الأحزاب السياسية المعاصرة، هي، وفقاً للتعريف الخلدوني، عصبيات سياسية بحتة، ومن ثم، فإن الغاية التي تجري إليها، كانت، ولما تزل، هي السلطة فحسب، هذه حقيقة، لما يزل التاريخ السياسي، في القديم منه كما في الحديث، يؤكدها.. عقد عالم الاجتماع، وفيلسوف التاريخ، العلامة أبو زيد، عبدالرحمن بن محمد خلدون، فصلا في مقدمته، بعنوان (فصل في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك)؛ وهو يقصد أن العصبيات، التي تتجمع إما على أساس النسب، أو الولاء والتحالف مع أهل النسب، أو التحالفات البراغماتية السياسية، كما هي حال الجماعات السياسية المعاصرة، إنما تتمتع، وتعمل، وتحلل، وتحرم، وتتخذ الشعارات، والإيديولوجيات، لغاية محددة، هي الوصول إلى الملك، أو السلطة، باللغة السياسية المعاصرة. ما هي العصبية عند ابن خلدون؟ يُعَرِّف ابن خلدون العصبية في مقدمته، بوصفها صلة الرحم الطبيعية في البشر. وعلى الرغم من أنها أمر وهمي لا حقيقة حسية له، إلا أن نفعها ينحصر في ما تنتجه من قيم عبر عنها ابن خلدون ب(الوصلة، والالتحام، والنعرة، والمناصرة). وعن طريق التجمع العصبي، وما يترتب عليه من قيم المناصرة، تتشكل العصبية سياسيا، ثم تتجه صعودا، مستفيدة من عناصر الالتحام فيها، حتى تتوج ذلك بالحصول على الثمرة، متمثلة في كرسي السلطة. من ناحية أخرى، فإن العصبية لا تقتصر، كما قال ابن خلدون، على عصبية النسب وحده، بل إنها تمتد لتشمل (الولاء والتحالف) مع نسب بعينه؛ بمعنى أن العصبية في التعريف الخلدوني تشمل، بالإضافة إلى أصحاب النسب، من يدخلون معهم بالتحالف والولاء؛ إذ إن "نعرة كل واحد على أهل ولائه وحلفه للأنفة"؛ أي أن الدعم والنصرة لا يكونان بين أهل النسب وحدهم، بل حتى بينهم وبين المتحالفين معهم. بمعنى أن من يتحالف مع عصبة نسب معينة، والحلف هنا سياسي في الغالب، سيعد من العصبية ذاتها، بحكم أنه سيصبح، لا محالة، مدافعا عن العصبية، حاميا لحقوقها، متوحدا مع أهدافها، مشاركا لها في ثمرتها السياسية. "الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك"؛ ليكن ذلك، ولكن ماذا عن فترة الخلفاء الراشدين؟ هل كانت ذات عصبية تجري إلى الملك كغاية؟ يجيب ابن خلدون عن هذا السؤال بأن فترة الخلفاء الراشدين، كانت وحدها الفترة التي توقفت خلالها فاعلية العصبية، ولم يكن ذلك إلا بمعجزة من الله تعالى، حينما جعل مثالية الدين تحل محلها؛ إن فترة الراشدين، كانت هي الفترة الوحيدة في التاريخ الإسلامي، التي كانت خلالها الخلافة قائمة تحت سيطرة الدين نفسه، وتعمل وفق مثالياته؛ أما ما بعدها، وإلى زمن ابن خلدون، وإلى اليوم نفسه، فلقد عادت العصبية، بالتعريف الخلدوني، لتأخذ مكانها، كثابت من ثوابت الاجتماع السياسي. هنا تكون كافة الشعارات التي ترفعها العصبيات ليست إلا وسائل تبتغي من ورائها الوصول إلى الغاية/ السلطة. لقد رفع الأمويون شعار (قميص عثمان)، ورفع العباسيون شعار (الدعوة إلى الرضا من آل محمد)، ورفع البويهيون والسلاجقة والمماليك والعثمانيون، شعارات دينية مشابهة، ولكنها لم تكن تستخدم تلك الشعارات لذاتها كغايات، وإنما كوسائل للوصول إلى الغاية التي تجري إليها العصبية. الجماعات السياسية القديمة، والتي لم تتسم بالاسم الحديث (حزب سياسي)، كما هي أحزاب الشيعة بفروعها، وخاصة فروعها الثلاثة الرئيسية (الإمامية والزيدية والإسماعيلية)، والسنة بفرعيها الكبيرين خاصة، (السلفية والأشاعرة)، والخوارج بفرعها الأبرز (الإباضية)، رفعت شعارات عدة، كان الدين أبرزها، إن لم يكن الوحيد، إلا أن الغاية التي كانت تجري إليها عصبياتها هي السلطة وحدها، مهما ادعت غير ذلك. الأحزاب السياسية المعاصرة، هي، وفقا للتعريف الخلدوني، عصبيات سياسية بحتة، ومن ثم، فإن الغاية التي تجري إليها، كانت، ولما تزل، هي السلطة فحسب، هذه حقيقة، لما يزل التاريخ السياسي، في القديم منه كما في الحديث، يؤكدها.. وعلى ذلك، نستطيع أن نقول، وفقا لتحليل ابن خلدون، إنها، أي الأحزاب السياسية المعاصرة، برغم ما ترفعه من شعارات براقة، إلا أن الغاية التي تجري إليها هي السلطة، والسلطة وحدها. الأحزاب الشيوعية مثلا، رفعت شعار البروليتاريا، ذلك الشعار الذي بشر بمجتمع شيوعي، لا مكان فيه لأصحاب رؤوس الأموال والإقطاعيين، لم تكن عصبيتها تجري يوما ما إلا نحو السلطة؛ ومثلها الأحزاب "الإسلامية" المعاصرة، كحزب الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، والأحزاب السلفية بتشكلاتها، وغيرها ممن ترفع شعارات دينية، على الرغم من بريق الشعارات الدينية التي ترفعها، إلا أن عصبياتها تجري نحو السلطة، كغاية وحيدة من تشكلها وقيامها. وعلى المنوال نفسه، فإن الجماعات الجهادية، كالقاعدة، وداعش، والنصرة، والتي رفعت شعار (الجهاد في سبيل الله)، وكحزب الله، وبقية الأحزاب الشيعية، والتي رفعت شعار (نصرة آل البيت)، على الرغم مما سفكته من دم حرام، وما أهلكته من حرث ونسل، وما استقطبته من أعداد هائلة من شبابنا، ممن كانوا وقودا لنيران الحروب التي أشعلتها، ولما تزل، على الرغم من كل ذلك، مما توحي بأنه في سبيل تلك الشعارات "الدينية"، إلا أنها في حقيقتها ليست إلا عصبيات سياسية تجري إلى غاية هي السلطة وحدها، وما الجهاد في سبيل الله، ونصرة آل البيت، إلا شعارات مجانية، استقطبت من ورائها السذّج، وقليلي العلم والعقل، لتصل من على جمامجهم إلى غاياتها السياسية. كنت قد طرحت سؤالا مفاده: لو أن تراث أعلامنا الكبار، كابن رشد، وابن باجة، وابن طفيل، وابن خلدون، وغيرهم، كان ضمن خطابنا الثقافي والديني، وبخاصة ضمن مواد التعليم، أكان شبابنا مهيئا لأن يكون مطية طيعة للجماعات الإرهابية التي تتوسل الشعارات الدينية، كشعار الجهاد في سبيل الله؟ أظن أن السؤال لما يزل مفتوحا!