تزعم الشاعر الرومانسي الانجليزي وليام وردزويرث بداية القرن التاسع عشر حملة للهجوم على النقد والنقاد باعتبار النقاد افرادا حاولوا الابداع الشعري وامام فشلهم في اثبات مواهبهم اتجهوا الى النقد مع ابداعات الآخرين محملين بكل ضغائن الفشل الشخصي ليخلص وردزويرث الى حكم قيمي معروف هو ان قصيدة رديئة افضل من مقال نقدي حاقد. واذا كان (ماثيو أرنولد) الذي جاء بعد ذلك قد وقف بالمرصاد لهذه الحملة واستطاع ان يقدم الى جانب تجربته الشعرية الجيدة دراسات نقدية جادة منها كتابه (وظيفة النقد) اثرت الساحة الشعرية هناك.. الا أن السؤال ظل مشرعا وبالمقابل بقيت دلالات الاجابة منفتحة على الما قبل والما بعد لتقدم الكثير من الدراسات عن ظاهرة الشعراء النقاد بما تطرحه من قضايا عديدة. وعودة الى ذاكرة التاريخ الاوروبي نجد ان اول اسم نقدي تشير اليه لم يكن لارسطو وانما كان للشاعر هوراس الذي كانت اقواله تقرأ وتدرس في الوقت الذي كانت فيه كتابات ارسطو مجهولة. وقائمة الشعراء النقاد في الغرب طويلة تتضمن اسماء عديدة منها دانتى، وجون درايدن الانجليزي، والفرنسي بوالو وكولردج، وهوجو، وبول فاليرى، ومكلش الامريكي والن تيت .. وغيرهم. ويمكن لمن يهتم بالجانب النقدي في شخصية الشاعر العربي ان يتوقف عند عدد كبير من الشعراء الذين توافرت لديهم تجارب نقدية، ففي العصر الجاهلي لم يكن يتصدى لنقد الشعراء الا شاعر مبرز كما فعل النابغة في خيمته الحمراء بسوق عكاظ ملتقى الشعراء. واذا كانت الاشارات النقدية التي جاءتنا قبل ظهور الاسلام لاتقدم لنا صورة واضحة لهذه الظاهرة كتلك التي وصلت الينا بعد ذلك الا اننا نعتبرها البداية والانطلاق لما افصح عنه شعراء مثل جرير والفرزدق والاخطل وكثير وسواهم قبل ان يبرز دور علماء اللغة والبيان في النقد من امثال ابن سلام، والجاحظ، وابن طباطبا، وقدامة بن جعفر، والآمدي، والقاضي الجرجاني، وعبدالقاهر الجرجاني وغيرهم. وقبل ان تبرز الافكار النقدية التي قدمها الشعراء بعد ذلك واكدت على دور الشاعر الناقد فلا يستطيع احد ان ينسى الحماسة لابي تمام ولا صورة الشاعر الناقد عند ابن المعتز في كتابه (البديع) ولا ابي العلاء المعري في سقط الزند واللزوميات والفصول والغايات وغيرها. (2) واذا انتقلنا الى العصر الحديث فلن يتسع المجال اذ يجب ان يقودنا ذلك الى التجمعات الادبية ودور جماعة الديوان والمهاجر وابولو لنصل الى ادونيس وحجازي والدميني وغيرهم مرورا بأسماء كثيرة منها نازك الملائكة والبياتي والسياب، والحيدري، والعقاد، ولويس عوض، ومحمود العالم وغيرهم. وتثير الملاحقة التاريخية لاسماء الشعراء النقاد ومعطيات نقدهم السؤال الآتي : ما الذي يدفع الشاعر الى ممارسة النقد خارج دائرة ابداعه الشعري الذي يفترض انه قد اتقن اسس التعامل الناضج معه ، وهذا السؤال يرتبط او يستدعي سؤالا آخر عن اوجه المغايرة والالتقاء بين ابداعه الشعري وممارسته النقدية ومدى تواطؤه مع مشروعه او ضده اذ للشاعر نموذج ذو معايير واقيسة وموازين قبل الكتابة وبعدها ولا يمكن ان يتعامل نقدا مع نموذج آخر الا