روائية، أستاذة جامعية، مذيعة... هذه بعض النشاطات التي تمارسها الكاتبة المصرية سحر الموجي، عدا عن كونها عضواً في حركة «9 مارس» المطالبة باستقلال الجامعات، ومشرفة على ورشات عدة للكتابة. الموجي التي لا تكتفي بالعمل في خط واحد، وتحرص على المساهمة في شكل فعّال في كل الحقول الفنية والثقافية المتاحة، ترى أن فارق المنجز الأدبي بين الكتّاب والكاتبات هو فارق عقود من قمع المرأة واحتكار الرجل الكتابة الأدبية. بخلاف روايتي «نون» الحاصلة على جائزة كفافيس للإبداع، و «دارية». صدر للموجي مجموعتان قصصيتان هما «سيدة المنام» و «آلهة صغيرة». هنا حوار معها. في رواية «نون» قدمتِ شخصيات مأزومة ومحاطة بالأسئلة الوجودية، لماذا اخترتِ الكتابة من أرض الشك؟ - أعتقد بأن أي كتابة جيدة تنبع من الشك، لأن توافر اليقين يعني عدم وجود حاجة للكتابة من الأساس ولا طرح الأسئلة. والكتابة عموماً هي رحلة معرفة. على مستوى الزمن عمدتِ إلى تقديم تقاطعات بين الماضي والحاضر بتكنيك «الفلاش باك» في ظل وجود 4 شخصيات رئيسة بخلاف الراوية العليمة «حتحور» المشاركة في تطور الأحداث. كما زخرت الرواية ب39 هامشاً، ألم تخشي أن يتوه منك القارئ؟ - بالفعل تخوفت من هذا الاحتمال، لكن رؤيتي الفنية اختارت أن ينتهي النص بهذا التركيب، الرواية بها خطوط متقاطعة و5 شخصيات. لكن التفاعل والتلقي الجيد الذي حظيت به «نون» خصوصاً من القراء الشباب وطلاب الجامعات، جعلني أوقن أننا ككتّاب نقلل في بعض الأحيان من قرائنا ونتعالى عليهم. الاقتباسات في بداية كل فصل في الرواية منحتها نَفَساً شعرياً، هل كان الهدف من ذلك التناص جمالياً فقط؟ - لم تكن كلها اقتباسات، كان بعضها من تأليفي، وتلك العتبات قبل كل فصل تشكل الخاطر الذي يدور في خلد الراوية العليمة «حتحور» ويتجاور زمنياً ويتقاطع مع السرد في كل فصل، إما بالاتساق مع الحدث أو الاصطدام به، وهو ما يخدم السياق الدرامي للرواية ويخدم البنية السردية أيضاً. شهدت اللغة في الرواية تبايناً واضحاً، فتُرجِمت الأغاني الغربية إلى الدارجة القاهرية بدلاً من الفصحى، كما شهد الحوار العامّي حضور كلمات فصيحة، هل نستطيع أن نسمّي هذا «اضطراباً» على مستوى اللغة؟ - في النهاية المتلقي هو من يحكم، لكني لا أظنه اضطراباً، فنحن كأفراد في الطبقة الوسطى المصرية نستخدم كلمات فصيحة في عاميتنا. أما بالنسبة إلى الأغاني، فقد اخترت أن أنقلها وفقاً لوعي الشخصية التي تستمع إلى الأغنية، وبطبيعة الحال، فإن كلمات الأغنية لن ترتسم في مخيلة الشخصية بالنسق الفصيح. «السياسة في الأدب مثل الشوائب في الذهب». هذه مقولة متداولة، وشهدت «نون» حضوراً قوياً للدول والسياسات والزعماء وقضايا آنية في الفترة 2001 – 2004، هل يؤثر ذلك في صمود الرواية أمام الزمن؟ - نعم، أنا مقتنعة بهذه المقولة، وللحق فإنني تخوفت من الخلفية السياسية البعيدة في الرواية، ولذلك حرصت أن أضعها ك «خلفية بعيدة»، كان وجودها ضرورياً، فهي في النهاية مشتبكة في شكل يومي ووجداني مع مسار الشخصيات، فعمل «نورا» في السياحة تأثر سلباً بالأحداث، ومهنة حسام كصحافي اقتضت أن يلتحم بالحدث. الحلم بعوالمه الضبابية، عامل مشترك في الكثير من كتاباتك، خصوصاً رواية «دارية» التي تشكل فيها الأحلام قسماً من بناء النص. لماذا تفضلين الكتابة في هذا الفضاء؟ - تبقى أهم نقطة في الأحلام هي أنها تساهم في رسم البعد النفسي للشخصية، وفي «دارية» بالذات كانت الأحلام مهمة على مستوى البناء، فالقصة ذاتها مطروقة، زوجة تهجر حياة الزوجية لأنها لم تتحقق فيها، كتب هنريك إبسن «بيت الدمية» في القرن ال19 وهي تحكي القصة نفسها، على رغم أني لم أكن واعية بهذا التشابه قبل أن أكتب روايتي، لذلك فإن توظيف الأحلام - بالتناوب - مع السرد كان مغامرة في الشكل الروائي، خصوصاً أن الأحلام نفسها كتبتُها من دون تنقية، لتحمل البشارات لدارية في أوقات انهيارها، وتحذرها أيضاً في أوقاتها الطيبة، كما أني لم أنسجها في السرد وجعلتها في مقاطع متناوبة معه، ما شكل تغييراً ومغامرة في الشكل الروائي. استخدمتِ تكنيك «نص داخل نص» بذكر الأشعار التي كتبتها دارية، وهو ما أضفى المزيد من الفرادة في بناء الرواية، كيف ترين قدرات الرواية الحديثة على مستوى البناء وما أهمية تجاوز الشكل الكلاسيكي؟ - الرواية بطبيعتها عالم مفتوح على كل الإمكانيات، والشكل البنائي يعكس وعينا ككتّاب باللحظة التي نعيشها، فالأشكال غير الكلاسيكية والتي تحمل فرادة واختلافاً تتماهى مع الواقع المركّب، وبالتالي تتداخل الأصوات في الرواية وتتداخل الأنواع كالشعر والأغاني... إلخ، ذلك يعكس تعقيد اللحظة، ويجعل الأمر كمرآة للواقع المعقد المتعدد الطبقات، فيتجاوز النص كونه مجرد (حدوتة) أو قصة ويرتقي به، وأنا هنا أقصد أي شكل مختلف للرواية خصوصاً تلك التي تحمل تداخلاً بين الأنواع. نلاحظ تقارباً بين كتاباتك وتجربتك الذاتية، ويتضح ذلك في شكل تدريجي تنازلي وفقاً لتواريخ إصدار أعمالك، ماذا عن العمل التخييلي الصرف؟ ألا تهتمين بالتنويع ليشمل رصيدك الفني الأنواع كافة؟ - هذا ما أعمل عليه الآن، نص تخييلي بحت، لكن دعني أنوّه بأن كل الأعمال التخييلية لا بد أن تحمل ملامح من الكاتب مهما تخفى وناور وحاول قطع الصلة بينه وبين شخوص العمل. ونحن ككتّاب عرب، نحاول دوماً التنصل من كل ما هو ذاتي، على رغم أن همنغواي قال منذ عقود: «نحن نكتب النص نفسه بطرق مختلفة»، أي نتناول في شكل مختلف الأفكار والتيمات نفسها. أما بخصوص التنويع، فأنا لا يعنيني أن أجرب أشكالاً مختلفة لمجرد أن يقال إني خضت تلك التجارب وكتبت فيها، كل ما يهمني هو إنتاج نص أرضى عنه وأشعر بأنه حقيقي. بعضهم يصنفك بأنك كاتبة نسوية، وهذا التصنيف يحمل اتهاماً بالكتابة من زاوية ضيقة، بخلاف تلك الكتابة التي تؤسس لوعي إنساني مطلق. ما تعليقك؟ - ليس هناك ما يسمى بالكتابة من وعي إنساني مطلق، طوال الوقت هناك أيديولوجيا ما وراء الكتابة، وأنا لا أستطيع أن أمنع أحداً من تصنيفي، حتى ولو ككاتبة نسوية، وحتى لو كان ذلك يشير لوضعي في خانة أدنى، بل بالعكس، ليتني أُصنف كاتبة نسوية، فهي ليست تهمة على أية حال. أنا مقتنعة بأن العمل لا يكون ملك كاتبه بعد إصداره، وآراء المتلقي حق مشروع له. وأنا لا أنكر أن كتابتي تحمل تلك السمة، لكني أيضاً أجزم بأن الكتابة النسوية صادرة من وعي إنساني عميق يسعى لإعادة التوازن لتاريخ الأدب الذي كتبه الرجال على مدار القرون، فالمرأة لم تكتب أدباً إلا منذ 150 عاماً، لذلك تبقى عندي رغبة في رؤية جديدة ومنصفة، أريد أن أرى «أوفيليا» و «أمينة» من وجهة نظر غير تلك النظرة الذكورية السائدة. هل هذا ما يقوم عليه دورك كناشطة نسوية في ورشة «أنا الحكاية»؟ - بالضبط، لكن من دون توجيه مباشر أو تدريب، ودعني أشِر أولاً إلى أن «أنا الحكاية» أسستها بالشراكة مع 5 مبدعات أخريات ما بين كاتبة وملحنة ومخرجة. الورشة تفاعلية بين المشاركين، وفكرتها تقوم على صياغة الكلاسيكيات الأدبية من وعي نسوي، وهذا لا يعني نصرة المرأة أو الانحياز لها، لكنه يقوم على فكرة إحداث شيء من التوازن، وهذه الورش تقدم للكتّاب والكاتبات، لأنها تخاطب فكرة في المقام الأول ولا تخاطب جنساً بعينه، في الورشة نطلعهم على أعمال فيرجينا وولف ولطيفة الزيّات، ونبرز الانحيازات عند من أُطلِق عليهم «كاتب المرأة» مثل نزار قبّاني وإحسان عبدالقدوس. فيرجينا وولف في كتابها «غرفة تخص المرء وحده» طرحت سؤالاً: ماذا لو كان لشكسبير أخت تمتلك موهبته في الكتابة، كيف سيكون مسارها؟ ستتزوج في السادسة عشرة، ولو فكرت أن تسافر إلى لندن لتقدم مسرحياتها لكانت ستخضع لقوانين المجتمع ويتم قمعها في عصر كان الرجال يمثلون الأدوار النسائية في المسرحيات، عدم وجود مساحة لتجرب المرأة وتطرح نتاجها وتتلقى عليه النقد وتطور نفسها، تسبب في فرق المنجز الأدبي – كماً وكيفاً – بين الرجل والمرأة. وهنا يأتي دور «أنا الحكاية» بإعادة صياغة للوعي المنحاز بغية إحداث بعض التوازن. كنتِ من أوائل الملتحقين بحركة «9 مارس» الداعية إلى استقلال الجامعات، كيف تقوّمين عطاء الحركة؟ - الحركة أسست في 2003، وهدفها نيل استقلال الجامعات المصرية من أيدي الأمن، وحصلنا على أحكام قضائية قبل سنوات عدة بطرد الأمن من حرم جامعة القاهرة، وهو ما لم يُنفذ. الحركة لم تنل هدفها الرئيسي، لكنها تواصل مجابهة الفساد، وتحارب الوساطات، وسُمّيت بهذا الاسم لأن 9 آذار (مارس) 1932 شهد استقالة أحمد لطفي السيد من رئاسة جامعة القاهرة اعتراضاً على فصل طه حسين من الجامعة وتحويله إلى مفتش في وزارة المعارف. كيف تنظرين إلى المشهد الملتهب على الساحة المصرية؟ - بخلاف كوني قررت أن أكون متفائلة، أنا أرى أن جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة، تنتحر مع كل خطوة تتخذها، بالتالي تأتي مخاوفي من مكان آخر: مَن يمثل الثورة والمعارضة؟ أنا لا أحمل ثقة مطلقة تجاه أحد، حتى «جبهة الإنقاذ الوطني»، وأرى أن الشعب سبقهم ببون شاسع في ثورته وحربه على الظلم والظلام، الشعب أقوى ممن يمثلونه، لأنه بلا حسابات سياسية، فمع احترامي لكل من في المعارضة، ومع تقديري لتوحدهم أخيراً في إطار «جبهة الإنقاذ»، إلا أنهم يلعبون سياسة بحسابات، وهذا لا يليق بلحظة ثورية كالتي تعيشها مصر.