الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    استعراض مسببات حوادث المدينة المنورة    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    نهاية الطفرة الصينية !    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    «كل البيعة خربانة»    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    الأمين العام لاتحاد اللجان الأولمبية يشيد بجهود لجنة الإعلام    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاعر يهجو الإنترنت!
نشر في الرياض يوم 11 - 08 - 2005

للشاعر السعودي عبدالله جبر قصيد ة يهجو فيها «الإنترنت» ويعلن فيها انتصاره للكتاب الورقي، ويسوق ذلك كله في قصيدة حشدت طائفة من الرواسم اللغوية والبيانية التقليدية التي رمى من ورائها إلى «السخرية» من هذا الوافد الجديد «الانترنت» ، تلك السخرية التي تخفي في أعطافها هلعاً شديداً من ذواء «الكتاب الورقي»، وإعلان «موت الذاكرة».
والقصيدة تحمل عنواناً منحازاً هو «ثقافة الوهم»، هذا العنوان الذي سرعان ما ينكشف لنا، بالتوطئة البرقية للقصيدة التي جاءت على النحوالتالي:
«إنترنت -الكتاب الإلكتروني- الكتاب الورقي لن يموت»
ثم يشرع بعدها في رصف أبياته التي تجلِّي لنا «ثقافة الوهم» التي يقصد إليها، هذه الثقافة التي ساقتها إلينا «الإنترنت» أما الثقافة الأخرى التي ينتصر لها ، ويجدّ في تجليتها، فهي ثقافة « الكتاب الورقي»، أو «ثقافة الحقيقة» التي ستثبت أمام «الوهم» الذي حشد له الشاعر قدرته البيانية للإطاحة به.
ويبدأ الشاعر قصيدته بالمقابلة بين طرفين: أحدهما مجهول عُبِّر عنها بالفعل «قالوا»، وبالفعل المبني للمجهول «قيل»، والطرف الآخر ذات الشاعر التي تساجل أصحاب ذلك القول المعمَّى المصدر:
قالوا بأنك مرقاة إلى العمل
إن صح ذاك فهذي غاية الأمل
وقيل هذا اختراع طالما حلمت
به الحضارة فانهب منه واختزل
ولكن الشاعر يقطع عليهم القول، حين يعلن، منذ البيت الثالث، هجمته على هذا «الاختراع» الذي جاء ليعلن -كما يسوق الشاعر- تدمير الذاكرة وموتها، ويتحول هذا «الاختراع» من «حقيقة» كما أرادت له الحضارة الحديثة، إلى «وهم» كما أرادت كلمات الشاعر، فالإنترنت، في هجائية عبدالله جبر ، ليس إلا «بريقاً» و«شعوذة» يحسبهما الظمآن ماء ثم لايلبث أن يخرج منهما «بلا ريّ ولا بلل»، بل إنه سيخرج من كل ذلك وقد فقدت عيناه شعاعهما، وهوينتقل خلف أمواج شاشة «الحاسوب» الزرقاء، وهو إذ يغسل يديه من «ثقافة الوهم» يقيم ذلك الرفض على «التجربة» التي كادت تودي بشعاع عينيه، وليس بعد «التجربة» إلا«الإنكار» الذي تولد عن تلك المعاناة التي عاشها الشاعر مع «الإنترنت»
لن يستطاع اختزال الفكر في علب
من البريق وأطياف من الحيل
أنكرت معرفةً تأتي مخططةً
لم تصطرع في أتون الشك والجدل
فجُلُّ ما يحويه إنترنت مختلقٌ
يخبو ويذبل في أيامه الأول
ولا تحسبن جَفَل عبدالله جبر من «الإنترنت» متأتياً من إذعانه إلى موقف «تقليدي»، يضمه إلى كوكبة من الشعراء «التقليديين» المناهضين للجديد، والذائدين عن القديم، إن هذا التفسير لا ينهض دليلاً على «قدامة» أو «حداثة» فهذه مواقع «الإنترنت» تحفل بأسماء شعراء ومفكرين وعلماء ودعاة يلحون على مقاومة دعاوى التجديد والحداثة في الفكر والأدب والثقافة والسياسة، ولكنهم من أشد المحتفلين بالشبكة المعلوماتية، فعبدالله جبر يمتح من معين ثر، عرفته الحضارة الإنسانية في ترقيها من طور إلى آخر، ولا سيما تلك الأطوار التي خطت فيها البشرية مراحل من عصر «الذاكرة» إلى عصور «الكتابة»، ف «الطباعة»، وأخيراً عصر «ثورة المعلومات»، وألف الترقي من عصر إلى عصر انطواء على الذات، و« رهاباً» من الكتابة، أولاً، ومن «الطباعة»، ثانياً، ومن «ثورة المعلومات» أخيراً.
