لقد ارتقى هيروسترات كل الطبقات واشترى كل الذمم وهو يعلم أنه يسعى إلى حتفه لكنه لا يأبه بكل ذلك أمام فكرة الخلود، لكن هذا الحلم الخادع لا يتحقق كما يعتقد أصحاب هذا الفكر المقيت، وإنما نجدهم يتآكلون حتى الموت كما حدث لهيروسترات.. لقد فُطر الإنسان على الشقاء والسعي في البحث عن الخلود، منذ أن أقدم سيدنا آدم - عليه السلام -على أكل الشجرة المحرمة حين أوعز له الشيطان أنها شجرة الخلود! فتوارثنا تلك الفطرة، ولكل منا سبيله في البحث الدائم عنه. فالبعض يرى أنه في التناسل، والبعض الآخر يراه في المال والثروة، وآخرون يرونه في العلم والمعرفة، وغير ذلك من طرق شتى لا تحصى ولا تعد، لكنها في يومنا هذا تتجلى في فكر الإرهابيين والانتحاريين بإيهامهم بالخلود إما في الجنة أو في التاريخ. إن هؤلاء ضعفاء النفوس والممعنين في غياهب الجهل لا يعلمون أن هذا البحث يعمل على تآكل الذات حتى تنتهي، والسعي للحتف في دراما بشرية مقيتة عبر التاريخ إذا ما تأملناها! كنا نشاهد أصحاب المولوتوف في الميادين العربية والدواعش في كل حدب وصوب ثم أخيراً أصحاب السترات الصفراء جميعهم يحرقون بلادهم وآثارهم، ونتعجب مشدوهين: ما الدافع وراء هذه الأفعال؟ ولماذا دائماً يكون هؤلاء من قاع المجتمعات؟! وكأنهم جميعهم «هيروسترات»! ذلك الشخص الذي أحرق معبد آرتميدا في القرن الرابع ق. م، والذي شيده البناؤون ليكون أسطورة من عجائب الدنيا السبع، فأصدرت المحاكم الإغريقية حكماً بإعدامه وتحريم ذكر اسمه بقانون «انسوا هيروسترات»؛ لأنها تعلم الهدف من القيام بهذا العمل، فالجزاء من جنس العمل! هيروسترات بائع سوقي لكنه مثقف، يسعى لخلود الذات، جراء ما يلاقيه من تهميش وتجاهل فهو دائماً ما يكرر: «أنا إنسان». «انسوا هيروسترات» كتبه الكاتب الروسي غيورغي غورين بعد الحرب العالمية الثانية وما سببته من تدمير للنفس البشرية آنذاك، فهذا النص يمتاز بدقة تشريح الدواخل النفسية للبطل ودوافعه وأحلامه في منطق فلسفي نراه اليوم وكأنه يكتب لنا ما يحدث في العالم الآن. فيطالعنا النص منذ البداية بحجرة مظلمة في السجن وهو العاكس لدواخل نفس هيروسترات، ولعل ذلك هو الدافع الأول للفعل والذي يدفعه منذ الوهلة الأولى للصعود ولتدمير جميع الطبقات صعوداً إلى سلطة المركز ابتداء بالقاعدة الشعبية التي يستميلها ويتخذها مطية وخاصة الشباب منها، مروراً ب»حقل الولاية» وهي السلطة المنفذة حتى يُسقط سلطة المركز «الطبقة الحاكمة»، وذلك باستخدام العقيدة المتجسدة في حرق المعبد. فهو يعلم أن اتخاذ العقيدة وسيلة من وسائل الضغط على الوجدان الجمعي والذي يمثل «القاعدة العامة» لكي يخلَّد في التاريخ، فهو يخاف الفناء فيقول مخاطباً السجان: «لقد مررت بثلاث مراحل من الخوف الأولى عندما فكرت بما فعلته الآن ولكني تغلبت عليه بأحلام المجد المقبل. والمرحلة الثانية هناك في المعبد عندما أرقت القطران على جدران المعبد وألقيت كرات القماش هنا وهناك؛ وأكثرها الثالثة عندما أحرقت المعبد وتساقطت العوارض وتفتت تاجه المرمري وسقط؛ وتراكض الناس من كل الجهات لم يجتمع مثل هذا الحشد في أي عيد، أطفال، عبيد، أجانب، فرس، فرسان، عربات، أغنياء وفقراء المدينة، كلهم ركضوا إلى شعلتي. أما أنا فتسلقت إلى مكان مرتفع وصرخت: أيها الناس! أنا الذي أحرق المعبد واسمي هيروسترات، أما الآن فالخوف الرابع من الموت لكنه أخف من كل ما سبق لأنني لن أموت»! فهو يعلم أن اسمه سيخلد فيتغلب على فكرة الفناء من وجهة نظره! هذا المشهد يذكرنا بكل ما أحدثته الفئات الضالة بمجتمعاتها من حرق وسلب ونهب وقتل، وكأن غيورغي يكتب ليومنا هذا، ذلك لأن فكرة الخلود هي سمة إنسانية فطرية ولا سيما في الطبقات الدنيا من المجتمعات وأشدهم خطورة هي طبقة المثقفين منهم، وهي ما تسمى ب»القوة الصاعدة»، فدائماً ما تصعد وتخترق كل الطبقات ابتداء من القاعدة الشعبية ثم سلطة الولاية حتى تصل إلى سلطة المركز لإسقاطها، فهي ترى في نفسها البديل الأمثل وخاصة إذا ما تم تهميشها! وهذا ما نراه في كل أرجاء وطننا العربي حتى اتسعت الدائرة إلى أوروبا نتاج اتساع هذا الفكر الفلسفي وخاصة فيما يمر به العالم من تطور علمي وتكنولوجي ساعد على ترويجه. إن هذه الشخصية - هيروسترات - استخدمت سلطتين مهمتين للوصول إلى هدفها وهما «العقيدة والمال» فاستخدمت سلطة الدين لتدمير سلطة المركز، ثم استخدمت سلطة المال ببيع مذكراتها للمرابي «كريسيب» ثم اشترت «حقل الولاية» وهي ما تعادل السلطة التنفيذية، وحينها استطاعت أن تقدم الرشى ابتداء بالسجان وانتهاء بأهل المدينة الذين اتكأت عليهم وجعلتهم مطية لها ومساعدين وخاصة الشباب منهم. ورجال الدين المتمثل في إريتا كاهنة معبد آرتميدا وكلمنتينا زوجة الأمير تيسافيرن، وعقد صفقة معه ليخفي الفضيحة. لقد ارتقى هيروسترات كل الطبقات واشترى كل الذمم وهو يعلم أنه يسعى إلى حتفه لكنه لا يأبه بكل ذلك أمام فكرة الخلود، لكن هذا الحلم الخادع لا يتحقق كما يعتقد أصحاب هذا الفكر المقيت، وإنما نجدهم يتآكلون حتى الموت كما حدث لهيروسترات!