يتصف «راشد الخلاوي» الذي عاش في القرن «الحادي عشر الهجري» بمواهب شخصية جعلته نابه الذكر بين معاصريه، وقد خلد التاريخ أخباره وأشعاره نظرا لأن الناس كانوا يتناقلونها صاغرا عن كابر، فقد عُرف عنه الصدق في القول، ومعرفته بعلم الفلك، واتقانه نظم الشعر، ولعل هذه الموهبة الأخيرة هي التي حفظت لنا أخباره، وقد ألف الأستاذ عبدالله بن خميس كتاباً جمع فيه أخبار الخلاوي ونوادره وأشعاره بعنوان: «راشد الخلاوي». وما يعنينا من أخباره هنا هو التعرف على المكان الذي خبأ فيه بندقيته عندما تقدم به السن وناء بحملها، يقول الأستاذ عبدالله بن خميس في صفحة 153 من هذا الكتاب ما نصه: «ومما يعرف عن الخلاوي من دقة الوصف، وتحديد الأماكن، ومعرفة معالم الجزيرة وأعلامها، انه كان لديه بندقية من نوع «الفتيل» عزيزة لديه ألفتها عينه ويده، ولما شعر بالثقل، وتدانت خطاه أحب أن يودعها «دحلا» من دحول الصمان يقال له «أبومروة» ضناً منه بها ومحبة في أن يهتدي ابنه اليها بالوصف وامتحان المعرفة، وإن لم يهتد إليها فأولى بها أن تفنى في دحلها من أن يحملها غيره أو أن يحملها ابن ليس في الحذق والذكاء وتسديد الرماية كأبيه. فقال واصفا معميا في بيتين هما: عن طلحة الجُودي تواقيم روحه عليها شمالي النور يغيب وعنها مهب الهيف رجم وفيضه وحروري إن كان الدليل نجيب ولما كبر ولده وبلغ مبلغ الرجال أخبرته أمه بوصف أبيه فعمد إليه واستخرج البندقية منه، وأدار نظره وفكره حول الدحل فوجد هنالك قريبا من فم الدحل مروة - كتلة حجرية صلبة بيضاء من الأمعز الصوان - فقال لو وصف والدي هذا الدحل بهذه المروة لكان وصفا منطقيا تماما، فلو قال: وترى دليله مروة فوق جاله خيمة شريف في مراح عزيب فكانت العصا من العصية، والشبل من ذاك الأسد) انتهى. عندما قرأت بيتي الخلاوي وثالثهما البيت الذي قاله ولده حينما تعرف على الدّحل واستخرج منه سلاح والده ارتسمت في ذهني صورة للمكان، هذه الصورة هي: دحل من دحول «الصمان» بالقرب منه كتلة حجرية بيضاء تشبه الخيمة وإلى الجنوب الغربي من هذا الدّحل رجم من الحجارة فوق مرتفع من الأرض، وبالقرب من هذا الرجم فيضة - وما أكثر الفياض في أرض الصمان - يزين هذه الوصرة عرق رمل أحمر سماه «الخلاوي» حروري. فياترى ما اسم هذا الدحل الذي خبأ فيه الخلاوي سلاحه؟ عندما علق الأستاذ عبدالله بن خميس على أبيات الشعر سمى لنا الدخل بأنه دحل «أبومروة» ولم أقتنع من هذا القول، لأن دحل أبي مروة يبعد عن «طلحة الجودي» قرابة مائة كيل، وهذه المسافة لا يقطعها الراكب الا في يوم وليلة اذا أغذ السير، بينما الخلاوي حدد لنا المسافة بين الطلحة وبين المكان الذي أخفى فيه سلاحه بمقدار روحة فقط - والروحة هي المسير وقت العصر إلى الليل، وهذه المسافة لا تتعدى بضعة عشر كيلاً. ولعل القارئ يسأل ويقول: ولكن أين مكان «طلحة الجودي»؟! فأقول: في العام الماضي 