من منطلق هذه الموازين. بهذه الاسئلة توجهنا الى مجموعة من الشعراء والنقاد في المملكة ومصر وسوريا لنستطلع اراءهم حول ذلك. النقد وعي وليس إبداعا يؤكد الناقد الدكتور عبد الحميد ابراهيم ان نقاد الشعر لم يختفوا من الساحة، وهم موجودون بكثرة وداخل المدرجات الجامعية، ويكفي مراجعة الرسائل الجامعية لكي ندرك ان النقاد لم يختفوا وانهم يتابعون كل ظاهرة ويقيمون كل شاعر، لكن الحقيقة ان الحركة الادبية عامة راكدة ولا تتنبه للجهود العميقة والجامعية، وتحولت الصحافة الادبية إلى اخبار وعناوين كمجلات السينما، واصبحت تجامل القارئ ولا تقدم له المعلومة الرصينة ولا الموضوعات القيمة، وانما تقدم له ما يشبه تجرع المياه الغازية امام اجهزة التليفزيون والقنوات الفضائية، لقد اختفت رسالة الصحافة الادبية ومالت إلى المجاملات والاثارة، ومن هنا فان النقاد الكبار الذين يحترمون انفسهم ابتعدوا عن هذه المهرجانات الزائفة وقنعوا بتلاميذهم واصدقائهم، اما نقد الشعراء للشعراء فهو نقد عليه اكثر من خط، لان النقد وعي ودراسة وليس ابداعاً، ولكل مجاله وخصوصيته، فالمبدع حينما ينقد انما يصدر عن وجهة نظر واحدة، ويرضى عمن يتفق مع هواه، ويغضب على من يخالف هذا الهوى، ومن ناحية اخرى فان اصحاب المهنة الواحدة عادة ما تكون بينهم حساسية قد تقلل من الموضوعية وتجعل الناقد لا يصدر عن ادوات علمية، ويقيم نقده على انطباعات متناثرة من هنا وهناك، ويزداد هذا الأمر في ميدان الشعر، لان الشعراء اصحاب انفعالات قوية وشحنات جارفة بحكم مواهبهم الخاصة، وكل هذا يؤثر على الحيادية والموضوعية ويجعل نقل الشعراء للشعراء غير متزن ولا محايد. الشاعر ناقد بالفطرة السؤال عن (نقد الشعراء) وموقفي بين حد الشعر والنقد حرج، وشهادتي فيهما مجروحة! ان قلت : للشعراء ان ينقدوا ، بدوت محابيا للشاعر في ، وإن جردتهم من حق النقد، بدوت منحازا لوظيفة الناقد في! فسامحكم الله على هذا السؤال الورطة! على انني شخصيا - وبتجرد - لا ارى الامر كذلك، فالوظيفتان، الشعرية والنقدية، تتعلقان بملكتين انسانيتين، ذهنية ووجدانية، بينهما تداخل، يمكن ان يفصل فيه الوعي النقدي نفسه، بما ينبغي للعلم وما ينبغي للفن. ان الشاعر ناقد بالفطرة ، ناقد بالضرورة، يمارس نقده اول ما يمارسه على الواقع والثقافة من حوله، ثم يمارسه على نصوصه. وقد يجتاز نقده الفطري والشخصي الى ضرب من النقد العلمي، ان انس في ذاته الاستعداد، وعزز ذلك بالمعرفة. والامثلة على هذا كثيرة، شرقا وغربا، قديما وحديثا : كوليردج، ت. س. اليوت ، نازك الملائكة، ادونيس، صلاح عبدالصبور، احمد عبدالمعطي حجازي، علي الدميني.. والقائمة تطول. وفي التراث العربي مارس الشعراء النقد منذ العصر الجاهلي قبل أن يوجد الناقد بل ان ما افسد معظم النقد العربي القديم ان من مارسوه كانوا لغويين أو نحاة او بلاغيين كثير منهم لا حظ له يذكر من الشعر او من الذوق الادبي فكانوا احيانا في واد وحركة الشعر في واد. وقد كتب في هذا مثلا: د. عبد الجبار المطلبي كتابه : الشعراء نقادا (بغداد: 1986) وكتب زميلنا د. احمد