العيد لحظة إنسانية نقية، يعيدنا فيها الدين إلى أصل الفطرة، بعد أن امتلأت النفوس بالتزكية وتطهّرت بالمجاهدة، وهو ليس مجرد مناسبة احتفالية، ولا وقتًا للفراغ بعد الامتلاء، بل تتويجًا لمسار روحيٍّ عميق، خاضته النفس في شهر رمضان فارتقت، حتى إذا ما جاء، أذن لها الشرع الحنيف أن تُظهر البهجة، لا عبثًا، بل فرحًا؛ قال تعالى: {..وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.. العيد ليس ختامًا عابرًا، بل لحظة فرح مشروعة، تتويجًا للهداية، وشكرًا على اللقاء القادم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لِلصَّائمِ فَرحتانِ: فَرحةٌ عِندَ فِطرِهِ، وفَرحةٌ يَومَ القيامةِ»، وفي رواية «وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ»، والعيد أحد هاتين الفرحتين، وهو إعلان أن الفرح بالطاعة من تمامها، لا ضدٌّ لها.. إنَّ من رحمة الشريعة أن جعلت الفرح عبادة، وأن شرعت له مظاهر وسننًا تحفظ روحه من أن يضيع في الاعتياد، أو أن يتحول إلى طقس اجتماعي فاقد للمضمون؛ وفي العيد نعود إلى البساطة، إلى السلام، إلى المجاملة التي لا تُكلّف، وإلى اللقاء الذي لا يشوبه تحفّظ، ونلبس الجديد، ونفتح الأبواب، ونقول للناس: نحن بخير، وأنتم كذلك كونوا بخير، والحياة تتسع لنا جميعًا.. في العيد تلتقي النفوس على براءة الأصل، لا على تعقيد التفاصيل، وتتجلى فيه مظاهر إنسانية شاملة؛ من التكبير، إلى الصلاة الجامعة، إلى التزاور والتواصل والعفو والمواساة، وكل ذلك ليس صدفة، بل تذكير بأن الإنسان، حين يخلو من ضغوط الجدل والانشغال بالمظاهر، يستطيع أن يتصرف على طبيعته، بعفويةٍ مملوءةٍ بالخير.. وسط كل هذا الجمال لا يزال بعض الناس يتعامل مع العيد بوصفه نهاية، لا بوصفه بداية، وكأنما كان الصيام تجربة مؤقتة سرعان ما طوينا صفحتها، لنعود بعدها إلى ما كنّا عليه، وكأننا لم نغتنم فيها شيئًا يُبنى عليه، مع أن جوهر العيد، في حقيقته، إعلان انطلاق لا عودة، ومقامُ شكرٍ لا مقامُ نسيان، والفرح فيه ليس انقطاعًا عن الروح، بل انتقالٌ بها إلى ميادين الحياة اليومية. في مقالي هنا، لا أقصد أن نستنسخ شهر رمضان بطقوسه، ولكن أن نُبقي على آثاره العظيمة؛ قليلٌ من الترتيب، قليلٌ من اللين، قليلٌ من الدعاء، قليلٌ من الإحسان، قليلٌ من الصدق مع الله والنفس والناس؛ فلا أحد يحتفل بتخرّجه ليعود في اليوم التالي إلى مقاعد الدراسة، ولا يُعقل أن يهدم الإنسان ما بناه بيده، وكأن شيئًا لم يكن!.. أختم بأن من الفقه أن نرى العيد امتدادًا لا انقطاعًا، وأن نترجم ما تمرّنا عليه في رمضان إلى سلوك دائم، ولو باليسير، وأن نستمتع بالعيد، ونراه راحة لنفوسنا، لا لأنها تخلّصت من العبادة، بل لأنها وجدت أثرها، وتذوقت حلاوتها، وأدركت أنها قادرة على أن تحيا على الفطرة، وأن تبدأ من جديد، ولكن ليس من الصفر، وأن نتصالح مع أنفسنا، ومع من حولنا، ونردّ العلاقات إلى نصابها الصحيح، ونُعيد ترتيب أولوياتنا لا بانفعال، بل ببصيرة، وأن نرجع إلى أصلنا الجميل، وأن نُشعر من حولنا أن الدنيا رغم كل شيء، كانت وما زالت وستظل بخير.