لم يمارس هؤلاء الصقور مراجعة علنية لطروحاتهم وأفكارهم التي تغذي الإرهاب، بل على العكس يبدي البعض منهم مزايدة في التمسك بتلك الأفكار والتي تقف على رأسها مركزة فكرة «الحاكمية» كمنظور لقراءة المشهد السياسي العربي وإصدار الحكم عليه من زاوية الكفر والإيمان الأردن البلد الذي تختزل له الذاكرة العربية الكثير من المواقف الشجاعة بدءاً بالثورة العربية ومروراً بعقل ودهاء وإنسانية الحسين بن طلال رحمه الله وانتهاء بالملك عبدالله الثاني بن الحسين، وفي الذاكرة الشخصية كان لي مع الأردن قصة لم أروها بعد، وسأرويها يوما بكل ما تحمله تفاصيلها من حب وإعجاب وامتنان. حين يفقد الإرهاب بوصلته ويبدأ في الضرب خبط عشواء كما كانت تقول العرب قديما، فإن ذلك مؤذن بنهايته، لست هنا لأكتب حروفاً خاضعة للتفكير الرغبوي أكثر من خضوعها لمعطيات الواقع، ولكن إن كان التاريخ والعقل قد أرشدانا لشيء فإنهما قد أرشدانا إلى أن الحركات العنفية المتذرعة بالدين والممتطية لصهوة تمثيله والتي ليست بالضرورة مصلحية بل ربما كان بعضها ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعا، تلك الحركات تبدأ في الغالب بأهداف برّاقة يخلب أبصار الجماهير بريقها، ويعشي الغوغاء لمعان خطابها وشعاراتها، لكنها ما تلبث أن تفقد بوصلة أهدافها البراقة لأن ما بني على باطل فهو باطل ولأن أهدافها كاذبة وخادعة وغير واقعية حتى لدى معتنقيها وإن أعشتهم لبعض الوقت، فقياداتها حين تسعى للسلطة تسمي سعيها «أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر» و«إقامة لشرع الله تعالى»، وحين تسعى لمحاربة الأنظمة المسلمة القائمة تسمي أعمالها الإجرامية «جهاداً»، وحين تعلن الحرب على المحتلّين فإنها تقتل من المسلمين أضعاف أضعاف ما تقتل من المحاربين المحتلين، ولست أفشي سرّا حين أقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن أمثال هؤلاء حين قال «يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان»، وأية مقارنة بين ما يقتله الإرهابيون المجرمون من المسلمين والمدنيين الأبرياء ومن يقتلونه من جيوش الأجنبي المحتلة تكشف أن بمقابل كل عسكري أجنبي يقتل ما لا يقل عن ألف من المسلمين والمدنيين الأبرياء، فأي دين جاء بهذا وأية شريعة أباحته! بما أن منتديات الإنترنت تعتبر مكانا ذهبيا للإرهابيين الجدد لتسويق خطابهم وتبرير عملياتهم فقد بحثت في غابة الإنترنت عن تبريراتهم لتفجيرات عمّان لعلّني أجد جديدا لم يقولوه من قبل، أو تبريرا تفتقت عنه أذهانهم المريضة لم يتطرقوا له إلا هذه المرة، فلم أجد من حديثهم إلا معادا ومغالطا وكاذبا، فرجعت من ذلك البحث بأسوأ مما عاد به حنين حين رجع بخفيه!. حين يتحكم الغضب بالنفس البشرية وتضع لها هدفا واحدا يلبّي رغباتها المكبوتة فإن أي نوع من المبررات -مهما بلغ من الضعف واللاعلمية- يكون كافياً لارتكاب أفظع الجرائم وفقا لقاعدة «الغاية تبرّر الوسيلة»، وقد امتلأ الإرهابيون الجدد حقدا وغضبا على مجتمعاتهم وعلى حكوماتهم وعلى العالم بأسره، بل إن حقدهم وغضبهم سيصل يوما إلى أنفسهم كما حدثنا التاريخ عن أسلافهم من الخوارج المارقين، وكما يخبرنا الواقع عن نماذجهم الدموية في الجزائر وغيرها. المنطقة العربية كلها والمشرق العربي بشكل خاص يغليان على نار الضغوط الدولية والتدخلات الأجنبية والحماقات العربية، فالعراق يجلس على موقد الاحتلال الأجنبي والاحتراب الداخلي والطائفية المقيتة وبين الفرقاء العراقيين من يسعى لرضى بعض دول الجوار كإيران ويراعي مصالحها أكثر مما يسعى لرضى ومصالح شعبه وأمته، وفيهم من لم يرض بأن يكون أقليّة تشارك في الحكم بعد أن كان على طول التاريخ أكثرية وحاكماً، وعلى خارطة العراق النازفة التأم شمل الإرهابيين الجدد الذين جاءوا من كل حدب وصوب بحثا عن الجنّة -زعموا- فلم يجدوا قرابين يقدمونها لها سوى أبناء العراق المسلمين والأبرياء المدنيين يقتلونهم في الأسواق ويفجرونهم