من الجميل المفيد طرح القضايا العلمية على صفحات الجرائد لتمد القارئ بالفائدة وتهيج همم الباحثين للإدلاء بما عندهم حول المطروح ومناقشته، يكون حصاده خدمة تراث بلادنا وجمع شتاته، ويكون هذا الطرح نزيه من الانتصار للرأي أو التقليل من شأن الآخرين، فباب البحث والنقاش سيبقى مفتوحا للجميع، وسيأتي من بعدنا باحثون يكتشفون ما غاب عنا فقد يتهيأ لهم مخطوطات وكتب أو أجهزة متقدمة لم تتح لمن قبلهم مثل ما أتيح الآن لنا من أجهزة GPS أو خرائط رقمية أو تصوير فضائي للأرض. طالعتنا صحيفة الجزيرة في عددها رقم 14017 بتاريخ 10-3-1432ه على صفحة الوراق بمقال للأستاذ عبدالله الضراب تحت عنوان (إرواء الظامئ من دحل خريشيم المسمى حالياً بالهشامي) وهو تعقيب على رأي الأستاذ الشيخ عبدالله الشايع بما كتبه عن دحل خريشيم وقد رجح الشايع في نتاج بحثه أنه ما يسمى الآن دحل عزاري هو دحل خريشيف، ولكن الأستاذ الضراب يخالفه بأن دحل خريشيف هو ما يسمى الآن دحل الهشامي. شكر الله لهما الجهد والاهتمام وقد سبق لي دراسة هذا الموضوع وبحثت عن موقع الدحل في رحلات ميدانية كثيرة، ولمزيد من الإيضاح سوف نأتي بأقوال من ذكروا هذا الدحل وكلامهم عنه ومن أبرزهم الحسن بن عبدالله الأصفهاني صاحب كتاب ((بلاد العرب)) حيث قال: (الصُّبَيْغَاءُ وهي بَرقَاءُ بِمُنْقَطَع الدهناء، إذا جُزْتَ الصُّبَيْغَاءَ وَقَعَتْ في أبْرَقٍ يقال له الٌقنْفُذ والأبْرَقُ رَمْلٌ مختلطٌ بآكام ثم إذا جُزْتَ القُنْفَذَ اسْتَقْبَلْتَ أول الصَّمَّان. وعَنْ يسارك قبل ذلك الزُّرق التي ذكرهُنَّ ذو الرَّمة، وهي أجارع من الرمل، وهي من أرض سَعْدٍ، من الدَّهْنَاءِ.فأول ما تستقبلُ مِنَ الصَّمَّان حين تَدْخُلُهُ دَحْلٌ على الطريق يقال له خُرَيْشيم). وعلق على ذلك الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - في ((المعجم الجغرافي)): (أن دحل خريشيم لا يزال معروفاً ولكن بإبدال الميم فاء (خريشيف) ودحل خريشيف يقع بين قرية شوية وبين حزوا يريان منه وهو الآن لا يورد كغيره من الدحال التي تركت بعد استنباط مياه الآبار الارتوازية في تلك الجهات). أما الحموي صاحب ((معجم البلدان)) فقد اختصر الكلام بما ذكره الحفصي فقال: (خريشيم: قال الحفصي وبالصمان، دحل يقال له دحل خريشيم). وقام الأستاذ عبدالله الشايع ببحث مطول عن دحل خريشيف اجتهد فيه ودونه في كتابه ((الطريق التجاري من حجر اليمامة إلى البصرة)) ومن استنتاجاته قال: (أما خريشيف الذي قال شيخنا حمد الجاسر رحمه الله إنه دحل خريشيم فيقع شمالاً من القرية غير بعيد وهذا ينفي أن يكون أول دحل يرده من يسلك الطريق الذي نتتبع مساره. من نتائج الرحلتين الأولى والثانية اتضح لي أني سلكت جهة غير الجهة التي سارت معها جادة الطريق من حجر إلى البصرة وذلك لأمور منها: 1 - أصبح دحل خريشيف ليس هو دحل خريشيم الوارد ذكره في وصف الطريق. 