم اللغة والعلوم الحديثة، فقد سافر لعدة أماكن، فبعد خروجه من مدينة عنيزة إلى بريدة التي درس على علمائها كما ذكرنا آنفاً، شدّ الرحال إلى العراق، فوصل إلى البصرة أول الأمر ومكث فيها فترة طالباً للعلم على علمائها وفقهائها، ثم قصد بغداد فقرأ النحو والفقه والفرائض والحساب على يد شيوخ وأساتذة ذلك العصر، ثم قرأ على السيد "محمود شكري الألوسي" وهو مؤرخ وعالم بالأدب والدين وداعية إلى الإصلاح، كما قرأ على "علي بن السيد نعمان أفندي الألوسي"، وهو خريج مدرسة القضاء بالآستانة، ووالده صاحب كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين"، وكذلك قرأ على الشيخ "عبدالوهاب بن عبدالقادر بن عبدالغني"، والشيخ "عبدالرزاق الأعظمي"، وغيرهم من أهل العلم والمعرفة. إلى القاهرةودمشق بعد سفره إلى بغداد سافر الشيخ "محمد المانع" إلى القاهرة متوجهاً إلى الأزهر الشريف، ومكث في الأزهر ثلاث سنوات، حيث قرأ "الروض المربع شرح زاد المستقنع" وبعضاً من "شرح دليل الطالب"، كما قرأ النحو والعلوم السائدة في الأزهر على "محمد الذهبي" شيخ الحنابلة بمصر، وبعد مضي ثلاث سنوات توجه إلى دمشق التي سمع فيها على أشهر علماء عصره "جمال الدين القاسمي"، كما سمع عليه صحيح البخاري، وحضر عدداً من الدروس والمحاضرات ومجالس العلم التي كان ينظمها العلامة "عبدالرزاق البيطار"، ثم عاد بعدها إلى مدينته عنيزة سنة 1329ه. مهمته في قطر عمل الشيخ "محمد المانع" -رحمه الله- في مجال مكافحة التنصير في البحرين بدعوة من التاجر النجدي المعروف "مقبل الذكير" عام 1330ه، والذي فتح مدرسة النادي الإسلامي لمحاربة التنصير وعيّن الشيخ "محمد المانع" رئيسا لها، كما دعاه حاكم قطر الشيخ "عبدالله بن ثاني" وولاه القضاء والخطابة والتدريس عام 1334ه، واستمر في هذه الأعمال مدة 23 عاماً. الشيخ العلامة محمد المانع الشيخ المانع في مهمة القضاء والتدريس في قطر وكانت حملات التنصير قد وصلت إلى البحرين عام 1893م وتأسست أول مدرسة للتعليم بالأسلوب الغربي الحديث في البحرين على يد البعثة الأمريكية التي بدأت أعمالها سنة 1892، وفي عام 1884 افتتحت الإرسالية الأمريكية مكتبة عامة لها بالمنامة وبدأت عملها في تقديم بعض الصحف والكتب لروادها، ثم وصلت طلائع هذه الحملات الغربية إلى البحرين في نهاية القرن التاسع عشر، عبر الإرسالية الأمريكية التي تشكلت من مستشفى ماسون التذكارية، و"دكان لبيع الإنجيل" حسب ما ورد في التقارير الإنجليزية، وهنا ورغم المعارضة الشعبية لهذه الأنشطة وعزوف الأهالي عن تدريس أبنائهم بهذه المدارس استطاعت بعض النخب في البحرين أن تبدأ بحملات مقاومة لهذه الأنشطة التغريبية، وذلك عن طريق إنشاء مكتبة خاصة وأخرى عامة تعرف بمكتبة "إقبال أوال" لمقاومة هذه الحملات، وحينها كان مجلس الشيخ "إبراهيم بن محمد آل خليفة" يعد من أهم المنتديات الثقافية في البحرين آنذاك، كما كان "مقبل بن عبدالرحمن الذكير" واحداً من أهم مثقفي البحرين المشاركين والفعالين في المجلس، وقد عهد إليه الشيخ "إبراهيم بن محمد آل خليفة" مهمة جلب الصحف العربية "المقتطف" و"المؤيد" و"المنار" وحينها رأى كل من "مقبل الذكير" و"يوسف كانو" ضرورة استضافة أحد العلماء الكبار لمقاومة هذه الحملات التغريبية في البلاد؛ فتوصلا إلى أن أفضل من يمكنه استلام إدارة النادي هو العالم "محمد بن عبدالعزيز المانع"، وأنه لابد من العمل على إحضاره من مقر إقامته بالبصرة وبعد أسابيع من المراسلات حضر الشيخ المانع من البصرة حاملاً معه خبرة أساتذته في مقاومة التبشير الذين تتلمذ على أيديهم في مصر والعراق أمثال الشيخ "محمد عبده"، وتسلم الشيخ منصبه كمدير للنادي الأدبي الإسلامي بمجرد وصوله، وعرض "مقبل الذكير" على الشيخ "محمد المانع" أن يجعل له مدرسة للتعليم الإسلامي تكون ملحقة بالنادي الإسلامي، وفتحت المدرسة في أواخر سنة 1330ه. كان للشيخ محمد المانع دور في نشر العلم في البحرين، كما تتلمذ على يديه عدد من شباب الإمارات، كما كان له دور فاعل في نشر العلوم الإسلامية في المنامة، وظل الشيخ هناك يدرس شباب النادي الإسلامي جل العلوم الإسلامية من قرآن وفقه ولغة ورياضية كالعلوم الفلكية والفرائضية، وأصبح النادي ملتقى لرواد العلم والمثقفين في المنامة والبلدان المجاورة لها، كما أصبح مكاناً يتدارس فيه الأهالي أساليب التبشير وسبل مقاومته، ولم يكن النادي الإسلامي مجرد مكان للثقافة والنقاشات الأدبية فحسب، بل كان مقراً للتواصل الفكري والقومي والإسلامي مع الشعوب الإسلامية، مثل المراسلات بين المفكرين والمثقفين والعلماء في البحرين والشارقة والقاهرة. مناصب متعددة ما أن عرف الملك عبدالعزيز بنشاط الشيخ "محمد المانع" ومكانته العلمية إلاّ وعيّنه مدرساً بالحرم المكي، إضافة إلى رئاسة هيئة التمييز عام 1358ه، ورئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورئاسة هيئة الوعظ والإرشاد، كما عيّنه المؤسس مديراً عاما للمعارف عام 1364ه، وأسندت إليه إدارة دار التوحيد عام 1366ه، ثم عين وكيلاً عاما لوزارة المعارف، وفي عام 1377ه طلبه حاكم قطر الشيخ "علي بن ثاني" ليصبح مشرفاً على سير التعليم وإعداد مناهجه وصار مستشاراً لأمير قطر وإماماً وخطيبا في جامع الدوحة ولازم الحاكم إلى أن توفي. مؤلفاته وحواشيه للشيخ "محمد" -رحمه الله- العديد من المؤلفات والتحقيقات والتعليقات والحواشي على كتب العقيدة والفقه والتي مازال بعضها مخطوطاً ومحفوظاً بيد طلابه وأحفاده، ومن أهم الكتب: إقامة الدليل والبرهان بتحريم الإجارة على قراءة القرآن، تحقيق النظر في أخبار المهدي المنتظر، إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب، سبيل الهدى شرح شواهد قطر الندى، الكواكب الدرية شرح الدرة المضية في عقيدة أهل الفرقة المرضية، جامع المناسك الثلاثة الحنبلية، مختصر عنوان المجد في تاريخ نجد.. (وغيرها) كما حقق وعلّق -رحمه الله- على كثير من الكتب، حيث اهتم بالتعليق على رسائل الإمام "محمد بن عبدالوهاب" -رحمه الله-، وغيرها من كتب العقيدة السلفية والفقه الحنبلي ومنها: حاشية على العقيدة الطحاوية، حاشية على رسالة المذهب الأحمد في مهذب الإمام أحمد، حاشية على دليل الطالب في الفقه الحنبلي، حاشية على عمدة الفقه لإبن قدامة المقدسي. الشيخ محمد المانع قضى حياته عالماً زاهداً محباً للخير تلاميذه درّس الشيخ خلال تنقله في دول المنطقة عددا كبيرا من الطلاب الذين لازموه سواء في بلده عنيزة أو في البحرين أو بعد ذلك في قطر، ومن أبرز تلامذته: الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي -علاّمة القصيم وصاحب التفسير المعروف-، الشيخ عثمان بن صالح القاضي، الشيخ محمد بن عبدالله بن مانع -ابن عمّه-، الشيخ عبدالله بن عمر بن دهيش -رئيس المحكمة الكبرى بمكة-، الشيخ "عبدالله بن زيد المحمود -رئيس محاكم قطر-، الشيخ "عبدالله بن إبراهيم الأنصاري" -مدير الشؤون الدينية في قطر-، الشيخ "عبدالعزيز بن حسن بن عبدالله آل الشيخ" الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف في المملكة، وغيرهم. وفاته أُصيب الشيخ في أواخر حياته بمرض البروستاتا، فسافر إلى بيروت لإجراء عملية جراحية في مستشفى دار الصحة، لكنه سرعان ما توفي -رحمه الله- هناك عقب العملية بالمستشفي يوم الخميس 14 رجب 1385ه، الموافق 7 نوفمبر 1965م، وقد صلى عليه في بيروت جمع من أهل العلم والفضل والحكم والسفراء من رجالات لبنان والعالم الإسلامي، ثم نقل جثمانه إلى الدوحة بالطائرة، حيث تمت الصلاة عليه بجامع الشيوخ نهار السبت السادس عشر من رجب، ودفن في المقبرة الشرقيةبالدوحة. وقد رثاه تلميذه الشيخ "صالح العبدالله البسام" بقصيدة منها: أيا قلب دع تذكار سعدي فما يجدي وأيام أنس سالفات بذي الرند فليس بذي الدنيا مقام ترومه ولكنها كالحلم تمضي على العبد ومما شجاني أن قضى حتف أنفه محمد المحمود في العلم والزهد عنيت به الحبر الجليل بن مانع ومن هو في دنياه عاش على الحمد رحم الله الشيخ "محمد بن عبدالعزيز المانع" الذي رغم نشأته يتيماً، إلاّ أنه ضرب أكباد الإبل وجاب البلاد طلباً وحباً للعلم، الذي أراد به وجه الله سبحانه، فرفع الله به منزلته في الدنيا والآخرة -بإذن الله-. الشيخ المانع في زيارة إلى مصر في أواخر الخمسينيات وبجانبه أحد مشايخ اليمن الشيخ المانع في حفل مدرسة في شقراء أثناء عمله مديراً للمعارف