قبل عدة سنوات ومع ظهور الصحف الإلكترونية، كانت إجابة هذا السؤال سهلة نوعا ما، فالمستقبل هو موت الورق، ونهضة الصحافة الرقمية، إلا أن الإشكالية الآن أن التسارع المخيف في ولادة وموت الوسائط الإعلامية يجعل التنبوء بالمستقبل البعيد صعباً جداً. جاءت الصحافة المطبوعة أولا للحياة، ولحقها الراديو والتلفزيون، عاشت هذه الوسائط حياة طويلة شهدت خلالها تطوراً طبيعياً، جودة الصوت في الراديو تحسنت، وتنوعت القنوات، وظهرت موجات "الإف أم"، ودخلت الألوان على التلفزيون، لكن لا شيء على الإطلاق يشبه ما نعيشه الآن. جاءت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وقلبت صناعة الإعلام رأسا على عقب. أصبح المتلقي مرسلاً والمرسل متلقياً، بل وأصبحت وسائل الإعلام تستفيد من الجمهور في الحصول على الخبر، وانقلبت أغلب معايير العمل الإعلامي. وإذا كانت الصحافة الورقية فعلياً تحتضر، فإن الراديو والتلفزيون ليسا بحال أفضل. بل وحتى الصحافة الإلكترونية التي ولدت حديثاً، تعيش تهديداً حقيقياً من الوسائل الجديدة كتويتر وغيرها. ولا تستغرب أيضاً أن يموت تويتر في غضون السنوات القليلة القادمة. ثورة التواصل لم تقلب الإعلام فحسب، بل غيرت حرفياً كل مظاهر الحياة، اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، وثقافياً. فالحياة الاجتماعية لم تعد كما كانت، أصبح البشر يتواصلون لحظياً من كل أنحاء العالم، ويتناقلون ما يحدث في مجتمعاتهم بالصوت والصورة. وإن كانت تلك الوسائل قد ساهمت في تواصل الناس عالمياً، فقد ساهمت أيضا في انعزالهم، وقطيعتهم على مستوى العائلة، والأصدقاء. في السياسة، لعبت تلك الوسائل دور البطولة، ابتداءً من الثورات، وانتهاء بالانتخابات الأميركية، وتغريدات ترامب، التي تعتبر وسيلته المفضلة للتواصل مع العالم. اقتصادياً، غيرت أيضا وسائل التواصل الاجتماعي قواعد اللعبة. أصبح تطبيق بسيط مثل "وتس اب" يباع بمليارات الدولارات، واستحوذت حيتان التكنلوجيا على الشركات الناشئة وغيرها، أما سوق الإعلان فقد شهد ثورة هائلة، عبر استغلال جماهيرية الأفراد في الوصول للمستهلكين. وأخيرا، كرة الشبكات الرقمية آخذة في التضخم، ولايمكن التنبؤ بما ستقدمه العقول البشرية من جديد في غضون سنوات قليلة، لكن مازال علماء الاجتماع غير قادرين على مواكبة هذه التغيرات، واستشراف مستقبل مجتمعاتنا المهووسة بأجهزتها اللوحية. ما ينتظرنا مستقبلا هو جيل مختلف الملامح تماما عن كل الاجيال التي سبقته، ويتطلب دراسات اجتماعية شاملة ومفصلة، تحاول ان تتلمس ملامحنا الغريبة في المستقبل.