المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية السعودية ما لها وما عليها
نشر في المدينة يوم 21 - 12 - 2011


*الكتّاب
نحن نتساءل في البدء عن كُنه الروائي باعتبار العمل للكاتب. ماذا يعني العمل الروائي لكاتبه؟ هذا السؤال هو خالق الفرق بين ما نعتقده من إجادة عند أحدهم وخلل عند الآخر. قد يُكتب للعمل الانتشار ولكنه لا يقدم لحياة الروائي شيئًا ولا يدفع به إلى الأمام وقد يكون سببًا لتعثره وتوقفه، وهذا يحدث مع روائيي العمل الواحد أو المتشابهة كتكرار للعمل الواحد مثل «بنات الرياض» وروايات السير الذاتية، ربما لأن هدف الروائي منذ البدء اشتهار العمل أو لأن السير الذاتية تسهل روايتها مع بعض التحريف ثم يكتشف الروائي أنه لا يخبئ لنا شيئًا. وبما أن من أهم مميزات الكتابة الروائية هو التوثيق الاجتماعي لمرحلة معينة وما يتبع ذلك من قراءة متوازنة ومعقولة لخصائص البناء الاجتماعي والثقافي والسلوك البشري والموروث لمجتمع معين فنحن بحاجة إلى أكثر من مُجرد كاتب يُصوّر أحداثًا ويخلق قصصًا، نحن بحاجة إلى باحث بصير وقارئ جيد للمجتمع وأيضا للأدب اضافة إلى اتقانه اللغة بلوازمها وقد أصبح هذا من تحديات الروائيين في العموم. الروائي السعودي يحظى بكثير من الظلم ويُهمش عمله وتاريخه من قبل القرّاء والمُثقفين ذاتهم، والسبب برأيي يُختصر في اعتياد المثقف والقارئ السعودي على استقبال الابداع الأدبي من الخارج وانعدام ثقته القرائية في التجارب الأولية لابن البلد، فقط لأنها أولية ولذا قد تكون برأيه غير مجدية أدبيا ولا ناضجة ولهذا فهو يختصر المسافة بالقراءة للأسماء العالمية، باختصار كأني ألحظ الروائي السعودي يغتصب ثقة قارئه المحلي بدل أن يحظى بها منذ البداية. هنا جزء اخر يختص بالتجارب الجديدة، في فترات متفاوتة نقرأ لكتّاب في مُقتبل أعمارهم يُسابقون المساحات الخالية ليتسلموا الصفوف الأُول منها. فمثلًا لدينا «إيمان هادي» و«صالح زمانان» و«علوان السهيمي» و«صلاح القرشي» و«سعيد الوهابي» و«عبده مهدي» وكثير من الأسماء تقدم نفسها بمزيج من الثقة والاعتزاز. طفرة الظهور هذه خلقها خلو الساحة من المنافسة المتقدمة، فمهما كان إنتاج الرواية السعودية يتقدم إلا أنه في مراحله الأولى ولا يمكن أن نقول بثراء وزخم إنتاج «الرواية السعودية» ولذا فيُصبح من السهولة تكوّن هذه الطفرة التي تدفع بهؤلاء الكتّاب إلى الظهور والتواجد الإعلامي مما يترتب عليه عادةً تناول متكرر ودائم، سواءً بالترويج للكتّاب واستضافتهم في الأندية الأدبية لقراءة أجزاء من أعمالهم أو التناول النقدي على صفحات الصحف والمجلات والانترنت لأعمالهم. وهنا ينساق الكاتب مع هذه الدعاية الآثمة حتى تستأصل منه الروائي الهائم في تفاصيل العمل لينجرف في متاهة الرد والتبرير والسجال والدافع عن أحقيته بالعائد الأدبي على كِلا حاليه، بالله.. كيف ينتهك روائي أو قاص سعودي حرمة عمله الروائي أو القصصي بأن يقرأ بعض أجزائه على مسمع من الحضور في قاعات الأندية الأدبية أو المجالس