للسنة الثالثة على التوالي يتابع المهرجان الدولي الجامعي حضوره المتجدد في صرح الجامعة اللبنانية الأميركية التي تحتفل هذه السنة بمناسبة تأسيسها ال75. مهرجان آخر على خارطة المهرجانات ولكن صفتي الجامعي والدولي تطرحان عليه سلسلة من التحديات، كونه في بيروت، ومرتكزاً الى صرح جامعي أهلي خاص يجعل من يقوم بقراءة نقدية لما قدم خلاله يأخذ في الاعتبار ما يجري من أمور في نسيج الحضور المسرحي في بيروت. فالغياب أو التغيب والاستنكاف من بعض الذين يشكلون حضوراً لافتاً لا يدخل في رغبات منظمي التظاهرة. فمدير المهرجان المخرج موريس معلوف يؤكد عدم استبعاد أو إغفال الدعوة لأحد لكن بعض المدعوين كانت لهم ظروفهم. ويمكننا ان نزيد فنقول لكل حساباته التي لا تبرر تحت أي ظرف، وخصوصاً عندما نقيِّم الظاهرة المهرجان في كونها ظاهرة تدخل في مصلحة الجميع. والاعتبارات التي نسوقها تدخل في سياق تحية هذه المبادرة المهمة وإن كان لا بد من التشديد على وجوب اضمارها لمعايير ملزمة تصب في تعديل خيارات انتقاد الأعمال المشاركة وتوحيد نوعية المشاركين بما يتعلق بهوية المجموعات الجامعية. هل هم طلبة معاهد تمثيل أم أساتذة معاهد أم منخرطون في نشاطات الأندية داخل الحرم الجامعي أم هم من مختبرات بموازاة ما ينتج في الجامعات؟ كل هذا لا يعفي طلاب المعاهد المتخصصة اللبنانية من المشاركة حضوراً على الأقل. وكان ما يقدم هو لزوم ما لا يلزم. وكأن ما يعاينه الطلبة ويشارك في انتاجه يعفيهم من فرحة التواصل مع تجارب الآخرين سواء كانوا أبناء بلد واحد أو من ثقافة مختلفة أو ابناء لغة أو قومية أخرى أم منتمين الى بلدان أخرى يأتون جميعاً مع خبراتهم وأعمالهم التي تصب في تقليب الهم المسرحي على وجوه المدارس والأساليب في عالم يذهب في ما يذهب الى التحول باتجاه القرية المتاخمة للتوحد عبر ما أطلقته ثورة الاتصال. وهل بقي غير المسرح كمكان أو كطقس يعيد سؤال الانسان لمشارب ذاته وعلاقته بغيره وطرح مخاوفه ومثالب العيش وأحلام السكون الى التطهر من التوترات؟ وإن كان لهذا السؤال ان يستقيم فلا بد من اضافة شرعية "المدينة"، وضمناً المدنية، كمكان أوحد يستقيم فيه المهرجان في هدف صهر المتناقضات. كون "أثينا" مثلت نقيض "روما" وبالضرورة "الديموقراطية" نقيض "الامبراطورية". فهل تلعب "بيروت" وبالتالي جامعاتها المتعاطية المسرح دور أرض "الشريعة" التي تحاور الشرائع الحقوقية لمواطن يبحث عن مكان له تحت الشمس... العربية!؟ الدورة الثالثة للمهرجان الجامعي الدولي والتي أدارها موريس معلوف استضافت فرقاً من جامعات في لبنان معهد الفنون بفرعيه الأول والثاني، اللبنانية - الاميركية، ومن العراق، بلغاريا، اسبانيا، تونس، مصر، اليونان وليبيا. وقال مدير المهرجان ل"الحياة" "إن البرمجة تخضع لمدى تجاوب من نراسلهم ويقبلون دعوتنا. لكن الخيارات بالنسبة الينا تبقى محكومة بسقف الكلفة التي نستطيع تحملها. نحن نفضل استضافة اربع فرق من جنسيات مختلفة على الاكتفاء بفرقة واحدة عناصرها ثلاثون، وإن كان هذا الخيار يتمّ على حساب النوعية". بعد الحفلة الافتتاحية قدمت فرقة الجامعة المضيفة عرضاً بعنوان "كابوس الممثل" من تأليف كريستوف دورانغ واخراج شادي زين الدين. وما يطرحه هذا العرض يدخل الينا عبر لعبة ما هو معروف بالمسرح داخل المسرح. فانطلاقاً من ممثل بديل، إثر تعرض الأصيل لحادث سير يبعده عن المشاركة، يسكن العرض جو كابوسي. فالممثل الطارئ ينخرط في مقارعة ذاكرته وما يقدمه له نص الدور. تطير منه الكلمات والجمل، فيفتش عن الصحيح منها، أو يتجاوز المطلوب. صراع المفارقات يتداعى وصولاً الى نهاية درامية تختتم القضية بحائط واقع مفروض من "جلاد" ينهي ازدواجية التصرف. إذ ينفذ فيه حكم الاعدام مبعداً عنه تحية الجمهور. ولعل هذا العرض يمثل مدخلاً معقولاً لما تلاه من معرض لصور، تحتفي بالموت، أقامه المصور الفوتوغرافي الصحافي ريكاردو راميريز اريولا الذي أتحفنا بلقطات عن عيد تكريم الموت والأموات الذي يقام في المكسيك يوم الثاني من تشرين الثاني نوفمبر من كل عام. والمصور حائز أكثر من جائزة دولية ويتابع نشاط أكثر من فرقة مسرحية في كندا والهند وأميركا اللاتينية والمكسيك. وفي موازاة هذا المعرض - الظاهرة عقدت سلسلة من اللقاءات مع الفرق المشاركة، تحدث خلالها مديروها والأعضاء عن تجربة كل جامعة وعن التجارب في بلدانهم عموماً. وتطرقت الأحاديث الى أساليب حماية المحترفين في المسرح وطرق تنظيم المهرجانات ومدى توسعها ومن هي الجهات التي ترعى نشاطاتها. وتتفاوت نسب التجاوب من بلد لآخر ويبقى بحسب المقارنة الموضوعية الوضع شبه المثالي معقوداً على التطور الحاصل في التجربة التونسية. وهو ينعكس على نوعية الحضور وتألقه من خلال مستوى العروض المقدمة في دورات المهرجان الجامعي الدولي المتتالية. عروض وأسئلة وإذا كان الحديث يجري دائماً باتجاه تكريس ما هو مكرّس، فبالامكان تكرار التحيات النقدية لعروض حضرت من خلال السمعة التي حصلت عليها بعض الأسماء مستندة الى نجاح اساتذة وحضور معاهد. في هذا السياق تندرج عروض معهد الفنون - الجامعة اللبنانية بفرعيه: الأول والثاني وما قدمه طلبة المعهد العالي للمسرح في تونس. أما إذا حاولنا كسر القاعدة فيقابلنا عرض جامعة سان لويس من اسبانيا تحت عنوان "الحلم الأميركي" وهو عن مسرحية لادوارد البي وقدمته مجموعة من الطلبة في الجامعة تعمل في اطار النشاطات الموازية للدروس الأكاديمية. واللافت في هذا الأمر ان العمل حضِّر للمهرجان البيروتي. والعناصر المشاركة في التمثيل لم يسبق لهم ان خاضوا غمار تجارب مسرحية طويلة وعريضة. هذا ما أكده المخرج غريغ ستنفورد الأميركي الجنسية والآتي من واشنطن والمقيم في اسبانيا منذ ما يقرب الاثنتي عشرة سنة، وهو مسؤول عن تأسيس النشاط المسرحي في الجامعة الاسبانية الحديثة التكون نسبياً. وعرضه المذكور استند الى قدرات الممثلين تصويراً للأدوار بطواعية جسدية لافتة مدعومة بلكنة انكليزية منطوقة بطابع اميركي التفخيم. كوميديا معاصرة تشرِّح واقع الطبقة الوسطى الأميركية. انها رتابة المواقف والأحداث والردود الساكنة بين زوجين يتعايشان بالضرورة، وفي الأمسيات يتبادلان احاديث مملة. المرأة تحاذي الرجولة والرجل يكاد يكون "مخنثاً". تدخل الجدة التي تسكن معهما حاملة علب هداياها... هل هي محبوبة؟ هل تثير فيهما الذكريات؟ لا شيء يبدو أهم من الانتظار. هل الحدث ينجدل على حلم تبني ولد مرغوب بمساعدة السيدة مديرة مؤسسة "باي باي". أم أن الشاب الوسيم "الحلم الأميركي" الذي يطرح نفسه كمقدم لخدمات من أي نوع كان هو محرك هذا الجو الساكن؟ الشكل الذي يعتمد كوميديا المفارقة يطغى على لغة العرض. الممثلون يسكبون شخصياتهم في تفاصيل خارجية لحالات كاريكاتورية. بسيط هو هذا العرض، وان بدا حاملاً في طياته أسئلة، فهو ينقل خواء الواقع الاميركي وضحالة اعتماده على شكليات. هكذا قرأ العرض كتابة "البي" لظروفه. لعل هذه المسرحية توصلنا الى نقيضها مع ما قدمته مجموعة اساتذة من المعهد العالي للفنون المسرحية في بغداد عبر تقديمهم "انسوا هيروسترات" لغريغوري غورين من اخراج فاضل خليل. تحولت هذه المسرحية في سكبها على الخشبة الى مباراة في التجويد الكلاسيكي الخطابي النزعة والمجتزئ لفكرة النص الذي اعتمد على ازدواجية الحكاية. كيف أتت النتيجة، لم يعد ثمة وجود لتداخل مستويات بين ما يجري على ألسنة جمهور الناس من جهة وبين ما يجري خلال المحاكمة