نجادل في هذا الحوار صاحب جائزة البوكر العربية (2010) الروائي عبده خال، وندخل معه في نقاش حول روايته الفائزة (ترمي بشرر) دون ان نتنازل عن الحصول على بطاقة دخول عوالمه الروائية، لنتعرف بعفوية على استراتجيته في كتابة النصوص السردية وبناء الشخوص الروائية. في هذا الحوار كان خال أكثر جرأة كعادته و صراحة عندما المح إلى أن المردود المادي هو سبب عمله في الصحافة و"أن الأدب لا يأكل عيش"، كاشفا أن حياته أكثر صخبا مما يكتب و متحدثا عن روايته التي تريث في إصدارها بسبب أبناء حارة الهنداوية.. في حوار أجري مع صاحب رواية (فسوق) خلال تواجده في الدوحة للمشاركة في الأيام الثقافية السعودية: * متى سيلُم عبده خال شتات سيرته من الروايات ليضعها في كتاب؟ لو أجبت لك على هذا السؤال فسوف أسلم لك أنني أكتب سيرتي الذاتية في أعمالي الروائية، وهذا ليس صحيحا، فما يكتب هو بقايا من أحداث وصور وحياة مررت بها وهي ليست بمفهوم السيرة الذاتية كما يعرفها الناس لكنها هي استجلاب الماضي الذي مرت به الشخصية أو مرت به شخوص الروايات وكانت مهمتي استحضار زمنها إلى النص. * حسنا.. أنت في شهاداتك الروائية في الكويت أو الدوحة تتحدث عن تجربتك وتستعيد سيرتك الروائية، متى سنقرأ سيرتك في كتاب؟ الواقع يا صديقي ليس شحيحا حتى ألجأ لسيرتي لأكتب، أنا عشت مع مئات الشخصيات وكل شخصية هي بحاجة لأن أكتبها قبل أن أكتب سيرتي. وثمة روائي عالمي قال: أهدرت الوقت وأنا أتخيل شخصيات روائية أكتبها بينما الواقع يضج بالشخصيات الروائية. * نشرت قبل سنوات في "عكاظ" فصولا من رواية (الهنداوية) ومن ثم توقفت.. ما مصير هذا النص خصوصا وأنك كتبت بعده رواية أخرى؟ الهنداوية مشروعٌ كتابيٌ كلما اقتربت منه وجدت أنني في حاجة إلى احتوائه بما يرضيني داخليا، إلا أن شخوص تلك الرواية ينفلتون من بين الأصابع حينا؛ وحينا، خشية من أن يفهم شخصيات العمل الرئيسين الكتابة عنهم بشكل مغلوط، فَهُم أصدقاء وأحباب لذلك دائما أنا مع التريث في العمل. وكما قلت انني نشرت عدة فصول قبل سنوات.. وهذه الفصول كانت محل انتقادات او استغراب أبناء الحي حتى أن بعضهم كان يتصل ليقول إن الحكاية لم تكن هكذا وإنما كانت كذلك.. وهذا التدخل والآراء هي آراء لا تعرف أن تفرق بين الواقعي و المتخيل أو مزج الواقع مع المتخيل ومن هنا أجدني متريثا بعض الشيء في إصدار الهنداوية. ولكنني بعد إصدار رواية (ترمي بشرر) عكفت من جديد لكي أصل إلى طرق وصيغ لكتابة وتسجيل عالم هذا الحي (الهنداوية). * أعرف أن عندك رواية بعنوان (حسد) أيضا لم تنشر لماذا. وهل هذا صحيح؟ صحيح، ولكن ليس اسمها حسد وإنما هذا الأسم هو لفصل من فصول رواية الهنداوية، اسمه "الحسد". * معروف أنك تكتب الرواية بتوسع واسهاب وملحمية في حين أن هذا زمن سرعة وشح فيه نسبة القراءة. وماهي فلسفتك في الكتابة الرواية ومتى تقرر أن تنتهي من النص؟ إذا ستكون الهنداوية صادمة، إذ انها ربما تتجاوز في حجمها ما كتبته بكثير. عند الكتابة تعنيني في المقام الأول حالة الإشباع، لا تكون الطلبات السابقة للإبداع حاضرة في ذهني وأنا أكتب؛ بمعنى أن الكلام الذي تقوله بأن الزمن سريع ويحتاج إلى نصوص قصيرة.. عندما أكتب لا استشعر بأن علي أن انقاد وراء مقولات ربما انطلقت من شخص أو شخصين او أن الجميع قال بها، فالعملية التي تحدث مني أنا وبالتالي من الضرورة أن أصل إلى حالة الإشباع والرضا الذاتي لكي أشعر أنني أنهيت العمل كما ينبغي. ما لم استطع أن افعل ذلك أكون لازلت في حالة تجعل العمل نيئا بالنسبة لي. صحيح أنني أتحمل كثيرا من الملاحظات وأن كثيرا من الأصدقاء والمقربين يقولون القول الذي تقوله ويزيدون قائلين: بأنك بزوائدك الحكائية وتعرجات الاحداث وتداخل الشخوص ربما تترهل الرواية. هذا القول لو تنبه له أحد سيجد جميع أعمالي بهذه الصيغة، إذا هي عملية مقصودة وسابقة للنص ومؤكدة لهذا النهج وعلى الناقد الذي يقول هذا الكلام عليه أن يقرأ هذه التعرجات وهذه الانطلاقات في زوايا أو مخابئ مختلفة أثناء السرد. إذا هي عملية مقصودة منذ (الموت يمر من هنا) إلى (ترمي بشرر) وأنا ألجأ إلى هذه التفريعات وجعل العمل الروائي أكثر ضجيجا و انعطافات كي اقترب أكثر من الحياة التي لا تستقر على حال أو لا يمكن إيقاظ صورة لها بحدث ثنائي ثلاثي. فأنت في داخل العمل شخصية ولك علاقات في "20" أو "30" أو "100" شخص، لابد ان أشعر ككاتب أن هذه الشخصية ليست معزولة في واقعها وأن لها علاقتها المختلفة. * إذا على أي قارئ تراهن؟ المسألة ليست بهذه الصورة، صحيح أننا نكتب من أجل الناس.. لأن يقرؤوك وأن يقولوا أدهشتهم امتعتهم، لكن هذا يحدث تاليا. أما عند الكتابة فإن كيميائية الكتابة شبيهة بلقطة الاشباع.. فأنا لا استطيع ان أنهض من العمل وما زالت النفس معلقة به أو بها رغبة او جوع داخلي لم يكتمل. الروائي عبده خال مع الزميل علي سعيد * ثمة مسألة مهمة في مجمل أعمالك وهي أنه يغلب عليها الجانب التراجيدي حد الفجائعية، في حين من يعرف عبده خال يعرف انه انسان محب للحياة ودائم البهجة..كيف يحدث هذا..حدثنا عن شخصيتك بين الكاتب الروائي والإنسان؟ شكرا لك لأنك بهذا السؤال، تخرجني من دائرة أنني عاشق للبكائية، حياتي أكثر بهجة مما أكتب وأنت تلاحظني هنا في الدوحة وترى ان ضجيج الحياة في دواخلنا أكبر وأكثر بهجة مما يكتب، ولكن علينا ان نفرق ما بين الكاتب كشخص مستقل عن أعماله وبين شخوصه الروائية المكتوبة. عندما تكتب انت تنأى بنفسك أن تتدخل في أرواح شخوصك المكتوبة وهذا يقودني إلى مسألة الاستبطان فعندما تستبطن أعماق شخصية ما، ستجد نفسك ميالا لمزاجيتها ولسلوكها الداخلي الذي يتناغم مع وقائعها واحداثها في الحياة. أضف إلى ذلك شخصيات كثيرة كتبتها في أعمالي الروائية هي شخصيات مركبة والشخصيات المركبة تمكنك من الوقوف عند المفاصل الحقيقية لدى تلك الشخوص في رؤية الواقع أو ما يكتبه أو التعبير عن