1425ه قمت برحلة للتعرف على مسار «درب الجودي» فأحببت أن أقف على هذه الطلحة المشهورة إن كانت باقية حتى الآن، وبما أن هذه الشجرة مذكورة في إحدى الخرائط فقد استخرجت احداثية مكانها من الخريطة، وعندما اجتزت رمال الدهناء وأنا أسير مع طريق الدمام السريع أخذت ذات اليسار باتجاه الشمال، وعندما وصلت للمكان المحدد لم أجد شجرة طلح هناك، خاصة وأن الأشجار الكبيرة يندر وجودها في هذا الحيز من أرض الصمان. وأثناء تجوالي في تلك الناحية شاهدت إبلاً ترعى فاتجهت إليها لأسأل الراعي عن الشجرة التي جئت من أجلها، ومن حسن الحظ أن صاحب الإبل كان موجودا عندها واسمه «ورقان بن مبخوت الدوسري» وبعد السلام عليه سألته عن «طلحة الجودي» وهل هي باقية حتى الآن؟ فقال: إنها ما زالت موجودة، فقلت: صف لي مكانها، وبعد أن وصف لي الطريق الموصل إليها، وهممت بالسير قال لي: الجو مغبر وأخشى ألا تصل إليها بسهولة ولذا سأذهب معك لا يقافك عليها، ومن أريحيته قال سأذهب بسيارتي حتى لا تضطر بارجاعي، وقد أوصلني إلى الشجرة فودعته شاكرا له تعاونه معي رغم مشاغله. وكان لي استراحة في ظل هذه الطلحة التي طالما استظل بها المسافرون على ظهور الإبل في طريق ذهابهم إلى الاحساء لجلب التمور أو العودة منه لكونها تقع على جادة الدرب المسمى بالجودي نظرا لمروره بمورد ماء «جودة» الذي أصبح في وقتنا الحاضر بلدة عامرة. انظر إلى صورة «طلحة الجودي» المنظر رقم (1) والتي يبدو من شكلها أنها في طريقها إلى الزوال، وقد يكون ساهم في حالتها المتردية عدم اكتفاء من يستظل بظلها وانما يستخدم من أغصانها وقودا لاصلاح قهوته أو طعامه، ويرى في الصورة عمود مسلح مطلي بالدهان الأبيض، هذا العمود هو أحد العلامات المعمولة مؤخرا على مسار درب الجودي القديم. وهذا الدرب يسلكه أهل العارض ونجد في سفرهم إلى جهات الاحساء وهناك طريق آخر يسمى «مزاليج» وهو الأقرب بالنسبة للرياض وما حوله، وقد ورد ذكر هذين الطريقين في قصيدة للشاغر «فيحان الرقاص» حيث قال متمنيا ان يسلك أحد هذين الطريقين في عودته إلى موطنه في نجد: هني من درهمت به فرخة الحرة معط مزاليج والا معط الجودي تقع طلحة الجودي على خط العرض 21 50 25 وخط الطول 27 59 47، أثناء استراحتي في ظل هذه الشجرة عقدت العزم على أن اتجه إلى الدخل الذي رشحته لأن يكون هو الذي أخفى فيه الخلاوي سلاحه، وهو دحل «الهدسي» لانطباق الوصف عليه من حيث المسافة، وقد استقيت احداثية هذا الدحل من الخريطة رقك (12 - 38G). وقد سمي في هذه الخريطة «بئر الهدسي» وهذه تسمية غير دقيقة لأنه لا يوجد في أرض الصمان آبار مياه، وإنما الموجود دحول وهي تجويفات خلقها الله في هذه الأرض الحجرية، ودحل الهدسي هو أحدها. وعند تحركي من طلحة الجودي هبت العواصف وتدنت الرؤية أكثر مما هي عليه فآثرت العودة إلى الرياض وزيارة الدحل في رحلة أخرى، وتمضي الأيام والأسابيع