الكتابة تدمير للذاكرة، هكذا كان ينظر إليها، فالكتابة تشويه للحقيقة الحية الشاخصة بذاتها التي يجلّيها «الصوت» بحرارته وحضوره، أما «الكتابة» فدليل على «موت» اللغة وانطفائها، واللغة في انتقالها من «الصوت» إلى «الكتابة»، إنما تنتقل من «الحياة» إلى «الموت»، ولهذا نظرت كثير من الحضارات إلى الكتابة بغير قليل من الريبة والحذر، وشاهد ذلك في الحضارة الإسلامية المقابَلة بين «القرآن» المقروء، و«المصحف» المكتوب، وتألفت مدونة كبرى تخني باللائمة على من يأخذ القرآن الكريم أو العلم من «الصحف»، لا من أفواه الرجال، فهذا سليمان بن موسى الأشدق يقول: «كان يقال: لا تأخذوا القرآن من المصحفيّين ، ولا العلم من الصحفيين»، وقال أحدهم:
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة
يكن عن الزيف والتصحيف في حَرَم
ومن يكن آخذاً للعلم عن صحف
فعلمه عند أهل العلم كالعدم
وقول الآخر:
إذا لم تكن حافظاً واعياً
فجمعك للكتب لا ينفع
أأحضر بالجهل في مجلس
وعلمي في الكتب مستودع
وعلى الرغم من أن الحضارة الإسلامية أعلت من قيمة «الكتابة»، فإن زمناً طويلاً مضى حتى أصبح لها مكانتها، ويلوح النزاع بين «الذاكرة» و «الكتابة» في الحقبة التي بدأت «الكتابة» فيها تصبح ضرباً من ضروب تلقي المعرفة «الدينية»، مقابل المعرفة «الفلسفية» التي كانت تستقى من «الكتب»، وظل نفر من العلماء والأدباء في الحضارة الإسلامية يعلون من شأن «الحفظ» وينحون باللائمة على «الكتابة»، هذا وهم يكتبون. فهذا سفيان الثوري -وقد كان يكتب- يقول: «بئس المستودع العلم القراطيس» «تقييد العلم58» وبلغ من هلع القوم من الكتابة والاتكال عليها أن بعضاً من المحدِّثين كان يكتب الحديث، ويقرأه في الكتب، «فإذا أتقنه محا الكتاب خوفاً من أن يتكل القلب عليه، فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ، وترك العناية بالمحفوظ» (تقييد العلم 58).
ولعل من أسباب الخوف من «الكتاب» أن في الكتابة إقراراً بمضمونها وتجسيداً له، فهي أشبه بالإيمان بها ذلك الإيمان المتبوع بحارحة اليد الكاتبة، حين تصبح «الكتابة» شاهدة على الغائب، وهو ما لا يستطيعه «الصوت» المنتمي إلى الحاضر، زماناً ومكاناً، ثم إن من كراهية «الكتابة» وتوريث «الكتب» أن هذه الأخيرة قد تصل إلى من يحرفها عن مقتضاها، ولهذا نهى نفر من العلماء عن توريث كتبهم، وقضوا بحرقها، أو بغسلها، أو بدفنها بعد موتهم، فليس من قيمة للكتاب إلا إذا كان بين يدي إنسان «حي»، ولهذا أوصى أبو قلابة قال :«ادفعوا كتبي إلى أيوب، إن كان حيا، وإلا فأحرقوها». (تقييد العلم 62) فالعلم يستمد حياته وحرارته من الأحياء، أما إذا استودع «الكتب» فمآله «الموت»، فالعلم «الإلهي» مستودعه «القلوب» «الحية لا
الجلود «الميتة».
وفي الفلسفة اليونانية كان أفلاطون وسقراط سيئي الظن بالخط والكتابة، فالكتابة، عندهما غير إنسانية، لأنها تدمر الذاكرة، وتبعث على النسيان، بل إنها رديف ل «الموت»، ولقد كان سقراط -وهو الفيلسوف الشفاهي- «يكره أن يرى أفكاره تدون على جلود البقر الميتة عوضاً عن أن تطبع على قلوب الناس الأحياء» (مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، فرانز روزنتال، ص22).