الطامي رسالة دكتوراه بالانجليزية عن (نقد الشعراء في العصر الحديث). وفي رأيي غير المتواضع أن الاشكالية تقع هنا في (شعر النقاد) لا في (نقد الشعراء). وقد أنجزت أنا حول هذا كتابا في 1998 بعنوان (شعر النقاد)، انتهيت فيه الى ضعف شعر النقاد، من الناحية الفنية. والسبب الفارق ان هؤلاء النقاد قد شبوا عن الطوق نقادا لا شعراء، فهيهات ان يكون شعرهم بعدئذ اكثر من نظم بارد، كشعر الفقهاء. اما (الشعراء النقاد) ، فهم شعراء اساسا، ولهم نتاج شعري معروف قبل ان يمارسوا النقد، فلا مشاحة في ان ينقدوا، لاسيما ان الشاعر يمارس النقد اصلا - كما سبق - شئنا ام ابينا. الا ان الشاعر مع هذا - وان نفذت بصيرته الى ما قد يعجز النقاد - قد يفتقر الى المنهاج العلمي، فتبقى رؤاه - كشعره - ميالة الى الذوق الخالص، والانطباع الذاتي، بعيدة عن صرامة الموضوعية العلمية، والتنظيم البحثي والاحكام المنهجي. اي ان قراءته تخرج غالبا اقرب ما تكون الى ما يسمى ب (القراءة الموازية)، وهو ضرب مشروع وممارس في النقد الحديث. ان نقد الشعراء - اذا كانوا شعراء حقيقيين اساسا - حري بأن يرى في النصوص ما لا يراه النقاد المدرسيون. غير ان هذا لا يعني ان الشعر لا يستطيع نقده الا الشعراء - كما كان يزعم بعض القدماء - والا كنا كمن يقول : ان الخبرة بأنواع (التويوتا)، مميزاتها، عيوبها، والمفاضلة بين تقنياتها، مسألة لا يدركها الا الياباني المصنع! (نقد الشاعر) اذن يقدم خبرة من نوع خاص، يجب التعامل معها بوعي وحذر علميين، دون اغفال قيمتها المزدوجة، من حيث هي نقد وأدب مزيج. لا شعراء سوى سعدي ودرويش الناقد فاروق عبد القادر يؤكد ان هناك شعراء لهم اسهامات جيدة في نقد الشعر، منهم على سبيل المثال نازك الملائكة، وتوجد اجتهادات لاخرين، وهناك المختارات الشعرية مثل مختارات صلاح عبد الصبور لعلي محمود طه، ولا شك ان المختارات تعكس وجهة نظر نقدية لكن ان يتصدر الشاعر لنقد اخرين معاصرين له فان الأمر لا يخلو من حساسية، والاحظ على وجه العموم ان نقد الشعر لا يتعدى تحويل سطور الشعر إلى سطور نثرية، وربما ترجع قلة النقد للشعر إلى الفوضى النقدية وارتباك المشهد الشعري العربي الراهن، وفي تقديري الشخصي انه لا يبرز في عداد الشعراء الا شاعران هما سعدي يوسف ومحمود درويش، ويوجد اخرون لهم انجاز شعري بشكل او اخر مثل احمد عبد المعطي حجازي والماغوط، كما يوجد مقلدون لشعراء اخرين ويوجد متوسطون. اما الدراسات النقدية الجادة للشعراء فلا تكاد تقابلنا الان بسبب فوضى المشهد النقدي كله. الشاعر الناقد متميز من الشعراء الذين يقدمون دراسات نقدية الشاعر الدكتور حسن فتح الباب الذي يعلل اتجاه بعض الشعراء إلى نقد اعمال شعراء اخرين بقوله: نظراً لغزارة الانتاج الشعري المنشور - حيث يكاد يصدر ديوان كل اسبوع - فان الطاقة النقدية للمتخصصين لا تستطيع استيعاب هذا الكم الهائل من الابداع، وان كنا لا نخلي النقاد، رغم تقديرنا لهم، من المسئولية عن التقصير في حق المبدعين، واعتقد ان اعباء الحياة وضغوطها الراهنة كانت وراء صمت بعض النقاد وانشغالهم عن