في الفنادق حتى وصل بهم الانحراف أن أخذوا يقتلون المسلمين في المساجد ودور العبادة بحثاً عن الجنة وتحت شعار الجهاد والبحث عن مرضاة الله، ويا حسرتاه على هذا الانطماس للعقل والجهل بالشرع وانعدام أبسط الأخلاق الإنسانية، هذا المشهد بحمولته الثقيلة يقف إلى شرق الأردن مباشرة ومن ورائه الجمهورية الإيرانية وطموحاتها في المنطقة التي حذّر منها بصراحة الملك عبدالله الثاني قبل فترة قصيرة، وإلى الشمال سوريا ولبنان والضغوط الدولية الجديدة وإعادة تشكيل المشهد السياسي ومراكز القوى في المنطقة، وإلى الغرب من الأردن تقف فلسطين والضفة الغربية والقدس والقضية العربية المركزية التي لم تحل بعد والتي يتوكأ عليها كل داع للعنتريات السياسية أو الجهاد الإسلامي ضد الصهاينة، والأردن معجون سياسيا واجتماعيا وتاريخيا بفلسطين وقضيتها، والأردن مع هذا كله يعيش تجربة فريدة من نوعها في العالم العربي في التعامل مع جماعات الإسلام السياسي، وهي تجربة تحتاج لكثير من الدراسة إلا أنها تبدو مثمرة وناجحة إلى حد ما حتى اليوم. وها نحن نرى اليوم كيف أن فئات من مجتمعاتنا قد احتبت على أرصفة الانتظار ترقب المجهول، وفئات هائمة بالرؤى وأضغاث الأحلام وحديث الشياطين وأحاديث آخر الزمان تردها وتصدر عنها بعيدا عن التخطيط والعمل والجد والاجتهاد، وفئات تسعى للموت جهدها -من أجل الموت فقط- لا لوجه الله ولا لتوهب لها الحياة فما عاد في الحياة ما يغريها، وعلى خلفية المشهد هاهي أناشيد النصر الكاذب تعزف ل«غزوة منهاتن» التي جرّت علينا كل بلاء، ترنم بها المنشدون في «كهوف تورا بورا» حتى هدمت الكهوف على رؤوسهم وهم ينتظرون تنزّل ملائكة النصر فلم ينزل عليهم إلا قنابل الطائرات الأمريكية، وغنى بها المعتقلون في «غوانتانامو» بعد أن عضّوا أصابع الندامة على الحماقات التي لم يعقبها إلا الويلات، وأشجى بها السجناء في «سجن أبي غريب»، ولسنا ندري ما القادم بعد هذا إن بقينا على نفس قصبات الطريق وقضبان القطار السائر عكس الاتجاه. في خلفية المشهد الإسلامي الأردني هناك عدد من المفردات الخاصة بالسياق الأردني فيما يتعلق بجماعات الإسلام السياسي وجماعات الجهاد وجماعات التكفير والهجرة، الأخوان المسلمون وتنظيمات القاعدة المتحالفة مع جماعات التكفير والهجرة، ومن رموز الأخيرتين أبو محمد المقدسي الأردني الذي يعتبر من أهم وأقدم منظّري تيار السلفية الجهادية الذي تتكئ جماعات العنف الديني العربية على تنظيراته وأفكاره وتنهل من كتبه وإنتاجه، وكذلك أبو قتادة الفلسطيني أو عمر محمود عمر الذي تزمع بريطانيا تسليمه للأردن ضمن صفقة أبرمتها مع السلطات الأردنية بعد تفجيرات لندن الأخيرة، وهو صاحب الفتوى المشهورة بقتل النساء والأطفال في الجزائر. الأخوان المسلمون منخرطون في المشهد السياسي الأردني عبر قنواته السلميّة يصارعون الحكومة تارة ويناطحون القصر أخرى، ولكنهم في النهاية لا يخرجون عن قضبان المسارات الديموقراطية ومؤسسات المجتمع المدني التي ارتضاها الأردن لنفسه منذ أمد، وليست المشكلة في هذا بالنسبة للإخوان الأردنيين لكن المشكلة في أفكارهم الثورية التي ينشرها ويعتمدها كمرجعية عدد من صقور الأخوان الأردنيين والتي تلقف الكثير منها رموز السلفية الجهادية وطوّروها وبنوا عليها أفعالهم التخريبية الآثمة، ولم يمارس هؤلاء الصقور مراجعة علنية لطروحاتهم وأفكارهم التي تغذي الإرهاب، بل على العكس يبدي البعض منهم مزايدة في التمسك بتلك الأفكار والتي تقف على رأسها مركزة فكرة «الحاكمية» كمنظور لقراءة المشهد السياسي العربي وإصدار الحكم عليه من زاوية الكفر والإيمان. الإرهابيون الجدد لن يرعبوا الأردن كما لم يرعبوا دولاً أخرى كانت مسرحا لعملياتهم الدموية وهذا ما أكده الملك عبدالله الثاني بكل وضوح، ولكن بقاء ما كان على ما كان لم يعد ممكناً اليوم والمشهد بحاجة لإعادة غربلة من جديد عسى أن يبقى الأردن كما كان دائماً واحة أمان في منطقة مضطربة.