وزيارة هذه الدحل في ذهني. وفي مناسبة التقيت فيها بالأستاذ «عبدالعزيز بن عبدالرحمن الدعفس» وهو من عاشقي الصمان وفياضه ورياضه وبالأخص دحوله، فاختبرته عن موضوع بحثي هذا فقال: لقد سبق لي الوقوف على «دحل الهدسي» وأضاف: إن حدسك في مكانه، لأنه يوجد بجواره مثل الهضيبة الصغيرة لونها أبيض، وقوله هذا حرضني على المبادرة بزيارة هذا الدحل ومحاولة تطبيق جميع الأوصاف التي ذكرها الخلاوي وابنه في أبيات الشعر. وبتاريخ 28/1/1426ه قمت برحلة صحبني فيها الأستاذ سعد بن عبدالعزيز السالم، وقد سلكنا هذه المرة جادة «درب الجودي» مما يلي مدينة «رماح» ثم بلدة «المزيرع» (حفر بني سعد قديما) وكان الطريق واضح المعالم وعندما وصلنا «طلحة الجودي» اتجهنا شمالاً لنصل إلى «دحل الهدسي» وقد اتضح أنه من الدحول التي تورد في السابق بدليل حزوز ارشية الدلاء؛ حيث حفرت أخاديد في فوهة الدحل الحجرية كما هو واضح في الصورة. وهذا الدحل واقع على خط العرض 13 57 25 وخط الطول 5116 47 ومن الأدلة القوية التي تجعلني أقول: بأن هذا هو الدحل الذي خبأ فيه «الخلاوي» بندقيته، وجود كتلة حجرية بيضاء اللون تقع على بعد سبعين مترا فقط من فوهة الدحل، وهي عبارة عن حجر واحد وليست مروة كما قال ابن الخلاوي، وليست كما قال أستاذنا عبدالله بن خميس «من الأمعز الصوان» وانما هي حجر أبيض هش شبيه بحجارة أرض الصمان. ويبدو أنه أخذ هذا الوصف من قول ابن الخلاوي بانها مروة، وأخذه بهذا الوصف جعله يميل إلى أن الدحل هو «دحل أبومروة» انظر إلى شكل الدحل الصورتين رقم (2) وانظر إلى شكل الكتلة الحجرية الصورة رقم (3). من الدحل اتجهنا جنوبا مع ميل إلى الغرب قليلا لنحقق وصف الخلاوي عندما قال: وعنها مهب الهيف رجم وفيضة وحروري إن كان الدليل نجيب وعندما ابتعدنا عن الدحل كيلين واربعمائة متر شاهدنا الرجم على أحد المرتفعات، ومن ورائه وصلنا إلى «فيضة الهدسي» وهي تبعد عن الدجل قرابة أربعة أكيال. تقع هذه الفيضة الواسعة على خط العرض 05 55 25 وخط الطول 08 52 47. بعد أن تجولنا في أطراف الفيضة عدنا إلى الدحل، وكانت مصادفة عجيبة أن نجد إبلا ترعى بجوار الدحل لتتحقق الصورة التي تخيلها ابن الخلاوي حينما قال مستدركا على أبيه. وترى دليله مروة فوق جاله خيمة شريف في مراح عزيب أقول: إن هذه الكتلة الحجرية البيضاء تشبه بالفعل الخيمة، لا سيما مع انتشار الابل حولها كما هو ظاهر في الصورة رقم (4). فابن الخلاوي تخيل في وصفه، ولعلنا شاهدنا هذا التخيل واقعا ملموسا بوجود الابل حول هذه الصخرة البيضاء. ومما تقدم أقول: إن دحل الهدسي هو الدحل الذي عناه الخلاوي في شعره لانطباق الأوصاف التي ذكرها بما فيها رمل «عرق حروري» وليس هو دحل «أبومروة» كما قال أستاذنا عبدالله بن خميس، لأن الأوصاف التي ذكرت لا تنطبق على هذا الدحل الأخير لا من قريب ولا من بعيد. أملي أن أكون وفقت فيما حققته.