2 - عدم استمرار أعلام الطريق في هذا الاتجاه. 3 - لا وجود لرمل يصدق عليه أن نقول إنه رمل المعا وهو الموضع الذي ورد ذكره بعد دحل خريشيم لاسيما وقد قطعت أرض الصمان والصلب من هذا الجانب حتى وصلت إلى جو وبرة قرب مدينة قرية). إلى أن قال الأستاذ الشايع في نهاية بحثه: (إن دحل (عزاري) هو دحل (خريشيم) وقد استبعد أن يكون دحل خريشيف هو دحل (خريشيم) كما حدده حمد الجاسر) رحمه الله انتهى. وقد قمت برحلات متتالية للبحث عن الحقيقة المفقودة في عدة سنين أثناء جمعي مادة كتاب ((الصمان)) وكنت أطرح سؤالي على كبار السن من أهل المنطقة حتى وقفت على موضع يسمى خريشيف وهو يختلف عن الذي ذكره الشايع دحل (عزاري) ويبعد عن خريشيف جهة الشمال بما يقارب الكيلين أما الدحل الذي قال عنه الشايع إنه خريشيم (دحل عزاري) فهو جنوباً من عرق حزوى. وأحب أن أوضح أن بالصمان دحلين بنفس المسمى أحدهم جنوبا في صلب الحني والآخر وقد أسميته (دحل عزاري صلب الحني) والآخر الذي نحن بصدده (دحل عزاري مبعر) نسبة إلى جو مبعر القريب منه وذلك للتفريق بين الدحلين، ومعنى كلمة عزاري: هي مضاعفة الجهد والتعب الذي يلقاه جالب الماء من الدحل. وكان بحثي هذا قديما قبل أن يصدر الأستاذ الشايع كتابه ((الطريق التجاري من حجر اليمامة إلى البصرة)) وقد وقفت على دحل خريشيف يرافقني الشيخ - سالم بن مناور السبيعي وهو من أهل المنطقة وأكد لي أنه كان دحل قد دحله برفقة والده وبعد أن اندفن الدحل بقى مكانه منخفض تجتمع فيه السيول يسميه أهل البادية الآن بربك خريشيف. وأرجح أن هذا المكان هو دحل خريشيف الذي ذكره الحفصي والحموي وغيرهم، وللعلم أن هناك دحال كثيرة بالصمان تنغلق بفعل سوافي الرمال وتنفتح بعد عدة سنين بفعل السيول. أما الآن فالموقع كما في الصورة عبارة عن منخفض يلزم الماء يرده أهل البادية وقد تحدثت عن وصفه في موقعه من كتاب ((الصمان)). ولم أكتفِ بذلك بل جعلت دحل خريشيف في جدول أعمال البحث لعلي أجد عنه معلومات أكثر. ومن كبار السن الذين قابلتهم من أهل المنطقة الشيخ - سعد بن شحيني السبيعي. وذكر لي أنه قد دخل هذا الدحل قبل أن ينغلق ولم يستطع ورود الماء لوجود ثعبان بالدحل أنقذه الله من عضته وتجد قصته مع الثعبان ولوضع النقاط على الحروف كما يقال سوف أورد كلام الشيخ سعد كما تكلم بها لي في مقابلة معه في أرض الصمان قال: (لقد دحلت خريشيف قبل أن ينغلق ونحن قادمون من عوينة كنهر ومعي ماجد بن شارع السبيعي، وكنا قاصدين قلمة الشملول وقد وجدنا الماكينة متعطلة ولم نستطع الحصول على الماء. كان وقتنا العصر ثم ذهبنا إلى دحل خريشيف وقد وصلناه وقت غروب الشمس. وللدحل