كنت وصديق منذ أسابيع نسير في الطريق قريباً من روضة "الخاتلة"، وكان يوماً مطيراً والروضة قد تحولت إلى بحيرة، وكانت للصديق سيارة مترفة، وكان خائفاً عليها، يبحث عن الدروب والمسالك الشديدة، والطرق الصلبة، ولكن خوفه لم ينفعه فقد غرزت السيارة وركّت في الطين، وحينما حاولنا النزول والتفكير في طريقة إخراجها تزايد المطر.. فأخذ صاحبي يتأفف ثم راح ينشد البيت المشهور: سلامُ الله يا مطرٌ عليها وليَسَ عليك يامطرُ السّلامُ ضحكت، وقلت والله إن ألمي لعدم معرفتك معنى البيت أشد من ألمي بغراز سيارتك.. فالتفت متعجبا وقال لي إذا ما المقصود؟ وبينما نحن كذلك إذ مر بنا شاب شهم، كله نخوه ورجولة فشدّ سيارة صاحبي بسلسلة وقام بإخراجها إلى مكان صلب، ففرشنا فرشتنا وأنزلنا متاعنا، وقد خف المطر.. وتذكر الصديق بعد أن ساح باله فقال: لقد نسينا البيت فهات حكايته.. قلت له: إن هذا البيت هو مما تعلمناه من شواهد اللغة والتي لم يعد لها شاهد أو مشهود في زمن العامية الكالح الأغبر، أما شاهده فهو تنوين المنادى في اسم "مطر" الأول. ومطر هذا ليس المطر الذي همى علينا اليوم وسبب غرازاً لسيارتك المنعمة المترفة، وإنما هو اسم لرجل، ولهذا الرجل حكاية أوردها السيوطي، وصاحب الأغاني والمرزباني وغيرهم، وتقول الحكاية: إن الأحوص شاعر المدينة المشهور واسمه عبدالله بن محمد الأنصاري من الأوس بالمدينة -على ساكنها السلام- وسمي الأحوص لضيق عينيه وهو صاحب عاتكة التي قال فيها البيتين المشهورين: يَا بَيْتَ عَاتِكَة َ الَّذِي أَتَعزَّل حَذَرَ العِدَى، وَبِهِ الفُؤَاد مُوَكَّلُ أَصْبَحْتُ أَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي قَسَماً إِلَيْكَ، مَعَ الصُّدُودِ لأَمْيَلُ ويقال إن عاتكة هذه هي ابنة عبدالله بن يزيد بن معاوية، وأن الخليفة الوليد بن عبدالملك غضب عليه فنفاه إلى "دهلك" وهي جزيرة قرب اليمن كانت منفى للمجرمين، وملكاً للعرب -وهي اليوم تابعة لأريتريا تحت هيمنة الخبيثة إسرائيل وعميلتها الأخبث إيران- ثم إن الخليفة يزيد بن عبدالملك أعاده من منفاه بعد أن شفعت له المغنية حبّابة.. ويزعمون أن يزيد كان مفتوناً بحبابة هذه وأنه مات حزناً عليها عندما شرقت بحبة رمان فماتت..!! وأنه منع جثتها من الدفن حتى تعفنت وظل يشمها ويقبلها حتى مات!! ولا أشك مطلقاً أن الحكاية من دسائس رواة السياسة ومكائدهم. كما يزعمون أن ابن المقفّع وكان مجوسياً وأراد الدخول في الإسلام، وأنه حينما مرّ بنار في بيت مجوس يتعبدونها اشتاق إلى النار فأنشد: يَا بَيْتَ عَاتِكَةَ الَّذِي أَتَعزَّلُ... الخ.. فاعتبر ذلك تشكيكاً ومطعنا في إسلامه.. وأما حكاية هذا البيت فتقول: إن الأحوص تزوج فتاة ولكنه أحب أختها حباً خفياً، وكانت باهرة الجمال، وأن رجلاً يقال له مطر تزوجها وأخذها إلى ناحية البصرة، وذات يوم طلبت زوجة الأحوص زيارة أختها، فتحمس لذلك ورغب في هذه الزيارة، وشدوا الرحال إلى البصرة، وعندما وصلوا رحبت بهم الأخت وأكرمتهم وذبحت لهم، وكان زوجها مطر غائباً عند إبله وأغنامه، وحينما عاد لم يحسن استقبالهم وغضب على زوجته بسبب إكرامها لهم، وكان مطر هذا بخيلاً، قميئاً، قبيحاً فلم يسلم على صهره الأحوص، فبادره بهذه القصيدة التي يهجوه فيها ويطلب طلاق أخت زوجته منه.. ومنها: سلامُ الله يا مطرٌ عَليهِا وليَسَ عَليكَ يا مَطرُ السّلامُ فَطلقّها فَلسَت لها بكفءٍ وإلاّ شَقَ مِفَرقكَ الحُسَامُ فقال صديقي إذاً القصة هكذا، ما أجملها من حكاية وسوف أسمي سيارتي هذه "عاتكة"، فقلت سمها ما شئت ولكن انتبه إلى أن رياض "العتك" أمامنا!! قال: ولكن لماذا تسميه "العتك" قلت: هذا هو اسمه تماماً، ولكن -أغلب الظن- أن قبيلة تغلب "القحطانية"، وليست "المضرية" -وهذه هي ديارها- ربما كانت متأثرة بقبيلة قضاعة التي تقلب الكاف شيناً ولهذا يقولون: "كشكشة قضاعة".. فقال باستغراب: وقضاعة هذه تقلب الكاف شيناً فتقول: عتش، عتش، عتش؟ فقلت: نعم، ويرحمك الله.