الحركة الابداعية، وهذا لا ينفي ان ثمة كوكبة جديدة من النقاد البازغين بدأوا يسدون الفراغ الماثل في حركة النقد، فهم يواكبون الحركة الابداعية ويتحمسون للاصوات الجديدة مبشرين بنهضة ادبية نقدية، ويضخون دماً جديداً في شرايين الحركة النقدية حتى لا تتيبس. ويشير د. فتح الباب إلى ان انصراف بعض الشعراء إلى النقد جنباً إلى جنب الابداع امر غير مستغرب، فمنذ جدنا القديم النابغة الذبياني الذي كان ينصب خيمته الحمراء في سوق عكاظ ويحكمه الشعراء فيما بينهم حتى الكاتب العملاق عباس العقاد، والمجتمعات الادبية العربية تضم شعراء نقاداً في نفس الوقت، وربما نفتقد المنهجية الاكاديمية في دراسات هؤلاء الشعراء، لكنهم يتميزون عن النقاد الاكاديميين بنضارة الاسلوب والحيوية، وبعضهم له نظرات ثاقبة تحكم ذائقته الفنية، ولا نعيب عليهم ما تتسم به مقالاتهم من انطباعية، لان الانطباعية مذهب معترف به، اذ يقوم على الذائقة الفنية السليمة والخبرة بالابداع. ولعل اضطرار الشعراء إلى الكتابة عن بعضهم البعض يدعو النقاد المتخصصين إلى التضحية بجزء من طاقتهم ووقتهم لمتابعة ما يصدر من انتاج، لان من شأن عدم المتابعة ان يؤدي إلى احباط الشعراء الشباب، كما ان المتابعة تؤدي إلى الفرز بين الجيد والرديء، لا سيما بعد ان شاع نوع من الفوضى والبلبلة بسبب دخول بعض الطفيليين إلى الساحة الادبية وهم معدومو الموهبة ويفرضون انفسهم بحكم افساح الصحافة مساحات كبيرة لهم، ولتكوينهم جماعات فيما بينهم، وهي الآفة التي تستشري بعض مظاهرها في الميدان الادبي الآن. الوعي الشعري والنقدي ؟!! الشاعر والناقد محمد الحرز قال : ليس بالضرورة أن تكون الكتابة النقدية عند المبدع ناتجة عن الإحساس الحاد والمرهف بسبب القناعة بفقدان النقد دوره ووظيفته تجاه التجارب الإبداعية المختلفة. قد يبدو عند البعض إحساس حقيقي وواقعي , ولكن لا يمكن أن أعتبره سببا رئيسيا في توجه الشعراء أو المبدعين إلى الكتابة النقدية. عندي قناعة تامة استخلصتُها من خلال تأملاتي حول بعض التجارب الشعرية المتميزة مفادها أن لكل كتابة شعرية عميقة ثمة مقومات وشروط , وأهم مقوماتها وشروطها تكمن في تفتح الوعي النقدي خلف تلاوين الكتابة ومفرداتها المجازية , والوعي النقدي المقصود هنا هو إدراك المظاهر والتحولات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تطال الحياة والواقع إدراكا , تكون وظيفته منع الإبداع ذاته من محاولة الوقوع في شرك النمطية والسطحية والابتذال والسائد. هذه حقيقة قائمة في جملة تصوراتي حول الشعر والحياة والإنسان والتاريخ , لا يمكن أن أتغافل دورها عندما أتحدث عن الشعر وعلاقته بالنقد. لقد كان الرهان الحقيقي بالنسبة لي فيما يخص هذا الوعي النقدي هو أولا في استجماع عناصره ومكوناته وملامحه ورؤاه من سياقه الشعري , ومن ثمَّ لاحقا , تحويله إلى خطاب نقدي يرتكز في تكوينه بالطبع على التحليل المنطقي والتركيب الفلسفي وجملة من العناصر أهمها الفهم والتأمل وممارسة التأويل المحكوم بشروط المخيلة. معادلة صعبة التحقق بالنسبة للكثيرين , بل أن