نراهن على أن الإسلاموية شمولية/ دكتاتورية في رؤيتها لطبيعة السلطة ابتداء، كما أن مكوناتها متنافرة مع مكونات الرؤية السياسية المعاصرة التي فرضت نفسها على عالم اليوم، وأصبحت هي هوية العالم، من حيث هي التجسد الفعلي لأفق الوعي الحديث.. لم تكن الإسلاموية المعاصرة إلا رؤية ماضوية تبحث لها عن موطئ قدم في سياقات المعاصرة. هي – كرؤية وكحركة - ماضوية بامتياز؛ من حيث هي نتاج توتر العلاقة بين الماضي/ الحلم، وبين الحاضر/ الواقع. المتأسلمون ليسوا إلا مُبشّرين بطُوبى الحلم الإمبراطوري؛ كما تحقق في ذلك الزمن الأسطوري البائد. تلاشى الزمن، وتآكلت معالم ذلك التاريخ السحيق؛ ولم تتلاشَ الأحلام المُجنّحة التي تتمدد على مساحة الحلم التاريخي الذي لا يني يواصل تمدده واصطدامه الانتحاري بهذا الواقع العنيد. المتأسلمون متضافرون على أن تحقيق هذا الحلم الإمبراطوري المجنون لا يكون إلا بسلطة تعاند الواقع بقدر ما يعاندها. من غير سلطة؛ يذوب الحلم، أو يتحول إلى كابوس فظيع؛ عندما يصبح مشهدا يتكرر في مسرحية الإحباط. مِن هنا كانت السلطة - ولا تزال - أحد مرتكزات الخطاب الإسلاموي، إن لم تكن هي الأهم على وجه الإطلاق. فالمتأسلمون يتحركون بروح سلطوية إن فُتح لهم المجال، وإن لم يُفتح؛ فالتقنّع بممارسات تتغيا السلطة أمر لا يخفى على من يقرأ الإسلام السياسي قراءة تأخذ في اعتبارها ضرورة مقاربته على مستويين: على مستوى الممارسة و على مستوى الخطاب. لقد صرّح مؤسسو الخطاب المتأسلم بأهمية السلطة، وبأنها أحد مرتكزات خطابهم، خاصة في الفترة الأولى من التأسيس، حيث لم يكن ثمة صراع مكشوف مع الحكومات على السلطة أو على بعض مكوناتها. الشيخ: حسن البنا، وهو المؤسس والمُنظّر لأول جماعة إسلاموية (= الإخوان المسلمون) في العالم العربي، يؤكد على أن "الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد... والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع". كما يقول أيضا: " إن قعود الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفّرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف ". وصورة هذا الحكم كما رسمه البنا يتمثل في الخلافة. فهو يرى أن " الإخوان المسلمين يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس منهجهم" (نقلا عن بحث ل معتز الخطيب الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي ص 168،و178). إذن، السعي للسلطة فريضة في التصور الإخ واني الذي هو التصور العام لكل حركات الإسلام السياسي. وهذا الإلزام - كما يراه الإخوان - لا ينبع من تصور ذاتي اجتهادي، وإنما ينبع من تصور شرعي يمتد إلى عمق التاريخ الفقهي/ الشرعي. والسلطة المراد تأسيسها ليست سلطة تحررية تتفاعل مع التشكلات الحديثة للدولة، وإنما هي سلطة تأخذ أشد صور السلطة شمولية كما جرى تفعيلها في التاريخ. هذا هو الإسلام، وهذه هي الدولة، كما يعرضه/ يعرضها البنا. فقوله: " ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد" يقصد بها أن طريقة إدارة الفضاء العام ستكون ذات طابع قسري/ إلزامي، مع وجود الإرشاد/ التوجيه. فمن لا يقتنع بالتوجيه/ الإرشاد؛ يجري إلزامه بالرؤية الإخوانية في ما يخص المسموح به والممنوع، أي الحلال والحرام. نحن هنا لا نناقش مسألة علاقة المتأسلمين بالسلطة، من حيث كونهم فصيلاً سياسيًا من حقه أن يُنافس على السلطة كبقية الفصائل/ الأحزاب. هذه قضية أخرى. نحن هنا نناقش طبيعة السلطة التي يتعشّقها المتأسلمون، من حيث علاقتها بمبدأ التسلط (كمبدأ يتسع ليكون شموليا) من جهة، ومن حيث علاقتها بالمعاصرة، أي مقدرتها على التلاؤم مع النظرية السياسية المعاصرة، من جهة أخرى. نحن هنا نراهن على أن الإسلاموية شمولية/ دكتاتورية في رؤيتها لطبيعة السلطة ابتداء، كما أن مكوناتها متنافرة مع مكونات الرؤية السياسية المعاصرة التي فرضت نفسها على عالم اليوم، وأصبحت هي هوية العالم، من حيث هي التجسد الفعلي لأفق الوعي الحديث. على هذا، ليس المهم أن نجيب على التساؤل التالي: هل المتأسلمون يسعون