الخاصة، إني أتساءل هل ما زال يشتبه على هؤلاء الكتّاب الفرق العظيم بين كُنه العمل الصامت الحاكي وكُنهه المُجَسم المُتكَلم؟! وإذا كان الكاتب السعودي لا يُبصر هذا الفرق فهذه طامة ثقافية أخرى تؤكد أهمية عزل الروائي نفسه في البدء - على الأقل - عن هذا الانجراف الدعائي، طبعا أنا لا ارفض الحديث عن حيثيات العمل ومُخلفاته كما في «طقوس الروائيين» ولا بأس بمعرفة آراء المبدع في عمله وفي أعمال الآخرين، ولكن المشكلة في جريمة قراءة النص على الحضور وكأنه يقرأ قصيدة، الرواية ليست قصيدة! سأختار «رجاء عالم» كمثال هنا، فهي بتجاهلها الانفعالي التفاعلي على ردات فعل القراء والمثقفين على أعمالها تحفظ شخصيتها الروائية من الانجراف الترويجي لذاتها وعملها حتى لا تفقد مكانة حصنها وشخصيتها الأدبية أو تتأثر هذه الشخصية، وهي أيضًا تغلف أدواتها الكتابية بعزلة الروائي الضرورية - طبعا ليست عزلته عن قراءة مجتمعه المحلي- حيث يُولد العمل ويعيش وينضج ويخرج في رأس الروائي وحده لا يشاركه فيه أحد. كنت قد كتبت تحقيقا عن رجاء عالم ولماذا لا يعرفها أحد؟! وأنا بهذا أقصد أنها روائية خالصة بمقاييس الروائي في بُعده الشهير حيث يقول الحكايات والمرويات دون أن يُرى، روائية خالصة لا يَعْلق بها القارئ الكاذب ولا المتثاقف بأنواعه كالمثقف الظرفي - وفقا لتسمية الغذامي-، روائية خالصة لأنها تعتني أكثر ما تعتني بالكلمة والحرف شاهد ودليل عليها وعلى ما تحكيه.
الانتشار الداخلي - المناطقية:
هناك تاريخ قصصي وروائي أدبي منسي لمعظم المناطق، والخطأ الذي نقع فيه نحن كقرّاء وكمؤسسات نشر تهتم بالإصدار الأدبي هو تجاهل وتهميش هذا التاريخ. وكأن أعيننا لا تقع سوى على إنتاج الحاضر، والقارئ هو بالطبع في سباق محموم مع متابعة الإنتاج وقراءته، وحتى نختصر المسافة فنحن نرمي الماضي. في الحجاز والرياض وعسير هناك كتّاب يعتبرون الجيل الأدبي الأول أصبحوا في مهب الريح، على سبيل المثال لدينا في عسير أسماء لا يعرفها القرّاء يمثلون الجيل الأول: محمد علي علوان وتركي العسيري والدكتور محمد النعمي.. قدموا أعمالًا قصصية مثل «الخبز والصمت»و «البوح بأسرار الكآبة» إلى آخر القائمة، وحصلوا على شهادات أدباء كبار كيحيى حقي، وكذلك أعمال منسية لأدباء آخرين في المناطق الأخرى. الرواية بطبعها لا تحتمل الانحياز لمنطقة أو مكان على حساب مكان، إنها عمل إبداعي/ توثيقي/ فني / شخصي يخص الكاتب وما يدور بعقله، ونحن نعرف أنه كلما كان العمل خاصًا كان عالميًا، ولكني أقصد بالمناطقية هنا هو توّزع الكتّاب حسب مناطقهم ووجود منطقة الكاتب (المكان) ركن رئيس من أركان عمله الروائي. فمثلًا عبده خال يسكن منذ زمن طويل مدينة جدة ولكن معظم أعماله مثل «الطين» و«الموت يمر من هنا» تدور في جازان، وأعتقد أن تأثير تلك البيئة التي ولد وتربى فيها لم يُبارح حتى الأعمال الأخرى التي اختار من أحياء جدة لها مكانا مثل «فسوق» و«ترمي بشرر»، والسؤال هو: هل سيتجاوز قارئ الرياض مثلًا تجذّره بمدينته في وجه نص