الأفكار غير السائدة بالنسبة للمجموع؛ فهي شخصيات تريد أن تبوح بما داخلها وليس بما هو واقع في الحياة، بمعنى ان تناقضاتها التي لا تستطيع أن تظهرها في الحياة تجد فرصة كبيرة لكي تقولها في العمل السردي وهذا ما فعله على سبيل المثال طارق فاضل في رواية (ترمي بشرر). هذه الشخصية لا تستطيع بأي حال من الأحوال بأن تقول هذا القول في حياتها اليومية أي أن بوحها هو بوحٌ في متن عملٍ يظن ان لا احد يطلع عليه سواه وبالتالي (المونولوج الداخلي) الذي يحوم بداوخلنا كلنا كبشر، عندما نمارسة يوميا، نجزم أن لا أحد يتعرف على ذلك المونولوج؛ ولكن عند الكتابة يصبح كل شيء قابلاً لأن يكشف. وهذه إحدى أدوات أو ألاعيب السرد في كشف الظاهر والباطن للشخصية الروائية. * على ذكر شخصية (طارق فاضل) هنالك من يرى أنك حملت بطل (ترمي بشرر) فوق مايحتمل على المستوى اللغوي وكأنك أجبرت البطل أن يتجرع لغة عبده خال الكبيرة والتي قد لايحتملها شخصية انسان لا ينتمي إلى طبقة متعلمة؟ هنا المسألة تقول إن من "يتثاقف" ويجعل نفسه في طبقة النخبة يبدأ في كيل التهم لبقية الطبقات الأخرى وأنها غير قادرة على التعبير في مستويات لغوية عالية أو أفكار فلسفية عميقة. هذا الإدعاء يبطله عشرات إلى ملايين الشخصيات العامة التي تبهرنا بفلسفتها في الحياة. وأضرب نموذجا لذلك ما يضرب من أمثال شعبية والتي قد تتألف من ثلاث أو اربع كلمات لكن المعنى يكون عميقا. إن منتج الحكمة سواء كان الآن فيما نقرأه من امثال أو ما نقرأه على ألسنة الأعراب في كتب التراث و التاريخ سنجد أنه أعمق من كل الشهادات التي نضعها نياشين على صدورنا وتجعلنا ننأى بأنفسنا عن هذه الطبقة، ويكذب هذه المسألة الشعر العامي واسحب هذا إلى الشعر الجاهلي في لغته الجزلة والفخمة. أضف إلى ذلك أن العوام هؤلاء والمزارع مثلا هو أهم من المهندس الزراعي. المسألة في هذه المحاكمة الفوقية والنخبوية تسقط كثيرا أمام دلائلها في الحياة. * البعض رأى أنك لست معنيا بالكتابة الحديثة في الرواية وبالتالي انت منحاز أكثر إلى الإلتزام بالواقعية الاشتراكية في الكتابة الروائية.. كأنك تعيد بصيغة محلية واقعية الاشتراكية الروسية في الرواية والتي تنحاز إلى الانسان المعدم وجدلية (العبد والسيد)..الخ؟ وهل استطاع الانسان ان يخرج من دائرة العبودية. إنه لايزال في دائرة العبودية بل اتسعت هذه العبودية من الفرد إلى الأنظمة و الدول، لم تعد هذه العبودية، عبودية فرد وإنما تحولت من عبودية الفرد إلى عبودية القراء. هذا الأمر الأول، أما الأمر الآخر فأنا أتمنى بأن أقارن بماتكتبه الرواية الروسية الكلاسيكية، في عمقها ومقدرتها على كشف خفايا النفوس. سيدي لو أن ثمة إصغاء لمتابعة كل هذه الخطوات الروائية ستجد أن في كل رواية خطوة جديدة، أسلوبية، شكلية، مضمونية أسعى إلى إحداثها فمنذ (الموت يمر من هنا) إلى (ترمي بشرر) ستجد أن كل رواية ستنهج نهجا مغايرا لسابقتها ثم نعود إلى مسألة الرضا الذاتي للكاتب. لا تتصور التعب الذي يحدث أثناء الكتابة من حذف وإضافة و تغيير استراتجية الكتابة وقد القيت هذه الملاحظات من أننا نستدرك في كل شيء بمعنى أن القارئ إذا اراد أن يقف أمام أي عمل فذ (وهنا ليس خاصا بعبده خال)، لنقل أنك تقرأ لأعظم روائي في العالم وأنت تقف موقفا مسبقا من الكاتب، ستقول إن العمل الروائي جميل ولكن؛ كلمة الاستدراك (لكن) هذه هي محاولة نقض الاتفاق المبروم مابين القارئ والكاتب وأن الكاتب هو المنتج وأن القارئ هو المستهلك؛ في وقت ما يمكن ان يكون القارئ هو المنتج وليس المستهلك. مسألة الآراء القادمة من خارج النص هي آراء يمكن لك أن تعتني بها ويمكن لك أن تتركها. لكن لايوجد عمل لا يجد فيه القارئ أو الناقد الكلمة الاستدراكية (لكن) وكما ذكرت في الشهادة الروائية أن الكتابة هي جريمة غير كاملة. و كما يقال يقول رجال التحري بأن كل مجرم يترك اثرا يدل على فعله كذلك الروائي يقوم بعمل يترك أثرا خلفه بأن ثمة نصا حدث. * انت كاتب وروائي لا نجد لك حضورا في الصحافة الثقافية في حين لا تزال تكتب في الشأن الاجتماعي على خلاف مايفعل كتاب الأدب في العالم؟ الزاوية التي اكتبها في الصحيفة هي زاوية اجتماعية معنية بالدرجة الأولى برغبات ومطالب واحتياجات الناس ولكي تكتب في هذا الجانب عليك أن تتماس مع أكثر القضايا اتصالا بمطالبات واحتياجات المواطنين، لذلك أخصص زاوية يوم الخميس على سبيل المثال، أتناول فيها الشأن الثقافي وليس باستمرار لأني معني بالقضايا الاجتماعية لأسباب كثيرة قد يكون أهمها لكي لا أخسر لغتي الأدبية في هذه الكتابة اليومية وبالتالي ألجأ إلى التعليقات على المقالة الاجتماعية حتى عندما أكتب المقالة اليومية أكتبها ليس بجهد أو عصف ذهني كبير إنما هو تعليقات لما يدور في المجتمع من مطالبات من احتياجات و أكتبها كما أتكلم ولا اتكلف فيها كثيرا ولذلك ستجدها مخلوطة مابين الشعبي والعامي والفصيح. * إذن انت تكتب الزاوية الاجتماعية، لانك لا تريد للكاتب والأديب أن يكون نخبويا ويبتعد عن الناس أو أنك تريد ان تستلهم من الناس حكايات أخرى وجديدة كروائي؟ المسألة هي مخلوطة وفيها امتزاج حاد بين هذا وذاك، ولكن أتصور أن المسألة الأقرب إلى أن تكون صادقا هي في انها تكون لك دخلا جيدا، وكما يقال فإن (الأدب ما يأكل عيش) وفعلا الأدب لا يؤكد عيشاً.. لأن أي عمل كتابي لن يدخل عليك دخلا يجعل الحياة متكاملة، ولكن الكتابة الصحفية تدخل دخلا يجعل حياتك أكثر راحةً. * ولكن جائزة البوكر جاءت من الأدب؟ أنت تتكلم في جانب مادي والدخل من الكتابة، حسنا، البوكر بعد "30" سنة جاءت ب"60" ألف دولار، ولو كنت أكتب في الصحافة ككاتب لكنت أقمت الدنيا.. المسألة لا تقاس بهذا ولكن الأدب هو حب وعشق أمارسه دون انتظار أي مقابل مادي إزاءه. الصحافة مهنة وهو عمل وعليك تنفيذه كما يجب.وفي الصحافة أنت شبيه بعمال البناء في الشوارع مهمته أن ينجز عمله في يومه!.