وحينما حل الكتاب «المطبوع» محل الكتاب «المخطوط» شب صراع بين مشايعي كليهما، فالكتاب المطبوع يذهب بهيبة العلم، حينما يتعاطاه كل أحد، وقد كان الكتاب «المخطوط» حكراً على طبقة من القراء، ورجال الدين، والأمراء والملوك، أما عامة الناس فليس لهم إليه من سبيل، وها هم هؤلاء -يقول المشايعون للمخطوط- يخلصون إلى «المعرفة السرية» المقدسة، ويعرفون مفاتحها، ويطيحون بسدنة العلم وكهنته، والمالكين لأسراره، دون أن يرجعوا إليهم (1)،فالكتاب، وهو سليل المطبعة، هيأ فيما هيأ لمولد الطبقة الوسطى، وأشاع القيم الديمقراطية، وعزز من مواقع العلم و«العقلانية»، ودفع الشعوب إلى المطالبة بحقوقها، وألهب عواطفها، وأجج الثورة فيها، وساق إلى الشعور بالفردية، و الإحساس بالذات، وكانت الطباعة، بحق، كما قال الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس باكون قد «غيرت كل الأشياء في كل أنحاء العالم» (2)، ولكنها، كذلك كما قال الشاعر الإنكليزي أندرو مارفيل، في عام 1627م، مخاطباً إياها: «أيتها الطباعة كم عكرت صفو البشرية» (3). هذا ما ينهيه إلينا المعنى الاجتماعي للكتاب «المطبوع»، أما ما سوى ذلك، فبينما الكتاب المطبوع محفوف ب«الاكتمال»، يشرع الكتاب «المخطوط» فصوله وفقراته على الأفق المفتوح، ف«الطباعة لا تستريح إلا مع النهائية. وعندما يغلق طوق حروف المتن.. وتطبع الورقة، عندئذ لا يقبل النص تغييراً.. كما يحدث في النصوص المكتوبة ، وفي المقابل كانت المخطوطات بحواشيها أو هوامشها (التي غالباً ما كانت تضاف إلي النص في نسخ تالية) في حوار مستمر مع العالم خارج حدودها» (الشفاهية والكتابية ص238).
ويظهر الحوار المستمر مع العالم في المخطوط العربي، الذي ظل مترجحاً بين «التسويد» و«التبييض»، وحين يخرج إلي الناس في هيئته الأخيرة، وقد استوى كتاباً مقروءاً، فإن من وَكْد نفر من المؤلفين أن يتركوا فراغات بيضاء، لاستكمال معلومة ناقصة أو أن يطلب أحدهم إلى قارئه أن يملأ هذا الفراغ، وكأن القارئ شريك للمؤلف، أو كأن الكتاب «المخطوط»، وحالته هذه، تحوّل عن أن يكون «نصا مكتملاً»، وأصبح «نصاً مفتوحاً».
ومع قدوم «الإنترنت» تغير وجه البسيطة، ولفت الشبكة العنكبوتية العالم أجمع، وأحدثت فيه رجّات كبرى، وفتحت كوة على «الفضاء الرمزي» بسعته ، ومساربه، وأدخلت الفكر الإنساني إلى أمداء جديدة من «النهايات»، التي منها «نهاية الدولة»، و«نهاية العمل»، و«نهاية المدرسة»، و«نهاية المسافة» «نبيل على ، الثقافة العربية وعصر المعلومات، ص15» وأنهت الخطَّية السطرية بحلول ما بات معروفاً في أدبيات الإنترنت ب«النص التشعبي» hypertext، هذه «التقنية» التي ألقت بظلالها على النص الأدبي، وتمخض عنها شكل جديد للكتابة الأدبية والنقدية هما «النص الأدبي الإلكتروني»، و«النقد الأدبي الإلكتروني»، ف«النص التشعبي» عمق ما رمت إليه النظرية النقدية الحديثة من وراء «النص المفتوح»، ونظريات «التناصية»، و«التلقي»، بل إنه سيهز سكون النظرية النقدية، ويشدها إلى سبل أخرى، لعل منها ما ذكره حسام الخطيب من إمكان ولادة «مخلوق أدبي جديد يواكب الفضاء المغزو ونظام /لا نظام الجينات المنتهكة أسرارها»، وإن لم يكن ذلك، فإن «المؤسسة الأدبية»، ستبقى، كما يقول الخطيب بلغته المسكونة بالحس البلاغي، «قابعة في حصونها المنزوية وبروجها المشيدة والنار من حولها في غلواء تأججها». (آفاق الإبداع ومرجعيته في عصر المعلوماتية، ص 60).