يغوص به في تفاصيل قرية تحكي مكان وأناس ولغة جازان؟! مثلا حين قرأت «طوق الطهارة» كنت أشعر أن الروائي يرتمي بي بعيدًا عن الرياض ويجبرني على معاودة قراءة نص يشبه مكاني وبيئتي، مع ملاحظة أن هذا العمل لم يتحدث عن تفاصيل المدينة وأهلها بما يكفي لاستشهد به في هذه النقطة ولكن بمجمل الإيحاء الروائي. ربما نجاح آخرين في استدراجك لاكتشاف منطقة ليست هي منطقتك يكون هذا إبداعًا روائيًا عالي القيمة كما في «ثلاثية الحمد» على الرغم من المشكلات البنائية الأخرى التي شابت العمل. بات لدى الكاتب تحدي ألا يشوّه المكان وألا يفاجئ القارئ السعودي باغترابه عن المدينة أو المنطقة (المكان ) التي يتحدث عنها الروائي ولا يعرفها ولا يتعرف عليها القارئ إلا داخل الفعل النصي، بل عليه أن يخلق حميمية متدرجة تجعله ينساب مع الحبكة دون اختلال. القارئ العربي أو العالمي ستكون الرواية السعودية بالنسبة له تجربة شهية بالكامل ولكني هنا أقصد مراعاة القارئ السعودي في اجتذابه لأنه المستهدف الأول ومن المهم اجتذابه للعمل. هناك طبعا من فضّل تجاوز المكان والمنطقة وقدم عليهما الحدث ففي غالب روايات غازي القصيبي مثل «العصفورية» و«7» و«سعادة السفير» و«شقة الحرية» وغيرها لم يهتم باختيار الرياض أو الهفوف أو البحرين مكانًا بل تجاوزه كثيرًا، وفي «شقة الحرية» مثلًا كانت مصرًا مكانا يتطلع إليه السعوديون بفكرة تصورية واحدة في الغالب. وحين يكتب الروائي مدينته أو قريته عليه أن يكون مُلّمًا بها جيدا وبكل تفاصيلها. مثلا رواية «نحو الجنوب» لطاهر الزهراني جمع بين الباحة وجدة ولكن طاهر أجاد أيما إجادة في بعث خصوصية القرية وإنسانها (في الباحة) ثم أتقن أيضًا تصوير المكان والإنسان في جدة «الحواري». ولو قرأ أحدكم «التشظّي» لعائشة الحشر وهي تتغلغل بالقارئ في أدق خصائص لغة وحياة أهل الجنوب وعسير لانتفى لدى القارئ السعودي غربة المكان حتى وإن تعقدت اللغة - الحشر قدمت عملًا توثيقيًا للغة أهل الجنوب بالحواشي-. كما أن هناك أعمال بحاجة لقراءتها جيدًا. لا يمكن أن أنكر ذوقية وإتقان الأدب العالمي ولكننا بحاجة لاكتشاف الروائي والرواية السعودية، إن دورنا كقرّاء سعوديين هو النظر في مدى جدية هذا الإنتاج، إننا وحدنا القادرون على الارتقاء بالروائي وقلمه لجودته وبين نسيانه وهجره لرداءته، فلا تتخلوا عن هذا الدور الهام. روايتي «سور جدة» و«فتنة جدة» إ تُعلنان على الملأ أنها تحكي جدة في وقتِ ما وحادثة ما، إن قراءتنا لها وحديثنا عنها ونقدنا لها هو فعلًا ما يُشكل عالميتها وانتشارها من عدمها. أما مشكلة الانتشار الرئيسة في السعودية فهي تتضح في ضعف وندرة دور النشر التي تختص بالعمل الروائي والأسباب تطول ومن أهمها التضييق الرقابي، بعض الدور تجتهد مشكورة ك «طوى» في تقديم القاص والروائي السعودي وتبَنيه، ولكننا بحاجة إلى لمّ شتات هؤلاء الكتّاب في مشروع مؤسسي كبير يتبنى طباعة ونشر الأعمال الجديدة ويُعيد طباعة الأعمال القديمة بحيث يحفظ ويبني التاريخ الروائي السعودي.