البعض يرى فيها مجرد تنظيرات لا تمت إلى الشعر والنقد بصلة , ناهيك عن البعض الآخر - وهم كُثر - الذين لا يؤمنون بممارسة النقد في ظل ممارساتهم الشعرية وذلك بداعي الإخلاص البريء للشعر , وكذلك الاستجابة لدوافعه الشعورية اللاواعية فقط. قد نتفق أو نختلف في جوانب معينة من المسألة , ولكن ما يهمني بالدرجة الأولى هو التعبير الصادق والأمين لكل التجليات التي تعكسها إحساساتي ورغباتي وتوجساتي وتفكيري تجاه الحياة والإنسان والثقافة والمجتمع والتاريخ , لا يمكن أن تكون هذه الإحساسات مجرد تنظيرات بالنسبة لي , هي في نظري خارجة من عمق التاريخ الإنساني , هي موروث ثقافي جاءنا من الآباء والأجداد بالقدر الذي ورثنا صفاتنا البيولوجية والفسيولوجية من الطبيعة , ألم يقل نيكوس كازنتساكيس الروائي العظيم (.. إنك لست واحدا بل جيش بأكمله. هل تحس بالغضب ؟! اعلم إذا أن أحد أجدادك الأوائل هو الذي يرغي ويزبد على شفتيك). هذا الجانب من الوعي هو في عمق ممارساتي الشعرية , واشتغالاتي النقدية , وبالتالي هو المحرك الأساسي الذي يفضي بي إلى دهاليز الكتابة , والإفضاء في القواميس اللغوية هو القصد والتوجه , ولا أظن أنها مجرد تهويمات أو تنويعات شكلية , بل هي معادلة صعبة كما قلت , حاولتُ كثيرا أن أنقل إحساساتي بمرجعياتها الثقافية من المخيلة إلى المنطق والعكس صحيح , وذلك كلما كانت الحاجة ماسة للتعبير عن تحولات الحياة ومؤثراتها على الجسد والشعور والإدراك. ربما نجحتُ في بعض الأحيان وربما أخفقتُ في بعضها الآخر , ولكن ما لا يمكن أن يغيب عن بالي على الإطلاق هو أنني أمارس الكتابة بالقدر الذي أجدني أتنفس فيه أكسير الحياة , وهذا القد كاف بالنسبة لي على الأقل كي أتجاوز ما يظنه البعض أنه تناقض صارخ حينما نجمع الممارسة الشعرية والنقدية في ذات كاتبة. هذه الحالة التي يؤمن بها البعض تعكس من وجهة نظري مأزقية التصنيف والتجنيس التي شوهت مفهوم الكتابة , وأحالت الكتابة الإبداعية إلى ما يشبه الكنتونات القائمة على معيارية فجة , لا تستمد مبررات وجودها لا من الموروث الكتابي في الحضارة العربية الإسلامية , ولا من دلالات الوعي بالكتابة في الحضارة الغربية , إنها مجرد تصانيف جرت عليها عوادي الزمان من التصلب والتخشب , وما زالت تحمل سمات الفوضى والتخلف التي هي ركيزة من ركائز حياتنا الثقافية العربية الراهنة. لن أجادل كثيرا فيما يطلقه بعض الشعراء والمبدعين من مقولات حول التأثير السلبي الذي يحدثه الاقتراب من الأدوات النقدية بالنسبة للشاعر , لقد أوجزنا الحديث عنها سابقا ونضيف : أن عامل التأثير يعتمد بالأساس على مكونات الوعي الشعري عند الشاعر , والسؤال : أهذه المكونات مجرد ذاكرة جماعية أم حياة فردية بالمعنى الوجودي والفلسفي للكلمة ؟!! , أهذه المكونات محاولة للفهم والتأمل أم هي للتصالح والانتفاع والتوسل..