شوحة طويلة قدرها أربع قامات قمت بالنزول في الدحل وطلبت من صاحبي أن يعطني القرب الفارغة، ثم زحفت في الدحل على بطني، وكان الدحل مظلم جدا وكنت أتلمس بيدي جال الدحل بحثا عن مداخله التي لا أراها. وأثناء ذلك لمست بيدي شيء بارد أملس وإذا بصرخة قوية لجلجت في داخل الدحل وعرفت أنه ثعبان صرخ عندما لمسته ولكنه لم يؤذيني ولم أتحرك من مكاني وأحسست به يبتعد عني !. ناداني صاحبي ما هذا الصوت فقلت له: لاشيء فطلبت منه أن يعطيني حزمة من العرفج لأضيء بها الدحل وأعرف أين ذهب الثعبان حتى لا أطؤه بقدمي. ولكن صاحبي رفض بعد أن أخبرته أن الصرخة التي سمعها من الثعبان وقال لي: اترك الداب ودحله وتحقيقا لرغبة صاحبي خرجت من الدحل دون أن أرد الماء. وقد سمع بعض الناس بقصة الثعبان فذهبوا وأحرقوا النار عليه بالدحل حتى خرج وقتلوه ببندقية معهم. والآن انغلق الدحل وأصبح مكانه مهبطا تستقر به مياه السيول وقد قام أحد المحسنين من أهل المنطقة بتعقيم موقع الدحل بحاجز ترابي لتحوي أرضه مزيدا من الماء بعد جريان السيول)... انتهى كلام الشيخ سعد وهو يضيف تأكيده على تأكيد كلام الشيخ - سالم بن مناور السبيعي. الصمان يفقد أسماء معالمه التاريخية أما بالنسبة إلى تحريف المسمى الدحل من (خريشيم) إلى (خريشيف) فهذا طبيعي جدا فهناك بالصمان أكثر من 83 معلما ضاعت أسماؤها الأصلية واستبدلت بمسميات حديثة غير مسمياتها التاريخية، وحصل هذا بسبب ما نزل في هذه الصحراء من عدة قبائل على مرور السنين. فلعل طرحنا هذا يوضح للقراء والباحثين ما احتاروا فيه حول تحديد موقع دحل خريشيم وأن الدحل موجود في موقع بربك خريشيف ولكنه الآن منغلق الفوهة. وأحب أن أشير إلى أن هذه المنطقة تكثر فيها الدحال والخرائق وكانت قديما تسمى الخلصاء وقد ذكرها الأزهري في ((تهذيب اللغة)) وذكر أنها ذات دحال كثيرة قال: (وقد رأيتُ بالخلصاء ونواحي الدَّهناء دُحلاناً كثيرة، وقد دخلت غير دَحلٍ منها، وهي خلائقُ خلقها الله تحت الأرض يذهب الدَّحْلُ منها سَكاًّ في الأرض قامةً أو قامتين أو أكثر من ذلك، ثم يتجلف يمينا أو شمالا، فمرةً يضيقُ ومرّةً يتسع في صفاةٍ ملساء لا تحيكُ فيها المعاول المحددة لصلابتها، وقد دخلتُ منها دَحْلاً، فلما انتهيت إلى الماء إذا جوٌ من الماء الراكد فيه لم أقف على سعته وعمقه وكثرته لظلام الدَّحْلِ تحت الأرض، فاستقَيْتُ أَنا مع أصَحَابي من مائه وإذا هو عذبٌ زلال، لأنه ماء السماء يسلُ إليه من فوق ويجْتَمِعُ فيه). ويعتبر الأزهري أبو منصور أجود من تحدث عن الصمان حيث أقام بها شتوتين ودون بعض من مشاهداته في كتابه ((تهذيب اللغة)). ويذكر شاعر الصمان ذو الرمة الخلصاء كثيرا في شعره حيث إنها ديار قومه قال: فودعن أقواع الشماليل بعدما ذوى بقلها أحرارها وذكورها وَلَم يَبقَ بِالخَلصاءِ مِمّا عَنَت بِهِ مِن الرَطبِ إِلا يَبسُها وَهَجيرُها الشماليل هي: الرمال المتقطعة على الأرض وقد حرف مسماها الآن ب الشملول الذي تقع فيه بلدة معقلة. ما هي الدحول وما يستفاد منها؟ كلمة الدحل فصيحة لا زالت مستخدمة حتى عصرنا الحاضر جمعها دحال أو دحول، وتسمى أيضا الخلائق لأنها من خليقة الله، ضدها المصانع وهي التي يحدثها الإنسان كالآبار المحفورة، والدحول مغارات وسراديب تحت الأرض بعضها لا يعلم مداها غير الله وكانت قديما تستخدم للسقيا عند الضرورة وذلك لصعوبة جلب الماء منها وخطورة الضياع في دهاليزها المظلمة وهناك قصص كثيرة مخيفة حصلت في العصر الماضي لأناس تاهوا وماتوا فيها لايسع لنا المجال هنا لذكرها وقد رصدت الكثير منها في الجزأين الثالث والرابع من كتاب ((الصمان)) وتقع الدحال تحت قشرة الأرض على هيئة مغارات تشكلت بفعل ذوبان التربة الهشة التي بين الصخور الصلبة وجرفتها مياه السيول حتى تكونت مغارات كالشقوق قد تذهب في الأرض إلى عدة كيلومترات، ومنها ما يكون عاموديا ومنها ماهو كالكهوف، وعلى طول السنين توسعت هذه المجاري لتصبح كالأنفاق تتسع وتضيق وتلتوي في باطن الأرض مكونة سراديب طويلة في باطن الأرض فيها قلات ممسكات للماء يردها الناس. وعلى مداخل هذه الدحول تنمو الأشجار وربما يعيش في بعضها من خشاش الأرض من ثعابين وخفافيش وحشرات، وتكون ملاذا آمنا لبعض الحيوانات البرية. ويتدلى في أسقف الدحول مساقط أعمدة كلسية ناتجة من نضح الماء وتسربه من سطح الأرض إلى باطنها وهذه الأعمدة أشبه بمساقط الماء المتجمدة. وقد أخبرني أحد كبار السن الذين كانوا يدخلون هذه الدحول أنهم يقومون بتكسير هذه الأعمدة لكي لاترتطم وجوههم بها لأن داخل الدحل مظلم جدا. قال جرير يصف ظلمة الدحل: بِالدَحلِ كُلَّ ظَلامٍ لا تَزالُ لَهُ حَشرَجَةٌ أَو سَحيلٌ بَعدَ تَدويمِ وتكثر الدحال في منطقة الصلب بالصمان حتى أنه قد يصل عددها المنتشرة في منطقة الصلب بالآلاف إلا أن المسمى منها ما كان يستخدم للسقيا لايتجاوز عددها مائة دحل مسمى. من أسماء دحال الصمان: دحل أبو حرملة، دحل العيطلي، دحل النضو، دحل مطار، دحل فتاخ، دحل فتيخ، دحل الفري، دحل أبو جنب، دحل أبو سوادة، دحل سريويل، دحول عزاري، دحل الغبي، دحل أم مقام، دحل مشيقيق، دحل ابالخران... وغيرها من الدحال المنتشرة على هضبة الصمان، وبعد حفر الآبار الارتوازية واهتمام الدولة بسقيا البادية لم يعد لهذه الدحول أهمية من ناحية السقيا. الدحول والسياحة البرية وإن هذه الظاهرة الجغرافية الطبيعية تبشر لنمو السياحة الصحراوية في منطقة الصمان لما تحويه أرضها من أعداد هائلة من هذه الشقوق وربما وجد في باطن الأرض ما يشبه مغارات جعيتا في لبنان. SHBANAT @ YAHOO.COM