المقارنة:
المقارنة هنا في الشخصية الأدبية للروائي، لأنه لا يمكن بحال أن نقارن أو نقارب بين عملين لروائي واحد في رأيي لأن لكل عمل روحًا وانسيابًا ومدارج لا يدري كُنهها حتى الروائي نفسه. تتميز الرواية السعودية بميزة جعلتها تُصنف كرد فعل مُشوّه للواقع والحقيقة. فهذا المجتمع المحافظ يتفجر أدبه الروائي بتجاوزات أخلاقية تصوّر المجتمع وكأنه يعيش كبتًا أصاب كتلته الداخلية باختلال أخلاقي وديني، وكأن الرواية في الحقيقة صورة طبق الأصل مما يحدث فعلا وخفاءً داخل حياة المجتمع الذي يتظاهر بالتدين والخلق. فكانت الرواية من هذه القبيل تحديًا أدبيًا غير مقبول من المؤسسات الرقابية ولم يُعترف بها كجزء من العلاج ولكن كتعدي على الصورة الملائكية للمجتمع. ومع ذلك لم تُعارض وزارة الثقافة والإعلام الروائيين ولكن رفضت الأعمال، مثلا غازي القصيبي كان على رأس عمله في الوزارة والسفارة وأعماله لا تُفسح في الداخل لأن بها خروجًا عن النص الاجتماعي المحافظ، والذي هو في الحقيقة ليس إلا الواقع. هذه الشخصية الأدبية للرواية السعودية بالعموم كانت السمة الأبرز، فنجد هذا عند تركي الحمد وعبده خال وغازي القصيبي وعبدالله بخيت ويوسف المحميد ومثلا رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع التي اشتهرت بسبب اختراقها المجتمع وخفاياه ومحمد حسن علوان وغيرهم. وهنا علينا أن نفرق بين الرواية السعودية كشاهد على الإنسان والمكان واللغة السعودية وبين الرواية السعودية بناءً على الجنسية السعودية الممنوحة للروائي، فأنا لا استطيع أن أقول بسعودية الرواية عند عبدالرحمن مُنيف سوى في «مدن الملح» وهو العمل الأضخم في أعماله كما تعلمون وربما يكون هو الشارة أو الوسم الذي يُشار به عند ذِكر مُنيف. ولكن كما قدّر الأدب العالمي لنجيب محفوظ مصريته الممتدة في جميع أعماله ومنحه على أكثرها خصوصية مصرية جائزة نوبل، فعلينا إذًا أن نتفق على أن المعني بالرواية السعودية هو قراءة المجتمع السعودي إنسانه ومكانه ولغته كل منطقة بتاريخها وطبيعتها وخصائصها ودقائقها. الآن نستطيع أن نستثني مثلًا غازي القصيبي ككاتب للرواية السعودية وعبدالرحمن مُنيف أيضًا -رحمهمها الله-. السؤال المهم: متى ستتجاوز الرواية السعودية تعرية المجتمع وفضحه وتنتقل إلى تسليط الضوء على جمالية الإنسان والحدث فيه؟ الجمالية في كل صورها في الصراع كما في الركود كما في الاكتشاف كما فعل الرائع محمد حسن علوان. أعتقد أننا على وشك الانتقال من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى يقرأ فيها الروائي السعودي الإنسان السعودي دون استفزاز انتقائي، يقرأه في الماضي وفي الحاضر. عبده خال يُشار إليه بأنه يختار المهمشين كشخوص وقصة، أنا أعتقد أن عبده خال لا يهمه المهمشين بقدر ما يهمه استخراج وإبراز «المأساة»، مأساة الإنسان، ومجتمعنا كان مرتعا خصبًا لقلم هذا الرجل وفكره الروائي الابتكاري المُبدع. سمعتُه مرة وهو يقول: إن القضايا والمشكلات والحوادث التي تصلني على بريدي ويريد أصحابها أن اكتب عنها كثيرا هي ما تطبخ خميرة شخوص وأحداث العمل، وهو يُمارس الابتكار النصي ببراعة في كل أعماله.. من