إلى السلطة كهدف جوهري في حراكهم المتأسلم أم لا. أيضا، ليس من المهم تحديد مدى ارتباطهم بنظرية الخلافة التي تنهض على تصور إمبراطوري حالم. المهم، والأخطر، هو تحديد نوعية السلطة التي يطمحون إليها، أي تصور كيفية إلزامهم الناس بما يرونه حقا؛ فيما لو امتلكوا القوة/ النفوذ. هنا لا ينفع التخمين. لا بد أن نرجع إلى أحد كبار منظري الحراك المسلم، إلى أحد الذين اعتمد عليهم الإخوان في صياغة نظرياتهم في الحكم، وهو أبو الأعلى المودودي الذي يقول في وصف (الدولة الإسلامية) التي يتصورها كحلم مستقبلي واعد: " دولة شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، وتطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة وبرنامجها الإصلاحي الخاص؛ فليس لأحد أن يقوم في وجهها ويستثني أمرا من أموره قائلا إن هذا أمر شخصي لكيلا تتعرض له الدولة...هي تشبه الحكومات الفاشية والشيوعية بعض الشبه" (الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي ص175). وهذا النص لا يحتاج لتعليق؛ إذ إن صاحبه يُصرّح بأن ما يطمح إليه شبيه بالحكومات الشيوعية والفاشية، حيث يتم فيها إلغاء مساحة الحريات الشخصية لصالح التمدد السلطوي الطاغي للدولة الشمولية. من هنا يتضح أن الإسلاموية ليست حراكا سلميا، فضلا عن أن يكون ديمقراطيا، فهي لا تتوسل السلطة كما يتوسلها غيرها. لو تمكن المتأسلمون من مفاصل الحكم في كثير من الأقطار العربية؛ لتمت صياغة الأنظمة السلطوية التي تغوص في أدق تفاصيل حياة الفرد على هذا النحو الشمولي الدكتاتوري الفاشي الذي صرّح به المودودي. هذه هي طبيعة الحكم الديني الذي يدعي أنه يتحدث بلسان الله، ويحكم بإرادته. ومن ثم يرى لنفسه حرية أن يجبر الناس على كل تفاصيل الرؤية التي يتبناها، بل يرى أن من الواجب عليه إجبار الناس على هذه الرؤية؛ لأنها - كما يتوهم - هي الرؤية الحق التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وأن - وحده - الأمين عليها من بين بقية البشر، وأن هذه الأمانة تقتضي منه النضال من أجلها، حتى لو تسبب ذلك في اندلاع الحروب وسقوط ملايين الضحايا، فهؤلاء الضحايا لا قيمة لهم في سياق تحقيق الأحلام التي تدعي الارتباط بعالم السماء. لم تتحرر المجتمعات إلا عندما قامت بتحييد هؤلاء الذين يزعمون أنهم يتحدثون بلسان الله. لقد خرج الناس إلى فضاءات الحرية؛ عندما أداروا واقعهم بالعقل، لا بأحلام أؤلئك المرضى بجنون العظمة الذين يعتقدون أن مزيدا من التضحية بالبشر كفيل بتحقيق غرائب الأحلام. هذه حقيقة كانت واضحة منذ عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر. لهذا كانت التيارات المتعقلنة تجاهد لتحقيق هذا الفصل بين عالم الضمير وعالم الواقع، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق. فكل المجتمعات الحرة مرت بهذا المأزق، وتجاوزته؛ على تفاوت في الجرأة وفق مقتضيات الظرف الخاص بكل مجتمع. لقد كان الفصل بين عالم الضمير(= المجال الديني) وعالم الواقع (= المجال السياسي) هو أحد المهام الجسام التي نهض بها المؤسسون للدول الحديثة في الغرب. يقول سيمون بوليفار، وهو أحد عمالقة السياسة لعصر الاستقلال المكسيكي في خطابه إلى المجلس التأسيسي عام 1826 م " الدين هو قانون الضمير. وأي قانون يفرض فرضا عليه يُلغيه، وذلك لأننا حين نجبر على الواجب إجبارا، نزيل القيمة المميزة من الإيمان، وهي أساس الدين. إن وصايا الدين وعقائده المقدسة مفيدة، وهي البراهين المضيئة للتسامي، ويجب علينا جميعا أن نؤمن بها، ولكن هذا الالتزام إلتزام أخلاقي لا سياسي". (انظر الأصول السياسية للحرية الدينية ص 175). الآن، بعد قرنين تقريبا من صدور هذا الكلام في الغرب، نجد أنفسنا لا نزال نلامس أطرافه بحذر. لا تزال الأصوليات المتطرفة تطرح نفسها على واقعنا كخيار سياسي، ولا زال كثيرون تجتذبهم هذه الشعارات التي يرفعها المتأسلمون، دون أن يتحققوا من حقيقة ما وراء الشعار. لا يزال الخطاب السياسي على مستوى الطرح الجماهيري فقيرا إلى درجة تجعله قابلا للاختراق من قِبَل أتفه الخطابات، بل