ألخ. بالطبع يمكننا أن نسرد قائمة طويلة من السمات التي يمكن أن تكشف عن سلبية التأثر وإيجابياته , الأمر الذي يقودني إلى نتيجة ألا وهي أننا لا يمكن أن نختزل المسألة في ثنائية (سلب /إيجاب ) بقدر ما نريد أن نعكس تعقيدات الحياة بكل ما تحمله من جوانب ثقافية وتصورات فكرية وشعورية عن الإنسان والمجتمع والتاريخ داخل الكتابة ذاتها بغض النظر عن شكلية الكتابة ومرجعياتها الموروثة. أما عندما نتكلم عن الجانب الوظيفي للنقد حالما نريد أن نمارس القراءة على بعض التجارب الشعرية , فإني أعتقد أن الاحتكام إلى مقولة الموضوعية والتجرد في تقييم الأعمال باعتبارها مقولة مركزية يدّعي البعض ممارستها بنزاهة حد الغرور أحيانا حتى دون التفكير في مصداقية هذه المقولة من الوجهة المنطقية , ناهيك عن تهافتها وذلك عندما نطابق بها الواقع. لقد أعتقدتُ وما زلتُ إن الناقد الذي لا يستطيع أن ينحاز عليه أن يسكت هذا ما قاله فالتر بنيامين , وهو الذي قال أيضا الموضوعية يجب أن يُضحى بها لصالح الموالاة إذا كانت القضية التي يُدافع عنها تستحق هذا والسؤال الذي يصدمني كثيرا هل في ثقافتنا العربية الراهنة نملك الإدّعاء بأن نقول أننا نحمل قضية إبداعية أو ثقافية تستحق منا أن نضحي لأجلها الشيء الكثير ؟!! أني أترك لكم الإجابة..!!. الشعراء يمتلكون حاسه النقد الشاعر والناقد الدكتور حسين علي محمد في اجابته يقول: ليس عجيبا ان يتجه الشعراء الى النقد، وهناك رسائل جامعية تتناول (الشعراء نقادا) اعرف منها اربع رسائل على الاقل، ومن هذه الرسائل رسالتان لدينا في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، وهناك رسالة ثالثة سجلت مؤخرا لدينا حول (الشعراء نقادا) في العصر الاندلسي، وهناك - ايضا - تعليلات الشعراء لقصائدهم، ولما نقدوا به مثل المتنبي وغيره، اذن الظاهرة قديمة وموجودة والشواهد تؤكدها. اما في العصر الحديث، فقد وجدنا الكثير من الشعراء يتجهون للنقد، ومن اشهرهم عباس محمود العقاد، والمازني، فالمازني له ديوان، والعقاد له عشرة دواوين، وكلاهما خاض التجربة النقدية ومن الجيل السابق لنا، اتجه الشاعر محمد ابراهيم ابو سنة للنقد، وهو له حوالي سبعة دواوين، وله مسرحيتان شعريتان، ونجد له الكثير من الكتب النقدية، وكذلك حسن توفيق، هو شاعر اتجه للنقد ، وله كتاب عن بدر شاكر السياب، وعدة كتب عن ابراهيم ناجي. وانا أرى ان الشعراء يمتلكون حاسة النقد عموما، ويستعملونها في (تعكيك) قصائدهم اضافة او حذفا او تعديلا او تبديلا، منذ زهير بن ابي سلمى الذي كان يكتب قصيدته ثم يظل يراجعها لمدة عام، لذلك تسمى قصائده (الحوليات). لكني أرى ان الشاعر الذي يحترف النقد، فانه يعلي موهبته النقدية على موهبته الشعرية، وهذا ما شكا منه ت. س. إليوت ذات مرة. الشاعر مبدع.. الناقد عالم يقول الشاعر السوري عدنان برازي: الشاعر مبدع، اما الناقد فهو عالم، أي ان الشاعر يبدع ما يحس به من احاسيس ومشاعر ويصورها بعد ان يستحضر الماضي في الحاضر والمستقبل تخرج القصيدة بتلقائية وعفوية وهزة كبيرة في المشاعر، اما الناقد فانه بجهود عقلية كاملة وليس بشحنة عاطفية يقرأ القصيدة فيبحث عن الافكار التي فيها، والموضوعات التي عالجها الشاعر والاسلوب الذي اتبعه والمفردات التي استعملها والايقاعات الموسيقية التي وردت عنده والبحور الشعرية وهل كانت مناسبة للقصيدة ام لا، وكذلك القافية ان كانت مناسبة ام لا، فالناقد يمارس عملية عقلية صناعية لان الناقد صانع، اما الشاعر فانه مطبوع يقول ما يحس به من احاسيس ومشاعر. والشاعر والناقد لا يمكن ان يجتمعا في بعض الاحيان، لان الشاعر يقول ما يشعر به،والناقد يخضع هذه المشاعر والاحاسيس للميزان النقدي الموجود بين يديه، سواء كان هذا الميزان النقدي وهذه المبادئ النقدية من تراثه العربي القديم ام اخذها من المدارس الحديثة في الغرب. وحول علاقة الشاعر بالنقد قال: الشاعر يكون ناقداً لنفسه اولاً قبل ان يأتي الاخرون لينقدوا شعره، والقصيدة لا تخرج من الشاعر بسهولة، وانما تخرج بعد نقد وتمحيص شديدين، لانه عندما يبدأ في كتابة القصيدة ينقلب الشاعر من شاعر ملهم ومغمض العينين إلى شاعر مفتح العينين والذهن، فيضع في كل كلمة الفكرة التي في رأسه، وهذا الموقف يجعل الشاعر ناقداً لنفسه حتى يضع الكلمة المناسبة في مكانها الذي لا يوضع فيه مرادف او بديل لها، اما الناقد فلا يمكن ان يكون شاعراً، قد يكون الناقد الممتاز هو الذي كان شاعراً سابقاً ثم انتقل إلى مرحلة النقد. واشار برازي إلى ان الاكاديميين اما يجاملون او ينتقدون حسب ما فهموه من مبادئ النقد الاجنبي التي قرأوها وهذا لا ينطبق على شعرنا بكل اسف. واكد برازي ان الشاعر لا يمكن ان يكون ناقداً ابداً، لانه عندما ينقد يأتي نقده انطباعياً، فهو يقول ما انطبع في ذهنه، وتفاعلات الشاعر الداخلية تمنعه ان يفكر في غيره، فليس لديه وقت لكي يكون ناقدا، والشاعر عندما يتطرق الى النقد تتوقف شاعريته. ظاهرة قديمة يؤكد الشاعر محمد علي عبد العال ان ظاهرة الشعراء النقاد ظاهرة عربية قديمة، لكنها لا تنطبق على جميع الشعراء، هناك شعراء موهبتهم في الشعر فقط، وهناك شعراء موهبتهم في الشعر والنقد معاً، واحياناً تسبق موهبة النقد بعض الشعراء،ً تسبق موهبة النقد بعض الشعراء، مما يدل على ان موهبته النقدية متأصلة اكثر، وهذه موهبة من الله. وبعض الشعراء القدامى كانوا هكذا يجمعون بين الشعر والنقد، وعلى سبيل المثال فقد كان سوق عكاظ يقال فيه الشعر لكي يبدي فيه بعض الشعراء اراءهم فيما يسمعون، وما زالت هذه الظاهرة موجودة في اسواق الشعر التي كانت على مر العصور تعقد لهذا الغرض النقدي. والان الشعراء النقاد بعضهم موهبته الشعرية اقوى من نقده، وبعضهم نقده اقوى من شعره. وقال: الاكاديميون بعضهم يمارس النقد كوظيفة بحكم دراساته وليس موهوباً في النقد، وبعضهم لا اعد نقده موضوعياً، واحياناً لا يكون منطبقاً على الشخصية التي ينقدها، وبعضهم درس النقد وعنده موهبة النقد ويمارس النقد بطريقة مرتبطة بالموضوع، وبعضهم شاعر ودرس النقد فهو يمارسه عن خبرة وتجربة، وهذا هو الذي اعده ناقداً واعتد برأيه واخذ برأيه، الشاعر الناقد افضل اكاديمي او غير اكاديمي، والاكاديمي الشاعر اولى وافضل في نقد الشعر وبالتأكيد الناقد الشاعر هو الاساس في نقد الشعر والمسألة ليست مسألة شهادات فنحن نتعامل مع مواهب، ونحن نحترم الموهبة. د. عبدالله الفيفي د. حسن فتح الباب