قرأ «الموت يمر من هنا» يرى كيف أنه بزّ نجيب محفوظ في «أفراح القبة». غازي القصيبي كان يكتب الحياة بتفاصيل الحب والجمال والهذي، اصطفاف الشاعر فيه إلى جانب الروائي خلق هذه النكهة الحياتية في أعمال غازي، كان يُبحر في غزله بالجمال كما ينتشي بهذيه عن الجن وخيال العالم الخفي، ولكن كان يُمارس تحديًا أكبر حيث يختفي المكان عنده ويحل بديله صور الإغراق المختلفة. مُنيف -إذا اعتبرناه روائيًا سعوديًا بمنظور البعض- فأعماله هي واقعية تحليلية نقدية، إنه يقرأ الحدث كما قد يقرأه الرجل العاديّ وهذا ما فشل فيه مثلًا تركي الحمد ومحمد حسن علوان حيث نلحظ جيدا حشر المعلومة الثقافية والتراكم الثقافي الشخصي للروائي بين ثنايا البناء النصي دون تهذيب أو تجميل مما يُحدث نتوءًا وخللًا فنيًا يشوّه الشخصية. ومُنيف هو سيد المكان وسيد الإنسان كما يعرفه قرّاءه.
الفعل الروائي - الفكرة والقصة:
على الرغم أن هناك تنوعًا في حبكة الرواية السعودية إلا أعتقد أن هذا التنوع هو مجرد هروب من إجادة تطبيق الحبكة التقليدية في معظم الأعمال، ففي غالب أعمال نجيب محفوظ مهما انشغل وانغمس بُبنية العمل من لغة وحوار.. إلخ فإنه يقرأ جيدًا عمله ويُخضعه للحبكة التقليدية حيث يستسلم القارئ للعمل ويؤمن به، فالواقعية هي آسرة القارئ الأولى وإليها يعود، لأن هذه الحياة التي يعيشها القارئ واقعية ومنطقية جدًا، والرواية البوليسية وانتشارها خير دليل على هذا. استسلام القارئ وإرغامه على بعث شعوره المختلف في العمل أو حتى الشعور الواحد في العمل هو النتاج اللحظي أو الآني المنتظر من العمل بينما يتوحد هدف الروائي في ترك فكرة واحدة عن العمل لدى القارئ على المدى الدائم، كيف ومن أي جوانب هذا الفعل الروائي يستلهم الروائي تلك الفكرة، وهنا تقوم مشكلة القصة والفكرة في الفعل الروائي السعودي ومدى التزام الروائي بدمجهما في قالب متناسق وحفظها من التشابك والخلط بما لا يُحمّل القارئ تبعة هذه الأخطاء فيزيد من مقدار صبره القرائي لاستكشاف العمل وفي أحيانا أخرى استحداث فكر القارئ المجتهد للتفسير والتحليل ونجد هذا في بعض أعمال عبده خال مثل رواية «نباح» وكما يُشار إلى صعوبة القراءة ل «رجاء عالم» والروائيين المائلين للغرابة والإغراق التي تأتي رواياتهم على شكل رسائل حيث يتركون فراغات لا يمكن ملأها، ويُصبح من الخطأ أن نطلق مصطلح «رواية» على مثل هذا الفن الكتابي «المراسلات» حتى وإن احتوى على مقومات العمل الروائي. مشكلة القصة والفكرة برأيي من أهم الأسئلة التي تواجه الروائي وهو في منتصف عمله أو حين يعتقد أنه اقترب من نهايته حين تتغلب القصة على الفكرة أو العكس. المشكلة في الأعمال التي تمتزج فيها القصة بالفكرة لتُشعرك بالغربة وتُجبرك على الهرب منها وغلقها وعدم العودة إليها مجددا، وهذا يحدث كثيرًا لأن الكاتب في هذه الحالة ليس روائيًا فعلًا فهو يتجرع ما يكتب أو لأن العمل يزخر بتكلّف وانحراف غير مُتكافئ في بنية العمل ولذا قد يتحجج الروائي بمزيد من الورق حتى يبدأ في هندسة خفايا الحدث وينتقل باللغة من أداة فنية إلى مشرط تزداد قطعاته غير المبررة، أني أؤمن بأن الرواية موهبة كالشعر تتفاوت جودتها بجودة الموهبة وكذلك بمدى صقلها، وبما أننا كقرّاء سعوديين نمتلك الكثير من الصبر على الروائي السعودي لنستكشفه فإنك قد تجدنا نردد حينًا بعد الانتهاء من قراءة عمل لأحدهم «لن أقرأ له مرة أخرى!»