وأشدها تماهيا مع خطاب العنف والإرهاب. يُجادل كثيرون في الاستحقاقات السياسية للحركات الإسلاموية؛ من مبدأ أن المتأسلمين اكتسحوا الانتخابات في دول الربيع العربي، وأن هذا دليل على ثقة يمنحها الشعب لهؤلاء الذين يستثمرون موروثه فيه، اي يعيدون إنتاج وعيه التاريخي، ولكن على أنه وعي جديد. هؤلاء يجهلون أو يتجاهلون أن المتأسلمين يستثمرون التاريخ، لا الواقع؛ في سياق طرح الرؤى السياسية التي تحمل شعارات إصلاح الواقع. كما أنهم يضعون أنفسهم بإزاء واقع مرفوض، وكأنه هو الانعكاس الفعلي للخطاب المضاد. وبهذا يتقدمون لا بنجاحات تحققت على أيدهم في الواقع، وإنما بفشل الآخرين. وهو الفشل الذريع الذي وصل في كثير من الأحيان إلى أن أصبح جحيما لا يُطاق. المتأسلمون لا يُنافسون واقعا طبيعيا، بل واقعا مأساويا جرى تجريفه منذ عشرات السنين. في تصوير دقيق لهذا الواقع الأليم، يقول الكاتب/ عادل سعيد بشتاوي في كتابه: (تاريخ الظلم العربي) ص166: "ونجح الانقلابيون في تدمير الطبقة الوسطى نجاحا باهرا ففنيت في سورية ومصر والعراق والجزائر وفي غالبية الدول العربية. وبفناءهذه الطبقة توقف نبع إنتاج السياسيين والاقتصاديين والأدباء، وتولى الضباط الكبار ممن ترعرع في الثكنات وعاش بين الدبابات والمدافع وعجلات الطائرات الحربية إدارة حياة المدنيين ففعلوا ذلك بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها وعاملوهم مثل عسكرهم وعاقبوهم بالطريقة العسكرية نفسها". ولا شك أن من يتقدم ببرنامجه السياسي كبديل لهذا الواقع؛ سيربح أصوات الناخبين، بصرف النظر عن مدى قدرته الفعلية على إحداث الأثر الإيجابي. سيربح؛ لأنه يقدم بديلا لواقع كل شيء أفضل منه، فكيف إذا كان يتقدم بشعارات تدعي أنها تضمن عالم الشهادة؛ كما تضمن عالم الغيب، وفي أوساط جماهير وصل بها اليأس والإحباط القاتل إلى درجة أن تبحث لنفسها عن ملاذ ولو في الأوهام ؟!. من هنا، كان لا بد أن يفشل المتأسلمون؛ لأنهم راهنوا على فشل غيرهم، على ظلم غيرهم، ولم يُراهنوا على مشروع حقيقي يستطيعون به اجتراح بضع خطوات في طريق الإصلاح. لقد كانوا صورة عن سابقيهم، بل وبدا أن الروح السلطوية من جهة، والتفكير الأممي الإمبراطوري من جهة أخرى، سيقودان المتأسلمين – ومن ورائهم شعوبهم – إلى دمار وضياع يتحول فيه الطغاة السابقون - في وعي الجماهير - إلى أمل منشود. إن الأحلام بقدر ما تمنح الإرادة بعضَ الطاقة؛ بقدر ما تخدع الإنسان عن حقيقة واقعه، وتنقله من عالم الواقع إلى عالم الأساطير. لهذا انتهت تجربة المتأسلمين بالفشل؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يريدون حقيقة، ولا يعرفون الطريقة التي يحققون بها ما يريدون فيما لو عرفوا ما يريدون. وهذا ما أوضحته في مقال سابق بعنوان: (الليبرالية الديمقراطية والمتأسلمون) نشر في الرياض بتاريخ 26/6/2014م، حيث قلت ما نصه: "كان لا بد أن ينتهي حكم الإخوان بمثل هذا السقوط المدوي. كان لا بد أن ينتهي، ليس لأننا نريد ذلك أو لا نريده، وإنما لأن مسيرة الحكم الإخواني، (والتي هي التجلي الفعلي لمسيرة الوعي العربي التراثي) كانت تسير في اتجاه هذا السقوط الحتمي. فثمة تناقضات جوهرية عميقة في الرؤية السياسية الإخوانية، وتحديدا في علاقتها مع الواقع، ومنه بطبيعة الحال الواقع السياسي المضطرب الذي كانت تحكم من خلاله، أو الذي زعمت أنها قادرة على أن تحكم من خلاله بعد أن مكثت خارج القانون مدة تناهز الستين عاما". بعد كل هذا نقول: على المتأسلمين أن يتواضعوا، ويراجعوا أنفسهم، ويعيدوا النظر في مجمل رؤيتهم السياسية، ومن ثم إجراء كثير من التعديلات عليها. وهذا، لا يمكن أن يحدث إلا عندما يُعيدون صياغة نظامهم المعرفي، ومن ثم يصوغون علاقتهم بالتراث الذي يهيمن على وعيهم، لا في المسألة السياسية فحسب، وإنما في كل مجالات المعرفة. وإذا لم يُقدم المتأسلمون على هذه الخطوة؛ فسيبقون عبئا على أنفسهم، وعبئا على مجتمعاتهم، وسيعيدون إنتاج الكوارث مرة بعد أخرى، دون أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام.