تستكمل جنى فواز الحسن في روايتها «طابق 99» (منشورات «ضفاف ودار الاختلاف») ثورة كانت بدأتها في «أنا هي والأخريات» (وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية) ضدّ مجتمع موبوء بشتى أنواع الآفات والعلل. لكنّ الكاتبة اللبنانية الشابة تخلّت هذه المرّة عن صوت المرأة المسحوقة في بيئة ذكورية، لتستعير صوت جيل لم يعش الحرب، إلا أنه ورث ويلاتها. بين «الهنا» و«الهناك» تبني جنى الحسن نواة رواية يسكنها أبطال نجوا من مصير فاجع، غير أنهم سقطوا في فخ ذاكرة متخمة بالآلام والمآسي. وهم حين قرّروا مواصلة حياتهم والصعود بها نحو مكانٍ أفضل، كانوا كمن يمشي على خيط رفيع يُنذر دوماً بسقطة ما. وقد يحمل عنوان الرواية «طابق 99» دلالة على هذا الوجود المهدّد بين عالمين متباعدين، بين أرضٍ وسماء، رفعة وانحطاط، أمل وفشل. وقد أسّست الكاتبة عمارتها الروائية هذه على فكرة التقابل بين أزمنة وأمكنة وشخصيات، تختلف من فصل إلى آخر. فالرواية لا تتقيّد بفضاء واحد، بل إنّ الفضاءات تتبدّل فيها وفق تنقّل الشخصيات، واقعاً أو عبر تقنية الاسترجاع الزمني: نيويورك (ربيع 2000)، بيروت، جبل لبنان (1982)، مخيّم صبرا وشاتيلا (1982). الجسد المعذّب تنطلق أحداث الرواية من شرفة مكتب يقع في «الطابق 99» من مبنى «إمباير ستايت» في نيويورك. مكان مرتفع يشعر فيه الراوي بأنّه ينتمي إلى «الأعلى»، فيحاول أن يمحو من ذهنه ذكريات تلك البلاد في «الأسفل»، بيروتوفلسطين التي لم يعرفها: «من هنا، حين كنت أشاهد العالم من شرفة مكتبي الواقع في الطابق 99 من المبنى، بدا المخيّم غير موجود. وبدت فلسطين بلاداً ضائعة في الزحمة، بلاداً لن يبلغني نداؤها، إن تجرأت على مناجاتي» (ص 25). لكنّ هروبه الدائم نحو «العلوّ» ليس إلّا وجهاً آخر لسقوطه تحت سطوة الماضي. وبين القاع والقمة، يصل مجد إلى حالة من التمزّق، وهو يعترف في ما يشبه المونولوغ بأنه نجح في نسيان - أو ربما تناسي - جروحه القديمة في ذاك المكان المرتفع، إلى أن أحبّ هيلدا التي دفعته إلى الكلام وأحيت فيه حنيناً جارفاً إلى وطن لم يطأه يوماً. «كنت أحكي عن الأماكن والذكريات والمآسي والمجازر... كلّما رويت لها حادثة أو فكرة شعرت كأني أتعرّف على ذاتي للمرّة الأولى، كأنني رجل يخرج إلى الحياة، يخرج إليها من العمق ويجعل كلّ ما كان بين طيّات النسيان يطفو على السطح. كأننا حين نحكي عن أنفسنا، ندرك كم أننا غرباء عنّا» (ص 36). من خلف زجاج شرفته في ذاك المبنى الشاهق، يراقب الراوي الأشياء في الخارج، فيراها غاية في الضآلة، بينما تتضخّم ذاته وتغدو بحجم العالم. كأنّ عودة حبيبته إلى وطنها جعلته يُعيد حساباته في كلّ ما مضى، وما سيأتي. سفرها يُعمّق إحساسه بالفقد والغياب، هو الذي اعتقد لسنوات أنه امتلأ بمنصب مهم تسلّمه ومكتب أنيق في برج عالٍ في أهم مدن العالم. «أمي في الجليل. أنا