، هذه الغربة المختلطة بين القصة والفكرة هي ما تجعلنا نخبر بذلك. وعلى الرغم أني أرى استخدام الحبكة التقليدية وإتقانها هو دليل براعة الروائي السعودي إلا أن جرأة الروائيين السعوديين في ابتكار حبكات مختلفة هو دليل اختلاف الروائي السعودي عن غيره، أتذكر رواية «القفص» للمطوع كانت خاتمتها مباغتة وبها جرأة كبيرة حيث يصبح جزء كبير من العمل حُلمًا ومع ذلك يكتمل العمل تمامًا، وأيضًا «العدامة» أولى «ثلاثية الحمد» مارس الحمد فيها حذلقة خلاقة حيث ينتهي العمل حين يبتدئ، فأول أربعة أو خمسة أسطر من العمل هي ذاتها آخر خمسة أسطر من العمل، وهذا برأيي إتقان فني توصل له الكاتب بفعل القراءة المتكررة لبنية عمله الروائي. أما الفكرة الممتدة في جميع أعمال الروائي هي فكرة عامة وربما تكون فكرة واحدة فتصح هنا عبارة « كل كاتب يكتب كتابًا واحدًا»، بينما تتفرع هذه الفكرة وتتلون من عمل إلى آخر لتخلق الفارق، والروائي يواجه تحديًا كل مرة في الخروج من أجواء فكرة العمل السابق إلى العمل الجديد، لننظر مثلًا لمحمد حسن علوان تشغله فكرة علاقة الإنسان السعودي بحزنه وبمعاناته نتيجة علاقة الرجل بالمرأة، هو يخوض بأداته في هندسة هذه المشاعر والولوج لعمق الإنسان المحلي المرتبط بالمكان والدين والتقاليد وحتى يخرج محمد حسن علوان من هذه الفكرة تمامًا فإنه يشرع بتجاوز هذه العقبة ويكتب «كتابا آخر» خاليًا من هذه الفكرة، طبعا هو لا يخرج إلا حين يتشبع بالفعل ويصبح من العسير عليه المضي في هذه الفكرة، وهنا نستطيع أن نفهم جيدا وفرة وثراء الإنتاج العالمي لعمل واحد في أجزاء متعددة فالروائي يستغرق فكرته كلها في هذا العمل المُتعب نفسيا وفكريا وتقنيًا حتى يتبلور ويخرج في هذه الصورة، الروائي العالمي يعاني مع فكرته حتى يضعها كما في «السلم والحرب» لتولستوي و«الجريمة والعقاب» و«المراهق» عند دستوفيسكي و«مدن الملح» و«أرض السواد» لمنيف وغيرها الكثير. بينما تستغرق الفكرة الكاتب السعودي في العموم وغيره أكثر من عمل وهنا تقل جودة العمل لأنه بحاجة لخلق قصة جديدة، ولهذا نلاحظ أن ثبات القصة في الرواية العالمية المطولة تحقق جودة التمازج بين الفكرة والقصة في قمة تماسكها وترابطها. قلت سابقا أني أرى الفكرة عند عبده خال هي مأساة الإنسان، ومع هذا الامتداد القصصي للفكرة في أعمال عبده إلا أني سمعته مرة يقول أنه لم يكتب حتى الآن سوى ربع ما يسكُنه، ربما يقضي عبده خال حياته الروائية كلها في إشباع هذه الفكرة بمداد من اللغة القصصية العجيبة لديه. مشكلة الروائيين السعوديين أنهم يحاولون التغلب على مبدأ الفكرة العامة التي تشغل روح وكيان الروائي فيختبر الخروج عنها ويجرّب فكرة جديدة في عمل جديد لا يتقنها وهو بهذا يسقط سقطة كبيرة ليُحكم على العمل مُستقبلًا بالنسيان والهجر فلا يغنم الروائي نفسه «فكرته» ولا قرّاءه وهذا مثلا ملموس في تجربة «ريح الجنة» لتركي الحمد.
