قال: كنتُ أذهب إلى صندوق بريدي نهاية كل أسبوع، كما يذهب الصياد إلى شبكته.. أجد فيه أحياناً رسائل كثيرة، وأحياناً قليلة حسب المواسم والمناسبات، والظروف التي تجعل الرسائل تتوالى أو تسير الهوينا.. وقد تعودت على زيارة هذا الصندوق، حتى أصبح الأمر تلقائياً واعتيادياً وربما جزءاً من عمل ذلك اليوم الروتيني من كل أسبوع. وفي السنوات الأخيرة أخذت الرسائل في التناقص.. تناقصت.. وتناقصت.. حتى انقطعت أو كادت، ورغماً عن هذا فلم أتخل عن عادتي..!! اذهب إلى صندوق البريد وأفتحه بالهدوء نفسه، والقي عليه النظرة نفسها، بل انني اقترب كثيراً منه كأن الرسائل طيور حمام سوف تفر بمجرد فتح الباب الصغير، ولكن لا أثر ولا ريش للرسائل!! وذات يوم وأنا سائر إليه بشكل تلقائي وكعادتي تذكرت أنه لا رسائل هناك فلماذا الذهاب..؟ وتعثرت خطواتي وأصابها شيء من الاضطراب والتردد والارتباك، فلأول مرة أخلف وعدي مع الصندوق، وما أصعب لحظة الإخلاف، ما أصعب قطع العلاقة بالأشياء المحببة والجميلة. وفي هذه الحيرة ما بين سير قدمي وإعمال ذهني كانت رجلاي تسيران ولكن عقلي يقول لا شيء هناك، واستجبت لنوازع الأقدام ورغبة العقل معاً، فسرت حتى اقتربت من الصندوق ولكني تجنبته ولم أفتحه.. والتفت إليه وأنا أردد بيت الشاعر الأحوص: يا بيت عاتكة التي أتغزل حذر العدا وبك الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأميل وهمت على وجهي ثم عدت إلى منزلي وأنا أشعر بحزن، وغبطة..!! اشعر بالحزن لأنني جفوت هذا الصندوق الأثير الذي طالما وجدت فيه تلك الرسائل السحرية، التي تبهج وتضفي جمالاً على جمال الحياة، واغتبطت لأنني استطعت ولو مؤقتاً أن أنتصر على ضعفي والتغلب على عواطفي في مواجهة الحقيقة ومصارحة النفس بأنه لم يعد هناك ما يدعو للألم حول هجران ذلك الصندوق الأثير، أو الذي كان. ومر أسبوع وأسبوعان، بل وشهر وشهران، وأنا أغالب في صندوقي الشوق فأغلبه، ولا يغلبني كما غلب المتنبي.. وبعد هجر طويل قلت لنفسي لماذا لا أزور صندوقي ذلك كما يزور العشاق والشعراء أطلال الأحباب، وديارهم..؟! وذهبت إلى صندوقي، وشعرت بخجل أمام قطيعتي وجفائي له.. وأصارحكم القول إنني حين اقتربت منه أحسست أنه متجهم وعاتب..! فازددت خجلاً وحياءً، واضطراباً، وكدت أعود أدراجي ولكنني وقفت أمامه قليلاً وكأني أخاطبه وأعتذر إليه، لأنه هو الذي شح في عطائه حتى الانقطاع واليأس، وأن مجيئي إليه كل أسبوع وزيارته بلا فائدة كان نوعاً من أنواع الازعاج والإقلاق له.. وخيل إلي انه تبسم ضاحكاً في كثير من السخرية والمرارة. تقدمت إليه بعد هذا الحوار الصامت وأولجت مفتاحي، وأشرعت بابه الصغير وإذا برسالة وحيدة جاثمة كحمامة بيضاء عذبها الجوع والعطش والسجن الطويل.. وفتحتها فلم أصدق عيني وأصابني الدوار والذهول.. وأعدت قراءتها مرات، ومرات، وأنا لا أصدق.. وأقول لنفسي: هل غلطت الأيام..؟ هذه الرسالة التي انتظرتها سنين، وسنين، تأتي في الزمن الضائع..؟! من يصدق..؟