أيضاً أحب أن أعتقد أنها هناك، كي لا أتداعى من هول مأساة فقدها. أبي في مدافن غريبة عن أرضه. هيلدا ذهبت إلى الهناك». وبعدما قضى حياته وهو يحاول أن يُدير ظهره للمكان الذي يتفادى ذكر اسمه فيُسميه «الهناك»، يعود مجد بذاكرته إلى مخيم صبرا وشاتيلا في بيروت. هناك، عاش وولد بينما ظلّ دوماً هو «الفلسطيني» الغريب، وأحياناً العدو الطامع بأرض بديلة عن أراضي بلاده المسروقة. غياب هيلدا عنه وضعه في مواجهة نفسه، وحيداً، بعدما اعتاد مواجهتها أمام من يحبّ. يستردّ صورة المخيّم في يومه المشؤوم، 16 أيلول (سبتمبر) 1982، عندما استُهدف بالقذائف والرصاص قبل أن تبدأ عملية الإبادة الجماعية. يستعيد مجد ضجيج المخيم وصوت أبيه وصورة أمه وحرارة الدم النازف من رجله وخدّه. فالشظايا التي أصابت جسده طفلاً وخلّفت في قدمه إعاقة وفي وجهه تشوهاً كانت في الوقت عينه سبباً في نجاته وأباه الذي هرب به ليسعفه، قبل أن يعودا ليجدا المخيّم غارقاً في صمت مهيب. قبر واحد حُفر للقتلى، وأمه الحامل كانت من دون شك واحدة منهم. مقبرة واحدة تكفي لكل هؤلاء الفلسطينيين الذين لا يعدون عن كونهم «أبناء مخيّم». تلك الفاجعة بدّلت حسابات والد مجد الذي قرّر بعد المجزرة بعامين أن ينتقل مع صغيره إلى أميركا حيث يعيش أقرباء له. عرف أنّ الحياة خارج «البلاد» هي غربة، سواء كانت في أرض عربية أم أجنبية، قريبة أم بعيدة، مسلمة أم مسيحية. مشهد المخيّم الغارق بدمه أزاح غشاوة عن عينيه، فعرف الأب الحالم أبداً بالعودة أنّ الهوية الفلسطينية ستصير هي اللعنة. «أن تكون فلسطينياً، هو إما أن تنسى الجذور وتتخلّى عن أصلك لتتقدّم في هذه الحياة، وإما أن تبقى كرصاصة تنتظر في فوهة البندقية أن تنطلق في اتجاه ما». لعبة المرايا اختار مجد لنفسه حياة الغرباء في منفى اختياري سمح له بأن يعيش الاحتمالات كأنها هي الواقع. فصار يستمتع بلعبة المرايا، يُفضّل الانعكاس على الحقيقة والصورة على الأصل. يهوى مراقبة تفاصيل حبيبته عبر زجاج المرآة، كأنه يتعمّد بذلك خلق تلك المسافة بين ذاتها وانعكاسها لأنّه يعتبر أنّ «احتمالات المرء في غالبية الأوقات أكثر شبهاً به، ولأنّ تلك النفس الخاصة تتطلّب شجاعة استثنائية للنظر إليها». وفي مقابل المأساة التي يحملها في قلبه، يبدو بطل جنى فواز الحسن في مواقف معينة مثل «كائن بخفة لا تُحتمل». إنه يلهو بغربته ويستمتع بها، كأنها وسيلته للمضيّ في بحثه عن طريق الخلاص. يمشي غريباً في بلاد الغرب، لكنّ هويته الفلسطينية تتوقف عن كونها عبئاً. «الشمس هنا تشرق بالتساوي على الجميع». وهو بهذه العبارة لا يكيل مديحاً لبلاد العمّ سام، إنما يشي بحجم الإذلال أوالمهانة التي واجهها وأهله في بلاد العرب. وقد يُحسب للكاتبة وقوفها في منطقة الحياد عند إثارتها موضوعة «الشرق/ الغرب»، بمعنى أنها لم ترسم للولايات المتحدة صورة «المخلّص» التقيّ، لكنها أشارت - عبر لسان الراوي وشخصيات أخرى في العمل - إلى أنّ أميركا «العظيمة» قامت على أنقاض الهنود وجثثهم، وما زالت لا تعترف إلّا بالأقوياء. ولأنه متفوق وقوي، تمكّن مجد من أن يتجاوز مأساته الشخصية بنجاح، غير أنّه أبى أن يخضع لجراحة تجميلية تخلّصه من أثر شظية حفرت خدّه. كأنه أراد لرجله العرجاء أن تبقى شاهدة على جرح تاريخي، وأن تكون الندبة في وجهه تعويضاً عن رغبة دفينة في الكشف عن هوية يخفيها، أو ربما انتماء إلى مكان لا تعريف له سوى «هناك». هل هو المخيم؟ لبنان؟فلسطين؟... لا يعلم. ويُعدّ وصف الوعي المعذّب بالجسد الغريب أو «الناقص» الذي يحمله مجد، واحداً من أفضل مقاطع الرواية لما فيها من ترميز وإيحاءات. يتناوب بطلا الرواية (مجد وهيلدا) على فعل السرد، فيروي كل واحد منهما ما يعلم عن حرب عرفها من غير أن يختبرها. تحكي هيلدا، الشابة اللبنانية المسيحية عن نشأتها وسط عائلة حزبية (كتائبية) كانت ترى في الفلسطيني الموجود على أراضيها عدواً لها، وقد شارك أهلها في الحرب اللبنانية من باب «الواجب» الوطني، من غير أن يشعروا لاحقاً بأيّ ندم على هذا العمل المشين. ومع أنّ هيلدا كانت طفلة صغيرة في الحرب، ظلّت مشاهد الخوف والموت تلاحقها أينما ذهبت. وحين كبرت، آثرت الابتعاد عن محيطها، جغرافياً ونفسياً. فاختارت أن تدرس الرقص المعاصر وكأنّها بالفنّ تتحدّى قسوة الماضي وبشاعته. أحبّت مجد الفلسطيني، فأكملت بجسدها الندي نقصاً في جسده. ولا ندري ما إذا كان هذا الحب مدفوعاً بشعور الندامة عما اقترفه والدها وأبناء بيئتها في حق مجد وأمه وجيرانه. لذلك، تقرّر هيلدا العودة إلى موطنها لعلّها تعرف مزيداً من الأسرار حول دور والدها في الحرب. فلا يأتي سفرها كانتقال مكاني (من نيويورك إلى جبل لبنان)، وإنما كحركة في الزمان نحو الوراء، خطوة لمراجعة الزمن الفائت. ولكن، في الوقت الذي أرادت هيلدا إدانة والدها، هنأته الدولة بأن عينته وزيراً للشؤون الاجتماعية. وبهذه اللقطة «الانتقادية الساخرة»، تختار الكاتبة أن تُقفل روايتها التي يُمكن أن تقول إنّ المستقبل في بلد مثل لبنان ليس أكثر من ماضٍ متجدد، ومساحة مفتوحة دائماً على احتمالات الحرب والخلاف والنزاع. هي الحرب دوماً تسكن أرواحنا لكننا نتذرّع كل مرة ب «غريب» يأتي من البلاد البعيدة ليعبث بصفو حياتنا. «معالي الوزير، مبروك، مبروك. زغاريد. طلق ناري في الهواء. أمسكت حقائبي في هدوء وانسحبت من الضوضاء. لم يلاحظوني بين زحام المهنئين. كان السائق ينتظرني في الخارج. لم أنظر إلى الوراء. كانت الأصوات وحدها تكفي لتبرّر اختفائي هكذا دون أن أحدث جلبة» (ص 264). في إطار معرض الكتاب العربي توقع الكاتبة جنى فواز الحسن روايتها «طابق 99» في جناح منشورات ضفاف، مركز البيال للمعارض، السبت 29 تشرين الثاني (نوفمبر) من الساعة السادسة حتى التاسعة مساءً.