وكما تأفف سقراط من أن يودع الكلام «الحي» في الجلود «الميتة»، فقد أنشأ المنتصرون للكتاب «المطبوع»، يبدون هلعهم وخوفهم من أن تلفهم الشبكة العنكبوتية بخيوطها، فشرعوا يتكلمون لغة قديمة، بأسمال جديدة ويذيعون فيها «انتصارهم» للكتاب «المطبوع» ويسوقون بين أيدي خوفهم الأمثلة التي ساقها «الشفاهيون»، منذ قرون طويلة حين استقبلوا «الكتابة: الهلع من موت «الذاكرة»، وفتور «العقل» و«التفكير»، ومثلما اتّهم سقراط «الكتابة» بأنها «غير إنسانية» تتكرر التهمة نفسها في شأن «الإنترنت». أما ما يحف بالكلام «الحي» من خصائص «الجدل» و«الشك» و«المعاودة»
شاعر يهجو
و«المناظرة» ، مما لا يستطيعه الكتاب، فإن هذه الخصائص سرعان ما تغدو خصائص أصيلة ل «الكتاب» في مناظرته الجديدة ل «الإنترنت».
أما ما أنهاه إلينا المعنى الاجتماعي ل «الإنترنت» فلا أقل من فشو «الحرية» بين مرتاديه، وعدم خضوعه ل «الرقابة»، وإدارة ظهر متصفحي الشبكات للحكومات، في عالم «سفلي» يتسع لكل من أوغل فيه. تختلط فيه «الطبقات» و«الهويات» و«الأديان» وتصطرع فيه «العقائد» و «الأفكار»، في «فضاء رمزي: cyberspace » تقطنة الجماعات، وتقام فيه المؤسسات، وتمارس فيه الصفقات، وتعقد فيه التحالفات، وتحاك المؤامرات، بل ترتكب من خلاله، أيضاً، جرائم المافيا، وسرقات الأموال والأفكار والمعلومات. (نبيل علي، ص94).
ولعل دهش عبدالله جبر وحيرته وهلعه من «الإنترنت» -ولما يوغل فيه- شأن طبيعي، والطريف أن يعبر عنه شعراً، وأن يتخذ من «الهجاء» ذريعة للتعبير عن موقفه من هذا الوافد الجديد، ومن عجب أنه يسوق ذلك في معرض إنكاره على «الإنترنت» ماهو ملاصق به من الترقي بالأعمال، ويسوق ذلك في أسلوب شرطي، ينطوي على الشك والصغار.
قالوا بأنك مرقاة إلى العمل
إن صح ذاك فهذي غاية الأمل
ويقيم عبدالله جبر «هجائيته» ل «الإنترنت» على «حجج» طالما تكررت في حجاج «الشفاهيين» ل «الكتابة» و«الكتاب المخطوط»، فهي «محض شعوذة، والعلم الذي تحويه «بريق» و«أطياف من الحيل»، أما «المعرفة» فهي باردة، لأنها «لم تصطرع في أتون الشك والجدل»، هذه التهمة نفسها التي ساقها سقراط في اتهامه «الكتابة» والكتاب، ويلوح أن معرفة عبدالله جبر ب « الإنترنت» لم تجاوز السطح، وإلا فأن «الإنترنت» مصطرع للشك والجدل والمناظرة التي لا تستطيع الكتب الوفاء بها في الحال والأوان.
وتنهال بقية التهم على «ثقافة الوهم» التي تجلبها «الانترنت»، فهي «ترمي الفكر بالشلل»، وتعطل الذاكرة. إن الشاعر، هنا، يبارز «الإنترنت» الذي سلبه ذاكرته، وهو حينما غسل يديه منه، وكر راجعاً ليرتمي في حضن «الكتاب»، إنما يستعيد ذاكرته التي تخلى عنها، لحظة اتصاله ب «الإنترنت» فهو يلتم على حرزه وثرواته التي أوشكت تلك «الشبكة» أن تغتالها.
والذي جعل قصيدة عبدالله جبر «هجائية» أنه حشد تلك المفردات التي لا تساق، عادة، إلا في الهجاء، فالقصيدة لم تنطو على موقف «إنساني» أو « فلسفي» من « الإنترنت»، وإنما انطوت على جملة من المفردات والصور والتراكيب اللغوية التي دفعت بها عن أن تحمل موقفاً إنسانياً ووجدانياً، لتصبح «هجائية» خالصة، ويؤكد ذلك تحول القصيدة إلى المفاخرة بأمة الكتاب، ثم تحولها إلى «هجاء» خلف هذه الأمة الذين اضاعوا الكتاب.
