هروب كثير من الأشخاص من ممارسة النقد الأدبي، ونقد الشعر على وجه الخصوص، ظاهرة واضحة تتجلى في قِلّة عدد النقاد في جميع العصور مقارنة بالكم الهائل من الشعراء، وثمّة عوامل عديدة ساهمت في انصراف النقاد إلى مجالات أخرى أسهل وأكثر جاذبية، لعل أوضحها ما يتطلبه عمل الناقد من جهد كبير، وما يجب أن يتحلّى به الناقد من صبر على الهجوم والهجاء الذي يتعرض له باستمرار لاسيما أن نصوص الشعراء هي الميدان الذي يمارس فيه عمله المرهق، هذا الأمر يجعله على احتكاك واصطدام دائم بأصحاب "الألسنة الحِداد" أو الشعراء. حتى أكثر الشعراء رهافة وتسامحاً في التعامل لا يتقبلون النقد الموجه إلى قصائدهم بروح رياضية دائماً، فعلى سبيل المثال لم يقتنع الشاعر المعروف عبدالله عبيان بتقييم أعضاء لجان التحكيم في المسابقات الشعرية التي شارك فيها، وهي شاعر المليون وشاعر الملك، وقال في حوار معه: "فيه أعضاء لجان تحكيم أشوف بأني أكبر منهم بكثير نقدياً وشعرياً، وفيه أعضاء لا أثق في ذائقتهم ولا تبرأ بهم الذمّة بصراحة". ولم يكن عبدالله عبيان هو الشاعر الوحيد الذي رفض نقد النقاد المحكمين وشكك في مصداقيتهم، فقد قرأنا آراء مشابهة لكثير من الشعراء، وقرأنا سيل القصائد الهجائية التي يُعبّر فيها الشعراء عن غضبهم من النقاد بلغة مؤذية وشديدة العنف. "ناقد الشعر: شاعر تخلّى عن أنانيته"، هذه العبارة الجميلة كتبها الشاعر علي الضوي عندما تعرّض لظاهرة انحسار التجارب النقدية في مقابل غزارة التجارب الشعرية وتدفقها، وأشار في حديثه لأحد العوامل التي ساهمت في نشوء الظاهرة فقال: "أعتقد أن التجارب النقدية مقارنة بالتجارب الشعرية هي تجارب قليلة، ذلك لأن من يمتلك القدرة على النقد هو في الأساس شاعر متمكن، لذلك لا يمكنه مقاومة إغراء الشعر وشهرته وجماهيريته، فيميل إلى الحضور من خلال القصيدة، مؤجلاً موهبته النقدية ومعطلا إمكانات الناقد بداخله إلى أن تتلاشى وتفنى". ملاحظة الضوي في الاقتباس السابق ملاحظة صحيحة إلى حد ما، فالشعر هو الأكثر إغراءً وجاذبية لأي شخص من إغراء النقد، كذلك فإن الشاعر قادر على كسب الإعجاب والمحبة أكثر من قدرة الناقد على ذلك، وفرصة الحصول على الضوء والشهرة أكبر بالنسبة للشاعر أو لأي صاحب موهبة أخرى من فرصة الناقد الذي يُقابل جهده في معظم الأحيان بالرفض والتشكيك. هذه العوامل وغيرها كفيلة بهروب كثير من الأشخاص من ميدان النقد إلى ميادين أخرى أكثر راحة وجاذبية للمتلقي. أخيراً يقول مشعل فالح الذيابي: للمشاعر في محانينا فصول والهدوء أحلى الفصول ليا حصل والظروف تهب وتقول وتطول وتنقل الإحساس من فصل ل فصل