الرسمية لبائع السمك الذي قام بفعل جنوني في إقدامه على حرق معبد ارتميدا الذي استغرق بناؤه مئة سنة. بهذا الأسلوب الاجتزائي للنص لم يعد للناس دخل بما يجري. وبالتالي لن نستمع الى صدى تداعيات تخلخل السلطة امام أعين الجمهور المراقب. قد نقبل بقراءة لنص مسرحي يتصرف به مخرج بأسلوب يضنيه عندما يركز معانيه ولكن يصعب تقبل ان يحوِّر المخرج مغازيه ومنطلقاته ويقلبه رأساً على عقب بهدف حماية نسق مختلف من التمثيل المعتمد على جبروت الصوت المدوي والضحالة المستندة الى قراءة مختزلة للأسلوب الداخلي. ستانيسلافسكي مرّ من هنا وكأنه في حالاته البدائية. أجاد الممثلون في نقل هذه الصورة. قد تكون هذه القدرة المتقشفة والساكنة في فهمه تعكس حال المراوحة والاكتفاء الذاتي التي تعانيها المدرسة العراقية في التمثيل. هل حال الحصار تحكم عليها بعدم القدرة على مغادرة تألق السبعينات؟ هذا لا يعفينا من التساؤل لماذا قدم العرض أساتذة بدل أن يكون الطلبة هم مقدموه ام ان الدعوة الموجهة كانت ملتبسة؟! نصل الى عرض "حكايات قاهرية" فنتعجب للتقهقر الحاصل عند من يأتي من الجامعة الاميركية - القاهرة بالاستناد الى عمل سبق تقديمه في مهرجان السنة الماضية. فحكايات السنة الماضية كانت شكلاً مسرحياً أكثر نضجاً مما قدم. وما شاهدناه لا يعدو أو يرتفع عن كونه يؤسلب الحكاية عبر عرضها من خلال تداعيات تتواصل انطلاقاً من مقهى شعبي، مفترض، لا نلبث نلحظ وجوده، باعتبار ان الحضور المسرحي لا يكتفي بالسكن في زاوية مجلَّدة، حيث يستقبل المقهى رواده وكفى. لا حيوية تنطلق ولا مبرر للوجود. وهذا السكون غير المؤرق ينسحب على الحكايات المتسلسلة. مستوى التمثيل فيها متفاوت، وان يبدو ان المضمون والكتابة يطغيان على ما عداهما. فممثل "الكرسي المتحرك" عاجز ومحكوم بالوحدة والاكراه على التصرف بعكس الأماني والأحلام التي تسكنه. وممثل "الصندوق" الذي يقدم الحكاية الأكثر طرافة يطرح علاقات الإرث العائلي وتحكمه بمسار خيارات شاب سيبلغ العام الحادي والعشرين. فهو يخطط للخروج عما رسم له. لكنه يقع تحت سيطرة والده بعد ممانعة. فيتروض ويدخل صندوقه المعدّ له. "شفا"، "مدرسة الأمل"، و"نيفا" حكايات تقارب الطرافة في اعتمادها سهولة القول وبساطة التعاطي المريح في سهرة سمر منزلية. "تمضية وقت" عن نصوص لصموئيل بيكيت هو العرض الأكثر جرأة في تحويله مشاهد تحمل منتهى التجريد. أخرج العرض طوني ستيفنس مع مجموعة من طلبة جامعة لافيرن اليونانية. هنا تجد النصوص ما يوازيها من قوة في تحوله الى عرض يناسبها ويؤازرها حضور الممثلات المتمكن من النسق وحركته. السينوغرافيا متأنية صافية من دون زيادة وعلى شفير سكين الايقاع. قد يعجبك النوع أو يعنيك فتتواصل معه، أو لا تطيق الجلوس على كرسي لتشاهد. انما لا يمكنك ان تكون محايداً. يحمل العرض مقاصد العبث والعبء الوجودي. أربعة اقتراحات من "بيكيت" في لمعاته المنتمية الى تجاريبه المؤرخة في 65، 75، 82. تحاكي عدم التواصل. "ذهاب وإياب"، "وقع الاقدام"، "الفرق" و"الكارثة" التي قدمها كتحية سياسية لفاكلاف هافل الكاتب المسرحي عندما كان سجيناً خلال حملة لحقوق الانسان. كارثة المهرجان العرض الليبي المعنون "جنرال الجيش الميت" استحق صفة كارثة المهرجان وعلى أكثر من مستوى. وهو لا يصلح لأن يقدم في مهرجان جامعي، بارتباكه وبدائيته وخروجه عن أي معقولية، ممثلاً لتجربة ليبيا في المسرح. ولعل حصيلة المهرجان الجامعي الثالث منوعة ومتفاوتة أعمالاً ومستويات. والتفاوت طبيعي ويخلط أوراق التجارب بعضها ببعض. لكن الأهم هو الحفاظ على هذه التظاهرة من أجل ترسيخ التجارب المسرحية الشابة والأكاديمية وخلق فسحة للحوار الثقافي والفني بين الأجيال الجديدة.