لكننا في روابي الشرق وا أسفا
عن الكتاب وبلواه فلا تسل
مطرد حيثما حلت رواحله
كأجرب العيس منحازاً عن الإبل
وتبلغ « الهجائية» ذراها حين تتحول عن «الإنترنت» إلى من وصفتهم ب «الدهماء» الذين يشيحون وجوههم عن «الثقافة الحقيقية» التي يحملها «الكتاب» ، وتساق هذه «الهجائية» بوفرة من المفردات التي تنحي باللائمة على الذين نعوا إلى البشرية «الكتاب الورقي»، فهم «معشر الهمل»، وما مقاهي «الإنترنت» إلا محل ل «الخزي»، وحيث تكون يذوي «النبوغ» ولا يبقى من المعرفة إلا «أمشاج» منها، يحوم حولها حفنة من «الأغرار» و « المتبطلين»، وما كان يظن به أنه «مرقاة إلى العمل»، يضحى «مرقاة إلى الهزل»، ولا تعدو « أزرار الحاسوب المكهربة» أن تكون مطية «اللعب» الذي يحول دون «المجد والعمل» ، وكما دفع «التلفاز» «العيال»، من قبل، إلى «الفشل»، فإن المآل الذي يتوقعه الشاعر ل «الإنترنت» هو الذواء، فما هي سوى «برق خاطف عجل»، ومتطلب العلم والمعرفة منها أشبه ما يكون «بعين الشارب الثمل الذي تنفر منه حمر الطيوف».
ملحق
ثقافة الوهم
شعر عبدالله محمد جبر
إنترنت- الكتاب الإلكتروني-الكتاب الورقي لن يموت
قالوا بأنك مرقاة إلى العمل
إن صح ذاك فهذي غاية الأمل
وقيل هذا اختراع طالما حلمت
به الحضارة فانهب منه واختزل
ومابريقك إلا محض شعوذة
خرجت منها بلا ري ولا بلل
قد كدت أفقد من عيني شعاعهما
متابعاً لوميض جد منتقل
لن يستطاع اختزال الفكر في علب
من البريق وأطياف من الحيل
أنكرت معرفة تأتي مخططة
لم تصطرع في أتون الشك والجدل
فجل ما يحويه إنترنت مختلق
يخبو ويذبل في أيامه الأول
ثقافة الوهم ما شيدت باذخة
لكن رميت جهود الفكر بالشلل
عطلت ذاكرة يا طالما حلمت
بالمبدعات بأفق رائع خضل
أهذه الجزر الزرقاء تحملني
في لحظة لا جتناء الشهد والعسل
أتيت من أمم كان الكتاب بها
نعم المرافق في حل ومرتحل
لكننا في روابي الشرق وأسفا
عن الكتاب وبلواه فلا تسل
مطرّد حيثما حلت رواحله
كأجرب العيس منحازاً عن الإبل
إلا إذا صاغ للدهماء أغنية
حمراء تهز بالأخلاق والمثل
فسوف تفتح أبواب البيوت له
ويلتقيه صغار القوم بالقبل
***
قالوا بأن عصور الطرس قد ذهبت
وأنها استوفت الأيام بالأجل
فهل سهرتم مع الأسفار من قدم
حتى نصدقكم يا معشر الهمل
وأي معرفة تأتي بلا تعب
تبقى لديكم إذا احتجتم إلى العمل
هذي مقاهيكم في كل معطف
وما رأينا نبوغ العلم في رجل
بل قد رأينا سوى أمشاج معرفة
يزجي بها الوقت غر خالي الشغل
إن كان في شاشة الحاسوب متكأ
من البطالة أو من ثورة الملل
فقد ظفرتم بما تبغون من قدم
شحن الفراغ بأشواق الفتى الغزل
وهذه ذروة الإفلاس إن وجدت
إذ نجعل المجد مرقاة إلى الهزل
فكلما اخترعوا شيئاً نشوهه
حتى نسير به في جادة الخطل
كمثل تشويهنا التلفاز نجعله
قوت العيال فيدفعهم الى الفشل
لكنما العلم والآداب قد شملت
من ان تنال ببرق خاطف عجل
من قال بضعة ازرار مكهربة
ترقى بلاعبها للمجد والعمل
وكل معرفة ما لامست كبدي
ولا تشربها بالعقل والمقل
لسوف تنفر من حسي كما نفرت
حمر الطيوف بعين الشارب الثمل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.