لطالما كانت الحرب هي المادة الأكثر تحريكًا للكتابة، لتوضيح قيمة البؤس الإنساني الذي لم يعد يؤمن سوى بالدماء والبنادق والقذائف من الاتجاهات الأربعة. هنا تحديدًا في هذا الحوار تتحدث الروائية اللبنانية الشابة جنى فواز الحسن عن ذلك، بعد أن تم تجسيد هذه المعاني في روايتها "طابق 99" التي رشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للمرة الثانية بعد روايتها السابقة "أنا وهي والأخريات": في البداية: تدخل رواية جنى فواز الحسن القائمة القصيرة لجائزة البوكر للمرة الثانية كيف ترين هذا؟ هل يضع أمامك عقبة أم تحدّ ما رأيك؟. - كان الأمر محفّزًا ومشجّعًا بمعنى أنّي شعرت بأنّي تمكّنت من المحافظة على ما بدأت به. دخول رواياتي لجائزة البوكر مرّتين على التوالي كان بمثابة تأكيد ذاتي وتأكيد للقارئ أنّي مستمرة في الخط الذي بدأت به. في الوقت نفسه، تشكّل عادةً الفترة التي تحيط بإعلان الجائزة سواء بلائحتها الطويلة أو القصيرة أو الفائز النهائي فترة ضغط مليئة بالتكهنات والضجيج، فتكون فترة يبتعد فيها الكاتب عن تركيزه على إنتاجه الأدبي. نحتاج طبعًا إلى هذا الصخب ليحيط بأعمالنا، لكن لا يجب أن نحوّله إلى عقبة. هناك فترات للاحتفال بالمنجز الأدبي وفترات أخرى للعودة إلى عالم الكتابة بمشقاته وبالوحدة والعزلة الذي يحتاجه هذا العالم. جنى الحسن شاعرة وصحافية ومترجمة كيف يمكنك الجمع بين كل هذه الأجناس؟. وهل تعتقدين أن هذه الأجناس كلها تصب في صالح جنى الروائية؟. - أنا روائية قبل أن أكون أي شيء آخر. أكتب شذرات شعرية، لكن هذا لا يجعلني شاعرة. الصحافة والترجمة مهن قريبة إلى أعمال الكتابة كونها تتمحور حول حيوات الناس والأخبار واللّغة، وبالتالي لا تشكّل عائقاً أمام الكتابة لكنّها تؤمن المردود الماديّ الذي أحتاجه كمعيلة ولا تخدش همّي الأكبر الذي هو تطوير قدراتي كروائية. ألوم نفسي أحياناً لعدم توجّهي إلى الشعر أو لمحاولتي إقصاء القدرات التعبيرية في الشعر، لكن ربما يوماً ما أكتب قصيدتي التي سأرضى عنها. أؤمن بالانضباط بشكل شخصي وبالإخلاص إلى نوع أدبي واحد وكان خياري الرواية كونها تتناسب مع محاولتي لبناء عوالم متكاملة وخلق شخصيات روائية. والواقع أنّ إقصائي للشعر من كتاباتي بمثابة إقصاء ذاتي لألمي ولنفي ذاتي عن إنتاجي الأدبي. هناك عوائق يضعها المتلقي بالنسبة لنا ككتّاب وإن قلنا إنّنا لا نكترث أو حاولنا ألا نكترث. الشعر يشعرني أحيانًا أنّي مفضوحة وأنا أريد الحفاظ على خصوصياتي، فاحتفظ بقصائدي لنفسي وأمضي إلى الفضاء الروائي أوسع. لماذا اخترت أن تكتبي روايتك على لسان "رجل" وهل نجحت في ذلك أن تري العالم بمنظور "رجل"؟ هل يختلف الأمر كثيرا؟ هل سردك للأحداث في بعض أجزاء الرواية بلسان "الأنثى" هو هروب من هذا الرجل وعودة إلى طبيعتك بوصفك أنثى؟. -أنا لا أؤمن بالتوحّد في كتابة الشخصيات الروائية، أي أنّ رغبتي بحدّ تجربتي حاليًا في نوع أدبي واحد لا تنسحب على طريقة كتابتي. لا أريد كتابة نمطية، بمعنى أن أكتب فقط شخصية امرأة أو رجل. أريد كذلك أن أكتب كل الأعمار والبشر في جميع أحوالهم. لم أكتب الرجل لأدفع الآخرين أن يروه بعيني "رجل". مجد بطل الرواية في نهاية المطاف هو رجل واحد والرجال يختلفون، كذلك النساء. لنقل أنّي أردت أن أكتب معاناة إنسانية لشخصٍ نجا من المجازر جسديًا لكنّه حمل تشوّهاتها النفسية طويلًا على الرغم من انتقاله إلى مكان آخر بعيد جدًّا. عدت إلى هيلدا في الجزء الأخير من الرواية لأنّ الحكايا كلّها بالنسبة لي تحمل أكثر من وجه. كان سيكون من الظلم أن أبقيها مجرّد وجه رحل بعيد ولا أكتب عن معاناتها هي أيضا فيما خلّفته تلك الحرب. كانت هذه المساحة ضرورية كي لا تبقى هذه المرأة شبحًا فحسب. كتبت في هذه الرواية عن شخصيات مختلفة عنك ثقافيا مثل "الرجل الفلسطيني" و"الفتاة المسيحية" وغيرهما.. هل كان هذا تخلصا مما قيل عنك في روايتك السابقة "أنا وهي الأخريات" أنها كانت تحوي أجزاء من سيرتك الذاتية؟. -حين أتحلّى بالشجاعة والرغبة الكافية بأن أكتب سيرة ذاتية أو أجزاء منها، سيحمل الكتاب هذه البصمة "سيرة" أو "مقاطع من سيرة"، لكنّ هذا لم يحدث بعد. لا أعرف حتّى إن كانت حياتنا كما هي جديرة بالكتابة. ربما ما يفوتنا من حياتنا، ما لا نفهمه هو الأجدر بالكتابة. في "أنا، هي والأخريات"، كتبت أيضًا عن شخصيات مختلفة عنّي. في الوقت نفسه، الشخصيات كلها في رواياتي فيها شيء مني كوني أنا التي أكتبها سواء كانت شخصيات نساء أو رجال. لم أكتب نفسي بعد بالمعنى الحدثي.. ربما أفعل يومًا ما. لا أعرف. كان رتم السرد خلال الرواية بطيئا لماذا؟ هل أصاب الحديث الداخلي الطويل للشخصيات والخوض في بعض التفاصيل الدقيقة الرواية بشيء من الترهل؟. - لا أعتبر أنّ إيقاع الرواية كان بطيئًا. وأنا لست المخولة لأحكم في النهاية على العمل، أنا أكتبه فحسب. ما تفسيرك للحضور الطاغي للحرب خلال الرواية حتى حين كانت الأحداث تدور في "أمريكا" استدعيت الحرب لتصيب لعنتها الشخصيات هناك؟ . - أستغرب أن نكتب عن غير الحروب في الواقع الذي نعيشه. كل ما يحيط بنا في الشرق الأوسط هو الحروب والدمار. نحن لا ننتبه ربما لذلك، لكنّ هذه الصراعات تؤثر على أحلامنا وبنائنا النفسي وكيفية تعاملنا مع الحياة ومع الآخر. هذه الحرب التي نهرب منها تلاحقنا في نشرات الأخبار وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والحرب السابقة التي عشناها في لبنان لم تنته بالنسبة لي. في الذكرى الأربعين للحرب الأهلية هذا العام، معظم من أعرفهم من لبنانيين كتبوا أنّ هذه الحرب مستمرة. نحن ملعونون بما اقترفه أسلافنا، نحمل هذه اللعنة في أعيننا، في طفولاتنا التي سُلبت منها ثمّ يأتون ويقطعون عنا المستقبل. مرتكبو الحرب باتوا مسؤولين في الجهات الرسمية وأصوات الشباب اللبناني لا تصل أبعد من صدى يرتدّ في وجوههم. يمكننا الهرب من المكان، لكن هل نهرب من الذكريات؟ . الكتابة عن بيئات ثقافية مختلفة تتطلب بالضرورة الكثير من البحث لإتقان التفاصيل والشخصيات وما إلى ذلك. حدثينا عن الجهد الذي بذلته لهذا السبب؟. - طبعاً هناك جهد بحثي استغرق طويلاً خاصّةً أنّي لم أعش الحرب مثلاً وأنّ معظم الشخصيات بعيدة عن البيئة التي آتي منها. زرت مخيّمات اللجوء الفلسطيني في لبنان مرّاتٍ عدّة لأتمكن من فهم ظروف عيشهم واستكشاف الشخصية الفلسطينية وتكلّمت مع أشخاص كثر حول مجزرة صبرا وشاتيلا. مشيت في المخيّم كما أصبح الآن.. هذا الجهد العملي والملموس بالنسبة لي بسيط جدّاً أمام الجهد النفسي للكتابة، إذ يجب أن يكون الكاتب أبطاله وأن يرى الحياة من خلالهم. وأنا صعبة الإرضاء إلى درجة معينة وأبحث دائما عمّا يذهلني لأكتب عنه، عن تفاصيل جملة تخرج عن غير قصد من الإنسان لكنها تخبر كل شيء عنه. تلك الأجواء السياسية الصاخبة والمضطربة في لبنان في الثمانينات لم تكن حاضرة بشكل كاف في الرواية، لماذا؟ هل أهملت بإهمالك لها خيطا فنيا كان سيعطي الرواية قوة أكبر؟ أم أن هذا تجاهل متعمد لتجنب المزالق التي قد يقود لها هذا الموضوع؟. - أنا لم أكتب لتوثيق الحرب، هناك كتب مختصّة بهذا الأمر. ما أردت أن أضيء عليه أكثر هو إلى أين قادتنا هذه الحرب. الحقائق موجودة بشكل أو بآخر سواء من خلال كتب المؤرخين أو الأفلام الوثائقية، لكن ما لا نكتبه عادةً هو الإنسان في الحرب. الحروب تحوّلنا إلى أرقام، لكن الإنسان أكثر من مجموعات تتقاتل. ما يبقى في نهاية اليوم هو المأساة الفردية للشخص، يحملها معه إلى فراشه وإلى حياته كاملة. هذا ما وجدتني ككاتبة معنية به. في البناء الروائي أيضاً، أظنّ التشعّب قد يكون سيّئًا وأجدني أميل إلى التكثيف والحفاظ على خيطٍ واحد. لم أشأ لهذا السبب أيضاً أن أصل إلى أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في الولاياتالمتحدة، فحسرت الأحداث بين 1882 و2000. هل كان غياب "مجد" طوال الفصل الأخير من الرواية ممهدا لنهاية "هيلدا" غير المتوقعة؟. - كان غيابه ضرورياً لنسمع صوتها هي، كونه بقي حاضراً بشكل ما من خلالها كما كانت هي حاضرة من خلاله في الفصول الأولى من الرواية. أظنّ أنّ هيلدا، عند عودتها إلى لبنان، أرادت أن تعيد استكشاف ماضيها وتقييم حاضرها بلا تشويش وبالتالي لم يكن من الممكن إقحام مجد في إعادة قراءتها لحياتها. عادت هيلدا لتحاول ردم الهوة بينها وبين الماضي، لكن هذا الماضي الذي لم يعجبها أثبت لها أنّه لا يزال الحاضر وكان الرحيل من جديد بمثابة قدر أكثر مما هو مجرد قرار. بعض الأشياء تلتهمنا إن بقينا فيها، تمتصنا وإن أحببناها. وبين العودة والعودة، العودة إلى الوطن والعودة إلى المهجر، يكمن كل وجعها. ما القادم بالنسبة لك؟ هل تعملين على رواية جديدة الآن؟. - أعمل على رواية منذ فترة ولكن بشكل بطيء كوني في فترة انتقالية. هناك فكرة بقيت تلحّ عليّ لأشهر وبالتالي أعتبرها جديرة بالكتابة. أنا من مناصري الوقت المستقطع بين رواية وأخرى في كلّ الأحوال على ألّا تطول المدّة لكي يتمكّن الكاتب من إعادة ابتكار نصّ جديد. أنا من النوع الذي يلتزم الصمت إن لم يكن هناك أمر جديد يمكن قوله. لهذا أحاول أن يكون نصّي هذا أيضاً مختلفاً عمّا سبق، على أمل أن أنجز ما أعمل عليه قريباً. الرواية المرشحة لجائزة البوكر