التحديات والمآخذ:
أعتقد أن من أهم التحديات التي تواجه الرواية السعودية هو قراءتها السليمة للإنسان المحلي كما ذكرت في أول المقالة، وهذا يستلزم وضوح العمل للروائي قبل البدء فيه، يستلزم نقاء العمل من تدخلات الآراء الخاصة بالشخصية الثقافية للكاتب، فمثلا كاتب ينقم على صور التشدد الديني في السعودية فينتقل بأفكاره الشخصية إلى العمل ويقوم بتفريغ نقمته في بنية العمل - طبعا هذا يختلف عن تشريح أخطاء المجتمع بمنظار الروائي- وهذا ما يتحول بالعمل إلى صورة مشوهة عن الحقيقة كما يَسم البعض أعمال يوسف المحيميد بهذا التشوه. ومن التحديات أيضا الانتشار ووصول العمل الحاكي عن منطقة ما إلى قراء منطقة أخرى كما أشرت في نقطة الانتشار الداخلي. وكذلك الانتشار الآمن والصحيح للرواية السعودية إلى قرائها في العالم العربي والعالمي، وأعني بالخروج الآمن والصحيح هو وصول الأعمال الناضجة والمكتملة فنيًا أولًا لأن انتشار أعمال ضعيفة فنيًا ووصولها أولًا سيخلق هناك انطباع أولي ربما يُعممه النقاد على النتاج السعودي بالكامل، حصول عبده خال ورجاء عالم والمحيميد على جوائز وشهادات عالمية من كتّاب ونقاد وصحف كبيرة هو بسبب هذا الوصول الآمن للرواية السعودية، كذلك ترجمة بعض الأعمال السعودية لأنها تحمل همّا مشتركا أو براعة أدبية مثل رواية «جانجي» لطاهر الزهراني و»ترمي بشرر» لعبده خال وكذلك بعض أعمال المحيميد وغيرهم طبعا بما يساهم في هذا الانتشار الآمن. ومن التحديات إتقان اللغة المحلية وإيحائها، فاللغة على الرغم من جديتها ووضوحها إلا أنها تُستخدم في الرواية كإيحاء خطابي حواري يُعزف على إيقاع مهذب ليحكم بها الروائي اتزان العمل، فهناك لغة بيضاء مسالمة يمكن بها كتابة «الرواية السعودية» دون إخضاع القارئ لحميمية القصة والتفاصيل كما هو في أعمال «قماشة العليان»، ولهذا فاللغة الخالية من الإيحاء تشبه الحشو الذي لا يضر ولا ينفع ولكنه يحكم على العمل بوجوده في الرف المتوسط في الوقت الحالي ثم نسيانه في الزمن القادم، وكلنا نرغب بأن نقرأ أعمالًا سعودية لا تُنسى..
* أبها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.